موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في عالم مثقل بالضجيج الرقمي وممتلئ بالتضليل الإعلامي، يشرق نور جديد في فضاء الإعلام، وهو ليس بقديم ولا منطفئ، بل هو نور يستمر في إنارة الحاضر بالحق والقيم إنه الإعلام الديني، الذي يعيد للإنسانية جزءا من هويتها المفقودة، ويضعها في قلب مشروع يقوم على الأمانة، والانفتاح.
ووسط هذا الزخم المتسارع الكبير، يبرز سؤالا جوهريا: هل لا يزال يمكننا اليوم بناء تواصل حقيقي يقوم على الحقيقة والمعنى؟ من وحي هذا السؤال، يمكننا القول إن الإعلام الديني لا يفهم كوسيلة لنقل الأخبار الدينية فحسب، بل كفعل أخلاقي وروحي. إنه موقف إنساني يحمل الإعلامي على أن يكون شاهدا للحقيقة ورسول لها، لا مجرد ناقل معلومات، ويعيد للإنسان موقعه كقيمة بحد ذاته، لا كمجرد رقم في سوق استهلاكي.
الإعلام الديني اليوم مدعو إلى تجاوز الأطر التقليدية العادية. فلم يعد المطلوب فقط إعداد تقارير عن نشاطات ليتورجية أو بيانات رعوية، بل بناء خطاب يقرأ الواقع ويعيد تقديمه من منظور يتجذر في الكرامة الإنسانية، ويستنير بالقيم الروحية التي تعزز الخير العام. هذه الرؤية تجعل من الإعلام الديني مساحة لولادة مجتمع ينبذ خطاب الكراهية ويحتضن الحوار والتنوع.
في ظل ما نعيشه من صراعات، أزمات هوية، وتضليل إعلامي، يصبح للإعلام الديني دور محوري في زرع ثقافة الرجاء. نعم الرجاء الذي تفتقده بشرية اليوم وهنا نعيد التأكيد على الإعلام الديني أنه ليس إعلام يعزل، بل ينفتح على الآخر لا يقصي المختلف، بل يصغي إليه. من هنا، تظهر أهمية أن يتجدد الخطاب الإعلامي الديني، ليواكب العصر، ويتفاعل معه دون أن يفقد جوهره ويبقى يجدد ذاته بالرجاء.
الإعلام الديني العصري هو أيضا إعلام شبابي. فالشباب اليوم لا يكتفون بالمشاهدة، بل يشاركون، ينتجون، وينقدون. لذا، من الضروري أن تفسح الكنيسة والمجتمعات الدينية المجال أمامهم ليكونوا جزءا من عملية التواصل، لا مجرد متلقين. ولأجل ذلك، لا بد من تكوين إعلاميين دينيين يتقنون لغة المنصات الرقمية، ويعرفون كيف يترجمون الإيمان إلى محتوى حي، حقيقي، وملهم. وهذه مسؤولية ليست سهلة وتحتاج لتواصل حقيقي ودائم بين الإعلاميين والقيادات الدينية التي تؤمن بالحوار وببناء الجسور مع الآخر.
فكمْ من الجميل أن يحمل الإعلامي وينقل خطاب يقدم الإيمان بلغة الحياة، يشبه الناس في أحلامهم، آلامهم، وطموحاتهم، ويخاطب وجدانهم لا فقط عقولهم. فالإعلام الذي ينجح في هذا التحدي، هو الذي يعرف كيف يروي قصة الإنسان من منظور إنجيلي، حيث الكرامة والرحمة والعدالة ليست مفاهيم مجردة، بل تجارب معاشه، وهي بالحقيقة موجودة بيننا ونشهد لها.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الحاجة إلى أن يكون الإعلام الديني مساحة آمنة للحوار بين الأديان والثقافات فبدل أن يكون منغلقا على ذاته، عليه أن يصبح منصة لقاء. ليس من باب التنازلات، بل من باب الإيمان بأن الله هو الذي يجمعنا في هذه الحياة برحمته وعدله، وأن الحقيقة تتسع لنا جميعا دون الاستقواء أو إلغاء الآخر. المحتوى الذي يبنى على هذه القناعة لا يسعى لإقناع الآخر بقدر ما يسعى لفهمه، والانطلاق من المشترك الإنساني. وهنا، يكون الإعلام الديني عنصر سلام لا توتر، ومبادرا لا متفرجا، ومتجذرا في الواقع دون أن يفقد نفسه الروحي العميق.
ومع الانتشار الكبير للمؤثرين والمحتوى السطحي، تقع على عاتق الإعلام الديني مسؤولية استثنائية: أن يقدم محتوى غني، صادقا، لا يخف من العمق، ولا يهرب من الأسئلة الصعبة. أن يكون جسر بين السماء والأرض، بين المعتقدات والحقائق، بين العقيدة والحياة اليومية. أن أكبر نجاحا يمكن أن يحققه الإعلام الديني ليس أن يحصل على ملايين المشاهدات، بل أن يحدث أثرا داخليا. أن يغير نظرة، يلهم مسارا، يوقظ ضميرا. وهنا تكمن قيمته الحقيقية، فكلنا نعرف أن الديانات السماوية كلها تتلاقى حول كرامة الإنسان وسلامه وإظهار هذا الربط هو واجب ورسالة.
ختاما، لا بد من أن نفهم أن الإعلام الديني ليس إعلاما هامشيا بل هو موجود وفاعل، هو واجهة حقيقية لرسالة إيمانية في عالم متغير. هو تعبير حي عن الكنيسة "التي تخرج"، والتي تضع الإنسان في قلب رسالتها. ولكي يؤدي هذا الإعلام رسالته بأمانة، يجب أن يدار بروح مهنية عالية، وشغف داخلي صادق، وانفتاح دائم على التجديد.
وهنا يطيب لنا تذكر كلمات البابا فرنسيس رحمه الله بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الاتصالات الاجتماعية ٢٠٢٥ ويقول فيها: "ازرعوا الرجاء على الدوام، حتى وإن كان صعبا، حتى وإن كان مكلفا، حتى وإن بدا أنه لا يثمر. حاولوا أن تمارسوا إعلاما يعرف كيف يداوي جراح إنسانيتنا. أفسحوا المجال لثقة القلب الذي، كزهرة هشة وإنما قوية، لا يستسلم لعواصف الحياة بل يزهر وينمو في أكثر الأماكن غير المتوقعة".
في زمن الضجيج، نحن بحاجة إلى أصوات تنصت، لا فقط تعلن. إلى إعلام يرى في كل إنسان كائن محبوب، لا موضوع، إلى إعلام لا يستهلك الأخبار، بل يزرع رجاء حيا وهذا ما يصنع الفرق ويؤكد على أن الإعلام الديني هو مساحة وحوار ولقاء في كل الأوقات.