موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تمر هذه الأيام ستة عقود على صدور الإعلان المجمعي الشهير «Nostra Aetate» أو «في حاضرات أيامنا»، والذي أعلنه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965) في الفاتيكان، مؤذناً بفجر جديد للعلاقات بين أتباع الأديان التوحيدية، وبداية مسيرة تصالحية مع النواميس الوضعية.
جاءت هذه الوثيقة ممثلة لاتجاه فكري وروحي مثّل الخروج من دائرة استبعاد الآخر والدخول من ثم في دينامية الاعتراف بوجود «شعاع من الحقيقة ينير كل البشر»، وبمعنى آخر الانعتاق من فكرة حيازة جماعة بشرية بعينها لما يعرف بـ«الحقيقة المطلقة»؛ فالكل لديه قبس من نور إلهي كفيل بأن ينير خطاه عبر رحلة الحياة على الأرض.
تقر وثيقة «في حاضرات أيامنا» في توطئتها أن كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد؛ لأن الله تعالى هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلها، ولهم غاية أخيرة واحدة، وهي الخالق جلّ اسمه، الذي يشمل الجميع بعنايته.
تتجاوز دعوة الوثيقة فكرة الحوار النظري المجرد؛ إذ تفتح أعين أصحاب التوحيد على الأسئلة الجوهرية التي لا يزال الإنسان معها سائراً حائراً، فالبشر من مختلف الملل والنحل ينتظرون إجابات عن الألغاز الخفية التي لا تزال تشغل عقولهم، ويسعون معاً في مواجهة ومجابهة نوازل الحياة المعاصرة.
يعتبر السفير أنطونيو دي ألميدا، الأمين العام المكلف لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، أن الكنيسة الكاثوليكية فتحت باباً غير مسبوق للحوار بين أتباع الأديان، معترفة بالحقيقة والقداسة الموجودة في الأديان الأخرى، وداعية إلى التفاهم المتبادل، والاحترام والتعاون. ومن خلال تأكيدها على الإرث الروحي المشترك مع اليهودية، واعترافها بالإسلام والمسلمين كعباد لله الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، عطفاً على فتح مساقات مع البوذية والهندوسية، وغيرهما من الديانات العالمية، شكّلت «في حاضرات أيامنا» علامة فارقة في تعزيز المصالحة وتجاوز قرون من التحيز.
هل لا يزال لهذه الوثيقة، بعد ستة عقود، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات والتطورات الجيوسياسية، عطفاً على تحول العالم في اتجاه عولمي؛ هل لا يزال لها أهمية، أو تشكل فاعلية ديناميكية في مسيرة الإنسانية؟
بحسب السفير ألميدا، تواصل «نوسترا أيتاتي» إلهام جهود الحوار الملموسة، ومنها على سبيل المثال أن العام المقبل سوف يشهد الذكرى العاشرة للمجلس الإسلامي - اليهودي (MJLC) المدعوم من «كايسيد»، وهو ما يمثل فرصة مهمة لتعزيز الحوار بين المسلمين واليهود في أوروبا؛ القارة التي لا تزال معاداة السامية وكراهية المسلمين فيها تشكلان تهديداً متزايداً للتماسك الاجتماعي والتعايش السلمي.
كانت الوثيقة المجمعية هذه نتاج جهد عمل كبير لفريق من مفكري الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لا سيما أولئك الذين اقتربوا بشكل كبير من العالمين العربي والإسلامي، وفي المقدمة منهم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، عطفاً على العلّامة المصري جورج قنواتي.
يلحظ المرء، قبل كل شيء، أن البابا بولس السادس الذي صدر الإعلان المجمعي في عصره، في رسالته العامة «Ecclessiam Suam» قد حدد أهم ملامح الحوار الذي ترغب فيه المؤسسة الكاثوليكية عبر العقود المقبلة، وفي المقدمة منها الوضوح قبل أي شيء آخر؛ فالحوار يتطلب أن يكون ما يقال مفهوماً.
في جوهرها، والحديث للسفير أنطونيو دي ألميدا، تؤطر الوثيقة للحوار بين أتباع الأديان، لا كخيار فحسب، بل كأداة ضرورية لتعزيز العدالة الاجتماعية والسلام وتجاوز الانقسامات. وهذا يتوافق تماماً مع مهمة «كايسيد»؛ ذلك المركز التنويري الخلّاق الذي أُسس عام 2012 كمبادرة للحوار بين أتباع الأديان برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - وطيِّب الذكر البابا بنديكتوس السادس عشر، لتعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ومكافحة سوء استخدام الدين لتبرير العنف والقمع، ولهذا السبب شارك «كايسيد» بفاعلية في مؤتمر «استشراف المستقبل: إعادة تقييم (نوسترا أيتاتي) اليوم»، الذي نظمته الجامعة الغريغورية الحبرية في روما خلال الفترة من 27 إلى 29 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم.
يحتاج الحديث عن الوثيقة وتفاصيلها الكثير من القراءات المعمقة، غير أن أنفع وأرفع ما يقال عنها هو أنها ليست مجرد أثر من الماضي، بل دعوة حية مستقبلية للعمل على تجسير الفجوات، وتعزيز التعاطف، وبناء عالم يكون فيه الإيمان قوة للعدالة، والرحمة، والإنسانية المشتركة.
(الشرق الأوسط)