موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأب إبراهيم فلتس الفرنسيسكاني، من حراسة الأراضي المقدسة
يقترب عيد الميلاد المجيد، ومسيرة زمن المجيء تهيّئنا لاستقبال ذاك الذي يأتي حاملًا السلام.
في الأرض المقدّسة، يسود توقٌ عميق إلى السلام، فيما يطرح السعي إلى تحقيقه أسئلة مصيرية تبحث عن أجوبة.
منذ سنوات، ولا سيما منذ السابع من اكتوبر، لم نتوقّف عن الحديث والكتابة عن عنفٍ يولّد الموت والدمار، وعن انتقامٍ لا يحصد سوى الكراهية والألم. ويبدو أنّنا عالقون في حلقة مفرغة تتغلّب فيها أحلك جوانب الإنسانية، مسارٌ مسدود أمام التضامن والتفاهم، وعاجز عن كسر سلسلة الشرّ التي لا تنتج إلا المزيد من الشر.
وتكشف التقارير الإخبارية والصور الواردة من غزة وغيرها من الأراضي التي مزقتها الحرب عن حجم المعاناة الجسدية والمعنوية التي تطال أعدادًا لا تُحصى من الأبرياء والعزّل. وغالبًا ما تتّسم ردود الفعل الأولى بالغضب والانفعال، مع تأثر وجداني واسع من قبل البشرية جمعاء.
منذ فترة، تجاوز العنف حدّه. ففي غزة، شهدنا أسبابًا متعدّدة للموت والدمار: القصف، والاشتباكات، والانفجارات، فضلًا عن النقص الحاد في المواد الأساسية، والرعاية الطبية، والأدوية.
ورغم النداءات المتكرّرة، وجهود الوساطة التي بذلها البابوات وقادة دول آخرون، لم يطرأ أي تغيير حقيقي أو حلّ لهذه المأساة. أما المساعدات التي دخلت غزة، والإمكانات المحدودة لإجلاء الحالات الطبية الطارئة، فلم تكن سوى قطرة في محيط.
ما الذي يدفع الإنسان إلى الإصرار على إلحاق الألم بالآخر؟ وكيف يمكن تجاوز مشاعر العجز من خلال أعمال ملموسة من المساندة والتضامن؟
بعد هذا الكمّ من الكلام وهذا القدر الهائل من المعاناة، يبدو أن لامبالاة متزايدة تجاه شرّ الحرب آخذة في الترسّخ. ويبدو الخوف عائقًا يمنع توجيه الاتهام إلى من يملكون القدرة على التدخّل ولا يفعلون. وهكذا يصبح من الصعب الاعتراف بأن الصمت يجعلنا جميعًا شركاء.
لقد أُقيمت جدران مادية بارزة حول غزة والضفة الغربية لمنع دخول من يُصنَّفون «غير المصرّح لهم»: عمّال الإغاثة، المتطوّعون، الصحافيون، والمراقبون الدوليون. ويبدو أنّ حاجزًا آخر قد شُيّد أيضًا حول مناطق الحرب في الأرض المقدّسة، حاجز يمنع الوصول إلى الحقيقة - تلك الحقيقة القادرة وحدها على إفساح المجال أمام العدالة لإنقاذ الأرواح واستعادة الكرامة الإنسانية لشعبٍ أنهكه العذاب.
ما الذي، أو من الذي، يمنع الإنسانية من مساعدة أناسٍ يائسين أُجبروا على العيش في ظروف لا إنسانية؟ هل يُخيف ضعفهم؟ ألا يزعج يأسهم ضمائرنا؟ من يختار إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية؟ من يواصل زيادة الإنفاق العسكري الذي لا يجلب سوى الموت والخراب؟ من يعامل الضحايا السهلة للعنف -رجالًا ونساءً مسحوقين بالحزن، أطفالًا، مسنّين، ضعفاء ومرضى- كأنهم أعداء؟
لماذا يُرفض إطعامهم، ومعالجتهم، وتوفير الدفء لهم، رغم وفرة الموارد وسهولة الوصول إليها؟ ولماذا لا تُمنح فرصة للحياة لأولئك الذين تعتمد حياتهم على أدوية متوافرة خلف معبر أو حاجز قريب؟ ألا يترك برد شتاء ثالث في غزة، من دون دفء التضامن، القلوب متجمّدة في لا مبالاة قاتلة؟
هذه الأسئلة التي بلا أجوبة موجّهة إلى الجميع من دون استثناء، لأننا جميعًا مسؤولون عن هذا الواقع اللاإنساني. ومع ذلك، هناك جواب: طفل مقمّط، وُلد في ظلمة مغارة باردة، وجاء ليحمل السلام إلى القلوب التي فقدته. إنّه الطفل القدّوس الذي أتى ليصالح إخوته وأخواته، وليدافع عن الأبرياء والضعفاء، ويؤكّد أن محبة القريب هي الحقيقة الوحيدة.
فلنحتفل بالطفل يسوع، متذكّرين كل يوم -لا في زمن الميلاد فقط- الرسالة المنبثقة من مذود بيت لحم، رسالة ما زالت حيّة وصادقة بعد أكثر من ألفي عام. السلام ليس وهمًا، بل خيار للحياة. السلام ليس مجرّد كلمة تفقد معناها بعد النطق بها. السلام هو شجاعة - شجاعة المساعدة، وشجاعة الشهادة لحقيقة المخلّص.