موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
ليكن سلام الرب معكم!
تُحيي الكنائس اليوم، في شتى أنحاء العالم، ذكرى الحدث الذي يُعدّ، بعد نشأة الكنيسة ذاتها، الأشدّ وقعًا والأعمق أثرًا في تاريخها. فإن مجمع نيقية، الذي التأم فيه أساقفة الكنيسة آنذاك، ممثّلين شتّى التيارات والرؤى الثقافية لعالم ذلك العصر، قد صاغ الإيمان المسيحي الذي رددته أجيال المؤمنين على مدى القرون. ومنذئذ، لا ينفكّ كل مسيحي، في مختلف الكنائس، يردّد تلك العبارات عينها، ويستمدّ منها غذاءً لإيمانه بلا انقطاع.
إن شخص يسوع لم يتوقف قط عن إبهار العالم. لقد غيّر مجيئه إلى العالم مجرى التاريخ، وأثارت تساؤلات، وخلقت أيضًا رفضًا ومعارضة. ففي كل زمان، وبطريقة ما، أجبرنا يسوع على اتخاذ موقف تجاهه.
إن قبول يسوع بكونه ابن الله، والله نفسه، كان آنذاك بمثابة أمر ثوري بالنسبة للعالم الثقافي. كيف يمكن لإنسان من لحم ودم مثلنا أن يكون إلهاً؟ كيف يمكن أن يكون في الوقت نفسه ابن الله والله نفسه، من نفس جوهره؟ كيف يمكن لإنسان أن يموت ويقوم، وأن يكون إنسانًا وإلهًا؟ كان ذلك أمرًا لا يمكن تصوّره، ومع ذلك، بقي موضوعًا يَسْبي قلوب المؤمنين ويأسرها في كل أنحاء العالم. ومنذ البداية، توالت وتكاثرت الفرضيات والمقترحات المختلفة حول ماهية ابن الله، وقد نشأت جميعها من محاولة التوفيق بين شخصية يسوع بكونه ابن الله والله، وبين محدودية العقل البشري. لم تكن ثمة كلمات تسع هذا السرّ أو تعبّر عنه، ولم تَغِب، حتى في ذلك الزمن، الانقسامات الحادّة بين مختلف التيارات داخل الكنيسة.
قبل 1700 عام، وفي نيقية تحديدًا، التأمت الكنيسة ممثَّلةً بأساقفتها، في سياق ديني وثقافي وسياسي لا يقلّ تعقيدًا عن واقعنا الحاضر، فامتلكت ما يكفي من الشجاعة والجرأة لتشكيل نصٍ إيماني مشترك بين الجميع، وواضحًا في الوقت عينه. وقد ابتدعت حينها مصطلحات جديدة تسع، بقدر ما تسمح به التعابير البشرية، سرّ التجسّد.
ومنذ ذلك الحين، كما أشرت سابقاً، بقي مجمع نيقية لكل واحد منا مرجعًا لا غنى عنه في حياة كنائسنا المختلفة: من فهم الإيمان وتحديده لتاريخ عيد الفصح، وغيرها الكثير. كان مجمع نيقية اللحظة التي استطاعت فيها الكنيسة أن تعبّر عن الحاجة إلى إعلان الإيمان، والتعبير عنه بلغة مفهومة في حينه. وبقدر ما يسمح به التعابير البشرية، استطاعت الكنيسة أن تعبّر عن سرّ الكلمة الذي صار جسدًا وسكن بيننا، وعن حضوره المستمر في الكنيسة.
ومع ذلك، فقد طبعت الأحداث التاريخية منذ ذلك الحين حياة كنائسنا. فقد عرفنا الانقسامات، حتى المؤلمة منها. واضطررنا جميعًا إلى مواجهة خياناتنا، صغيرة كانت أم كبيرة، التي جرحت جسد المسيح الواحد، أي الكنيسة. وكم من مرّة خضعنا لمنطق الهيمنة، بدلًا من خدمة جسد المسيح السرّي.
ولكن، حتى وسط كل ضعفنا، بقي مجمع نيقية مرجعًا لا غنى عنه للجميع حتى يومنا هذا. للكنائس الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والأنجليكان، والبروتستانت… لا يستطيع أي مسيحي، مهما كان انتمائه، أن يتجاهل ما استطاع أساقفة الكنيسة قبل 1700 عام أن يصوغوه، بلا شك، بإلهام من الروح القدس.
نعيش اليوم في أزمنة لا تكاد تختلف كثيرًا عن تلك التي عاشها المؤمنون قبل 1700 سنة. إذ إن التعقيدات السياسية ومنطق السلطة الزمنية ما تزال تتحدّى حياة الكنائس بحدّة. وفي الوقت عينه، يفرض الواقع الثقافي وتطلّعات ما يُسمّى "بالحداثة" تساؤلات جوهرية على مسيرة كنائسنا المختلفة: ماهية الإنسان؟ ومفهوم العائلة؟ ما حاجة الإنسان إلى الجماعة؟ ما دور التكنولوجيا في الحياة الفردية والاجتماعية؟ كيف نتعامل مع النماذج الاقتصادية والاجتماعية المستجدّة، ومع هجرة شعوب بأكملها، ومع مجتمعاتٍ تتّسم بتعدّد ديني وثقافي متزايد؟ إنها قضايا كثيرة، بل مفصلية، يطرحها العالم الحديث أمامنا.
وفي هذا السياق، نحن جميعًا مدعوون، كنيسة المسيح الواحدة، إلى تقديم إجابة على الأسئلة التي يطرحها إنسان اليوم. وجوابنا هو ذاته كما كان دائمًا، ولن يتغير أبدًا: المسيح هو الجواب. ولكن، كما قبل 1700 سنة، نحن مدعوون اليوم إلى إعلان إيماننا بالمسيح بشجاعة وجرأة، بطريقة مفهومة وواضحة.
لا يتعلق الأمر بإعادة كتابة نص قانون الإيمان النيقاوي. فذلك النص سيبقى دائمًا وإلى الأبد المرجع لحياة جميع المؤمنين بالمسيح. فالمطلوب هو جعل تلك الصياغة والتعابير مفهومة وذات مصداقية بالنسبة للعالم الثقافي المعاصر. وسنستمر بالتأكيد في إعلان أن المسيح هو الابن الوحيد لله، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، وأن الروح قد وُهب لنا. وأنه في الكنيسة، جسد المسيح، الواحدة، المقدسة، الجامعة والرسولية، لا نزال نلقاه اليوم.
ولا سبيل إلى جعل تلك التعابير، التي قد تبدو بعيدة عن واقع إنسان اليوم، ملموسة وحيّة، مفهومة وذات صدقية، سوى سبيلٍ واحد: الشهادة.
الكنيسة اليوم ليست مدعوة فقط إلى إعلان الإيمان، بل إلى تجسيده من خلال شهادة أبنائها. عندما يلتقي الإنسان المعاصر جماعات ليست مثالية، لكنها نابضة بالحياة يجد فيها ذاته؛ عندما يرى مسيحيين ينعمون بالفرح رغم صعوبات الحياة؛ عندما يلتقي برعاة مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل رعيتهم؛ وعندما، باختصار، تتمكن الكنيسة من إحداث فارق حقيقي مقارنةً بمعايير هذا العالم، حينها ستنطلق التساؤلات: لماذا أنتم هكذا؟ من أين تستمدون هذه القوة؟ وجوابنا سيكون كجواب الكنيسة منذ أكثر من 1700 عام. في تلك اللحظة، ستتبدد الغموض عن كلمات وتعابير كانت في البداية مبهمة، لتصبح نورًا يضيء حياة الناس، ويستمر في إشراقه حتى في الدهر الآتي.
هذه هي أمنياتي لكم جميعاً.
عيد مبارك!