موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"أن يكونوا واحدًا": الآية الأكثر تكراراً في مقطع إنجيل هذا الأحد (يو 17: 20-26). الأحد الأخير من الزمن الفصحي، قبل عيد العنصرة. وفي هذا الأحد نرى الغاية، الثمرة الناضجة لعطية الله التي أُعطيت لنا في فصح يسوع.
أن نكون واحدًا، أولًا هو أمر يخصّ العلاقة الفريدة بين يسوع والآب: إذ إن يسوع يؤكّد أنّه هو والآب واحد "ليكونوا واحدًا كما نحن واحد" (يو 17: 22). ولكن أن نكون واحدًا هو أيضًا ما يطلبه يسوع لأجلنا، فهي رغبته: أن يكون الجميع واحدًا (يو 17: 21)، كما أنّه هو والآب واحدٌ منذ الأزل.
لكن، ما معنى أن نكون واحدًا؟
يمكننا أن نقول إننا نكون واحدًا حينما لا يدّعي أحد امتلاك شيء لذاته فقط، ولا يحتفظ بشيء بمعزل عن الآخرين. إذا سرنا عبر الأناجيل، يمكننا أن نجد إشارات خفية إلى هذه الوحدة العميقة.
نجد إحدى هذه الإشارات عندما يقول يسوع إن كل شيء قد أُعطي له من الآب: "قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الِٱبنَ إِلَّا الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلَّا الِٱبْن ومَن شاءَ الِٱبنُ أَن يَكشِفَه لَه" (متى 11: 27). الآب يملك الحياة، لكنه لا يحتفظ بها لنفسه فقط، بل يمنحها للابن؛ والابن بدوره، يعيد كل شيء إلى الآب، مُسلِّمًا كل شيء بين يديه (راجع لو 23: 46).
نجد إشارة أخرى في مثل الابن الضال، حين يخرج الأب للقاء الابن الأكبر ليذكّره بأنه يستطيع أن يأخذ كل شيء، لأن كل شيء هو له أيضًا (لو 15، 31). فهو لا يخصّه وحده. كل ما هو للآب هو أيضًا للابن الأكبر، وهو كذلك للابن الأصغر، وفي اللحظة التي يظن فيها أحد أن شيئًا ما يخصّه وحده، تنهار حينها الوحدة، ولا نعود بعد واحدًا.
إن حياة الجماعة المسيحية الأولى، المذكورة في سفر أعمال الرسل وقد قرأناها في هذه الأيام الفصحية، تعكس هذا الأسلوب من الحياة. من ينضمّ إلى الجماعة المسيحية بالمعمودية، يُسارع إلى وضع كيانه وكل ما لديه وما يقوم به في خدمة الجميع "وكان كل شيء مشتركًا بينهم" (أع 4: 32).
ليس بدافع الواجب، ولا طاعةً للشريعة، بل بدافع من القلب، من حاجة داخلية، لأنه هكذا يعيش من التقى بالرب يسوع. لأن عكس الوَحدة هو الوحدة بمعناها السلبي: العُزلة، ألّا ننتمي إلى أحد، كالفرع الذي لا يبقى متصلًا بالكرمة، فييبس ويموت (يو 15: 6).
يمكننا إذًا القول إن الوحدة ممكنة بقدر ما يكون القلب فقيرًا. كلما ازددنا فقرًا، ازددنا تحررًا من الحاجة إلى التملك والاحتفاظ، وازددنا اختبارًا لكوننا واحدًا مع الآخرين. إن الوحدة، بالنسبة إلى يسوع، هي أجمل وأصدق ما يمكن أن يحدث في حياة الإنسان، إنها دعوتنا العميقة؛ وهذا ما يريده يسوع لنا (يو 17: 24).
لنتوقف عند هذه الإرادة التي عبّر عنها يسوع في الآية 24: "يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي، أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون، فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد، لِأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم". كم مرة، في قراءات الأناجيل، نقرأ أن يسوع لا يريد أن يعمل مشيئته، بل مشيئة الآب: لا يريد شيئًا مغايرًا لما يريده الآب. فلا يريد نمطًا أخروياً غير الذي أوكله إليه الآب، ولا يريد أن يقول سوى ما سمعه من الآب، ولا يريد أن يُعفى من الآلام ليتمّ مشيئة الآب.
أما هنا، فنسمع أن فعل "يريد" يعود إلى يسوع نفسه. لم يعد بوسع يسوع أن يتخلى عن كونه واحدًا معنا، فهو يرغب في أن يكون هذا الرابط أبديًا، لا ينتهي بموته، وألا يهلك أحد. ولكي تتحقّق إرادته، فإن يسوع مستعد أن يبذل حياته: وبهذا سيُعرّفنا بالآب بشكل نهائي، وبالمحبّة التي يحبّه بها الآب، وهي نفس المحبّة التي يحبّنا بها هو: "عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه، لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم». (يو 17: 26).