موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
شهدت الجامعة الامريكية في مادبا يوم الاثنين الماضي (20/10/2025) احتفالية مهمة أحيت الذكرى الستين لصدور واحدة من أهم الوثائق التي صدرت عن المجمع الفاتيكاني في ختام أعماله في روما عام ألف وتسعمئة وخمسة وستين وهي الوثيقة المعنونة "في عصرنا" التي اعتبرت حجر الأساس للحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والأديان غير المسيحية وبصورة خاصة ما يعنينا هنا الحوار بين الكنيسة والإسلام.
على مدى ألف وأربعمئة سنة وأكثر لم يكن الحوار غائبا ولكنه كان يتخذ أشكالا مختلفة إنما كان بعيدا عن الحوار المنهجي المنتظم الذي يؤدي إلى نتائج ملموسة. منذ صدور تلك الوثيقة التي فتحت الآفاق واسعة أمام الحوار بين الأديان وتعزيز التفاهم المتبادل بينها بدأ العالم يلتفت إلى ضرورة أن يكون الحوار منظما لكي تكون نتائجه إيجابية وذات مفعول مثمر.
في احتفالية مادبا التي نظمها المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في حرم الجامعة الأميركية في مادبا برعاية الكاردينال بيير باتيستا بيتسبالا بطريرك القدس للاتين، وهو كذلك عضو دائرة الحوار بين الأديان في الفاتيكان، جاءت مساهمات المشاركين في الحديث لتؤكد على أهمية هذه الذكرى في تنشئة أجيال جديدة، تعزز نهج الحوار وثقافة السلام قدوتها في ذلك القيادة الهاشمية التي تتقدم الجميع في ريادة الحوار والعيش المشترك.
فالحوار ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة لحياة الشعوب واستقرارها وترسيخ لثقافة اللقاء في التعليم والمؤسسات الدينية في مواجهة الانقسامات والصراعات والتحديات، وفق ما قاله الكاردينال بيتسابالا.
أما إمام الحضرة الهاشمية الدكتور احمد الخلايلة فكانت دعوته إلى التواصل الإنساني واحترام الآخر، مشددًا على أن الإيمان لا يعني تطابق المعتقدات بل الإيمان بحق الآخر في أن يعتقد لأنّ الله خلق الناس مختلفين والظلم والإقصاء يفسد التوازن الإلهي في العلاقات بين البشر.
الأصل في العلاقات الإنسانية السلم والمودة والعدل والإحسان، وينتج عن هذه المعادلة عيش مشترك بين جميع مكونات الوطن ونحن في الأردن أرض الحوار والمحبة نموذج لهذا العيش.
ولا بد في هذا السياق من الحديث عن الوثيقة الفاتيكانية ذات الأهمية البالغة التي تناولت العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والأديان الأخرى، التي أكدت على احترام الكنيسة للمسلمين وعقائدهم وكتابهم وتقديرها لهم والتزامها بالحوار معهم لأجل مصلحة الإنسان بالدرجة الأولى. وقد أوضحت الوثيقة الطريقة التي ينظر بها الفاتيكان إلى تعاليم الإسلام ومبادئه العقائدية. ففي هذه الوثيقة أرست الكنيسة ملامح العلاقة مع الأديان الأخرى وجاء فيها بصورة عامة "أن الشعوب كلها جماعة واحدة اصلها واحد اسكنها الله وجه الأرض كلها وتتجه نحو غاية واحدة قصوى هي الله الذي يشمل الكل بعنايته وبآيات لطفه".
وفيما يخص الإسلام نصت الوثيقة على ما يلي: "تنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضا الى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكلّ خالق السماء والأرض المكلّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكلّيتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي. وإنهم يجلّون يسوع كنبيّ وان لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك أنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كلّ البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية ويؤدّون العبادة لله لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم".
وتضيف الوثيقة المنشورة على موقع الفاتيكان ضمن وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني الرسمية: "وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص الى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعية والخيارات الأخلاقية والسلام والحرّية لفائدة جميع الناس".
وقبيل هذه الوثيقة وخلال انعقاد المجمع في شهر نوفمبر 1964 صدر دستور مجمعي وقعه البابا بولس السادس بعنوان "نور الأمم" وجاء في فقرته رقم 16: "... لأن مواهب الله ودعوته هي بلا ندامة ... ولكن تصميم الخلاص إنما يشمل الذين يعترفون بالخالق، ومن بينهم أولاً المسلمون الذين يقرون أن لهم إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الاله الواحد الرحيم، الذي سيدين البشر في اليوم الأخير".
ويمكن القول أن الفضل بصورة عامة يعود إلى البابا بولس السادس في إحياء الحوار وإقامة هذه العلاقة الإيجابية بين الكنيسة والإسلام. ويمكن أيضا ملاحظة أنه أسس في الفاتيكان عام ألف وتسعمئة وأربعة وستين وبعد أشهر قليلة من زيارته التاريخية للأردن وفلسطين أسس دائرة الأمانة العامة لغير المسيحيين التي تعنى بالحوار مع العالم غير المسيحي. وفي العام ألف وتسعمئة وثمانية وثمانين أعيد تسمية الدائرة لتصبح المجلس البابوي للحوار بين الأديان. وفي عهد البابا فرنسيس تم تسمية جميع المكاتب الفاتيكانية بالداوئر، فاصبحت دائرة الحوار بين الأديان.
ربما كانت أغلبية كبيرة من مواطني الشرق الأوسط من مسلمين ومسيحيين لا يعرفون شيئا أو لا يعرفون الكثير عن وثيقة "في عصرنا"، وهي منذ صدورها لم تحظ بالدراسة الوافية من قبل شعوب المنطقة، ولا حتى من مفكريها ومثقفيها. ومن هنا كانت أهمية هذه الندوة التي أقامها المركز الكاثوليكي للتعريف بهذه الوثيقة وإحياء الاهتمام بها.
وإذا ما جئنا الآن إلى الحوار نفسه بين اتباع الأديان وبصورة خاصة اتباع المسيحية واتباع الإسلام، فإن الحوار المطلوب يجب أن يؤدي إلى مخرجات عملية في الإعلام والمناهج التعليمية والقوانين. وعندما يجتمع المفكرون والاكاديميون بعيدا عن الجدالات ويتصافحون ويتبادلون الآراء معترفين بحق الاختلاف بينهم، لا نجد هذه الروح متجسدة في كتب المناهج أو الإعلام بكافة صوره، ليسمح لكل مواطن أن يتعرف على الآخرين في بلده ووطنه.
اللقاء والحوار ليس ترفًا بل ضرورة حيوية حسبما قال الكاردينال بيتسابالا، في احتفالية اليوبيل الماسي للوثيقة الفاتيكانية. الحوار ضروري لمساعدة جميع المجتمعات "ليس للتسامح بعضها مع بعض بل للإصغاء معا إلى دعوة الله لنا جميعا لخدمته".
ليس المطلوب من الحوار الخوض في المسائل اللاهوتية المعقدة التي تشكل قضايا خلافية بين اتباع الديانتين. الأهم أن يتناول الحوار الاهتمامات المشتركة في ضوء الإنسانية المشتركة. فأفضل حوار هو الالتقاء على ما يجمع وليس البحث عما يفرّق. وهناك الكثير من المجالات التي يمكن أن نلتقي فيها ونعمل على إعلاء شأنها. فكثير من القيم الإنسانية والاجتماعية وخصوصا في الشرق مشتركة بين الجانبين. وهي بحاجة إلى تعظيم وتعزيز في المجتمع لتسخيرها في خدمة الإنسان ولمصلحته.
الحوار مطلوب وضروري لكي يعيش العالم في سلام وأمان ولكي لا تستخدم الأديان في التحريض على العنف. لأن العنف أمر مناف لطبيعة الله وهو بالضرورة مناف لجوهر الأديان. وكثير من الحوارات السابقة لم تنجز شيئا إذ تحولت إلى تراشق وتضخيم للفوارق بدلا من البحث عن القواسم المشتركة لتعظيمها وتعزيزها.
ولكي نعيش الحوار، لا يجوز أن نبقى أسرى أنفسنا فلا نسمع عن الآخر، إلا ما نود أن نسمعه أو ما يرضينا سماعه. ولأجل نجاح الحوار لا بد من التحرّر من الأحكام المسبقة أو التصوّرات الجاهزة عن الآخرين التي يتناقلها الرأي الشعبي. ولا بد من التعلم من الآخر والآخر هو كل إنسان. فليس الهدف من الحوار هو تبشير الآخر أن يؤمن بما نؤمن به ، ولا أن نشككه فيما يؤمن به بل الهدف هو تنمية وتعميق فلسفة اللقاء والاحترام كل لحق الآخر في أن يكون مختلفا.
أحيانا كما يقول المطران جورج خضر مطران جبل لبنان، تكون مشكلة البشر "أن الواحد منهم يخلق الإنسان الآخر على هواه" فلا يفهم الإنسان أخاه الإنسان كما هو معترفا بحقه أن يكون مختلفا، فتكون الأحكام السطحية والتعميم والمعرفة المنقوصة مانعة للمرء من معرفة أخيه الإنسان.
ولذلك فإن موجبات الحوار تتمحور حول الإنسان الذي كرّمه الله، وهدف الحوار هو خلق مجال أوسع للإنسان لكي يعيش في حرية وكرامة ويعزّز العدالة الاجتماعية. ولا بدّ للعلاقات المتبادلة أن تكون مبنية على الاحترام المتبادل وحرية الضمير من أجل بناء الجسور بين الجانبين.
فالحوار يتطلب الوضوح بحيث يكون ما يقال مفهوما ومترافقا مع الوداعة وليس الكبرياء. كذلك يتطلب الحوار الثقة المتمثلة بالنوايا الحسنة للطرفين ومراعاة كل طرف لظروف الطرف الآخر.
في مقال غني بعنوان "كلام في الحوار: روحه وأدبه وفنه" منشور في جريدة الحياة اللندنية في الخامس من تشرين أول عام ألفين وستة، يرى الأمير الحسن بن طلال وهو رائد الحوار بين الأديان والثقافات "إنّ تحقيق الاحترام المتبادل بين اتباع الديانات والثقافات يقتضي وجود معاملة أفكار الآخرين واعتقاداتهم بالاحترام نفسه الذي نريد منهم أن يعاملوا به أفكارنا واعتقاداتنا".
وإذا ما كان الهدف من الحوار أن يؤدي إلى تعايش سلمي وعيش مشترك، فإنّ ما يجب أن يسبق الحوار أو يرافقه هو التعارف بين اتباع الديانات. والتعارف والمعرفة كل بالآخر يجب أن تبدأ من المصادر الأصلية والمراجع المعتمدة في كل جانب. ولا بدّ أن تتم قراءة النصوص وفق سياقاتها وليس في ضوء ما لحقها من أحداث، فنفسرها بناء على تصرفات اتباعها التي جاءت بعد مئات السنوات من ظهورها. فهذا وفق ما يقول المطران جورج خضر "ظلم للتاريخ وظلم للنص وظلم للاتباع وظلم للإنسان".
من المفارقات في هذا الشرق أن هناك فجوة معرفية كبيرة ، من جانب كل طرف تجاه الجانب الآخر. فالجانبان لا يعرفان الكثير عن بعضهما البعض فهل هي لامبالاة معرفية لدى كل جانب تجاه الآخر؟ لماذا يكتفي المسلم بمعرفة ما يقوله بعض الشيوخ عن المسيحية، ولا يبحث في الأصول المسيحية نفسها؟ لا يمكن للمسلم أن يتعرف على العقيدة المسيحية من خارج مصادرها الحقيقية، وكذلك ليس للمسيحي أن يتعرف على العقيدة الإسلامية من خارج مصادرها الأصلية.
وكما يقول الأمير الحسن في المقال المذكور، لا بد أن ترتكز معرفة الآخر على دراسة تراثه وثقافته استنادا إلى المعلومات المتاحة بكل حرية، ولا يجوز التعامل مع المعلومات بانتقائية تؤدي إلى إساءة فهم الآخر وثقافته ودينه وتقوّض المحاولات الجادة من أجل تأكيد نقاط الالتقاء بين الديانات والثقافات.
لماذا لا توجد في العالم العربي مراكز أبحاث تدرس المسيحية والمسيحيين، مثلما يوجد في الغرب مراكز بحثية تدرس الإسلام والمسلمين؟ هناك في بعض الجامعات مساقات بعنوان أديان مقارنة أو مقارنة أديان، تدرس المسيحية من وجهة نظر إسلامية وهذا لا يسمى علم مقارنة أديان، ولا يؤدي إلى نتائج عملية بل يُبقي الدارس يدور في الحلقة نفسها.
يرى الدكتور وهيب الشاعر في كتابه: هل يرحل المسيحيون العرب: "لم تأت المسيحية والإسلام من بعدها إلى العالم العربي من خارجه، بل ولدتا في كنف المجتمع العربي ولذا يشترك المسلمون والمسيحيون العرب في هوية عربية واحدة". فالعرب المسيحيون ليسوا أغرابا في أوطانهم وليسوا طارئين عليها، فهم اشتركوا في صناعة التاريخ العربي القديم والحديث، واسهموا في حضارة أمتهم منذ البداية وبدون أي انقطاع. وبناء على هذا فالحوار الإسلامي المسيحي في العالم العربي وبشكل خاص في المشرق العربي، حيث الدين حاضر في كل المجالات، سيكون حوارا سهلا وناجحا إذا سلمت النوايا والمقاصد.
من الضروري أن يتفق الجميع على ضرورة العمل معا لبناء مجتمع حر وتقدمي، يدافع عن قدسية الحياة وحرية الضمير وكرامة الإنسان والعدالة والبيئة النظيفة. ومع ذلك لا يزال هناك الكثير من العمل المطلوب لكي تزداد الثمار وتزدهر النتائج الإيجابية للحوار. ولا بد من التخلي عن التعصب والانفعال والاحتقان، ونجاح الحوار يحتاج إلى صوت العقل والعقلاء وتغليب لغة الحوار الهادف.
وإذا اردنا نجاح الحوار المثمر البناء فلا بد من تقبل التعددية والاعتراف بحق الآخرين، في أن يكونوا مختلفين، وقد جعل الله لكل أمة طريقها إليه ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة فالعالم يتسع للجميع.