موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
أولويَّة الإنسان أمام القانون

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

 

تُعدّ العلاقة بين القانون والإنسان من القضايا المحورية التي شغلت الفكر الفلسفي واللاهوتي والحقوقي عبر العصور. فالقانون، بوصفه تعبيرًا عن العقل المنظّم، وُجد لتنظيم الحياة البشرية المشتركة، إلا أن شرعيته العميقة تنبع من قدرته على احترام كرامة الإنسان وتعزيزها. ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار القانون محايدًا؛ بل هو انعكاس لرؤية معينة للإنسان والعالم.

 

في زمنٍ تتكاثر فيه التشريعات وتتعقّد فيه الأنظمة، وتُهدَّد فيه كرامة الإنسان تحت وطأة القوانين الوضعية، تعلن الكنيسة الكاثوليكية أن الإنسان ليس وسيلة بل غاية، ليس موضوعًا للقانون بل مركزًا للتاريخ. فكل نظام قانوني لا ينطلق من كرامة الإنسان، يبتعد عن العدالة الحقيقيَّة. الإنسان هو الأولوية القصوى، لا لأن القانون بلا قيمة، بل لأن قيمته الحقيقية تكمن في خدمته للإنسان لا في إخضاعه له. تُطرح في هذا السياق تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين الإنسان والقانون، وتبرز الحاجة إلى تأصيل فلسفي ولاهوتي يعيد ترتيب الأولويات: هل القانون غاية في ذاته أم وسيلة لخدمة الإنسان؟ وهل تُقاس العدالة بمدى الالتزام بالنصوص القانونية أم بمدى احترامها لكرامة الشخص البشري؟

 

القانون في نظر الكنيسة ليس سلطة تُفرض من الخارج، بل هو خدمة داخلية للحياة. إنه وسيلة لحماية الضعفاء، وتنظيم الخير العام. والنظرة المسيحية إلى القانون لا تنبع من مجرد تنظيم بشري، بل من رؤية لاهوتية ترى في الإنسان صورة الله، وتعتبر أن كل تشريع يجب أن يُبنى على هذا الأساس الأنثروبولوجي والروحي. القانون هو تعبير عن محبة الله الذي يريد الحياة، لا الموت؛ الكرامة، لا الإهانة؛ الحرية، نحو المحبة. فكل قاعدة يجب أن تُفهم وتُطبّق بروح الإنجيل، لا بروح الحرف.

 

"لقد جُعل السبت لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت" (مر 2: 27). هذه العبارة التي نطق بها الرب يسوع تشكّل مفتاحًا تأويليًا يقلب منطق الفريسيين القائم على الحرفية القانونية، وتفتح أمامنا رؤية جديدة ترى في القانون خدمة للإنسان لا عبئًا عليه. فالسبت، الذي هو علامة للعهد ومجال لتقديس الزمن، ليس غاية في ذاته، بل هو موجّه لخير الإنسان. فالقانون الإلهي هو إعلان لإله يحب الحياة، والقانون مدعو ليعكس هذه المنطق، لا للعقاب من أجل العقاب، بل للحماية والمرافقة والشفاء. لذلك، فإن كل من يضع أو يطبّق القوانين، سواء في السياق الكنسي أو المدني، مدعو إلى التمييز الأخلاقي، وإلى مراعاة الأثر الواقعي على حياة الناس، لا الاكتفاء بالنصوص المجردة. ويجب أن تُصاغ القوانين بروح إنسانية تُراعي الكرامة، وتُعزز الحياة، وتُحترم التنوعوأن تُدار الموارد العامة والخاصة بروح العدالة والرحمة، مع أولوية لحماية الفئات الأكثر هشاشة، وأن يشمل التكوين القانوني والمهني تأملًا في البُعد الإنساني والروحي للقانون، بحيث يصبح القانون جسرًا نحو العدالة، وأداة لبناء السلام، ومساحة للقاء بين البشر مهما اختلفت معتقداتهم. يقول القديس أغسطينوس "Lex iniusta non est lex"، أي أنَّ القانون غير العادل لا يُعد قانونًا"، فشرعية القانون لا تُستمد من صيغته بل من مدى احترامه لحقيقة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (تكو 1: 27). والقانون يفقد شرعيته إن لم يكن في خدمة العدالة، والعدالة لا تُفهم إلا من خلال احترام صورة الله في الإنسان. كما قال القديس توما الأكويني في "الخلاصة اللاهوتية" بأنه: "Lex est quaedam rationis ordinatio ad bonum commune, ab eo qui curam communitatis habet, promulgata"، أي "أنَّ القانون هو ترتيب من العقل نحو الخير العام، يصدر عمن له رعاية الجماعة ويُعلن بطريقة مناسبة". فالقانون هو تنظيم العقل نحو الخير العام، لكن الخير العام ليس مجرد مفهوم، بل هو خير الأشخاص. ويُميز القديس بين أربعة أنواع من القانون: الأبدي، الطبيعي، الإنساني، والإلهي، ويُعدّ القانون الطبيعي مشاركة الإنسان في الشريعة الأزلية من خلال العقل العملي (ratio practica)، مما يعني أن الإنسان قادر بعقله على التمييز بين الخير والشر، وأن القانون يجب أن يُترجم هذا التمييز لا أن يُلغيه، فإذا خالف القانون الوضعي هذا التمييز يصبح فاقدًا للشرعية الأخلاقية حتى وإن كان نافذًا قانونيًا. ويضيف في تعريفه للقانون الطبيعي: "Lex naturalis nihil aliud est quam participatio legis aeternae in rationali creatura"، أي أنَّ "القانون الطبيعي ليس إلا مشاركة في القانون الأبدي من قبل الكائن العاقل"، ويُشدّد على أن القانون البشري لا يُلزم الضمير إلا إذا كان متوافقًا مع العقل الإلهي: "Lex humana non habet vim obligandi in foro conscientiae, nisi secundum rationem divinam"، وفي حال كان القانون غير عادل يُصرّح بوضوح: "Leges injustae non sunt leges, sed potius violentiae quaedam"، أي أن القوانين غير العادلة ليست قوانين بل أشكال من العنف"، مما يُظهر أن القانون لا يُقاس بصيغته القانونية بل بمدى توافقه مع العقل والخير العام والعدالة الإلهية.

 

حين يتعارض القانون الوضعي مع القانون الأخلاقي يُدعى المسيحي إلى الشهادة ولو كلّفته اضطهادًا، فقد قال القديس بطرس أمام المجلس اليهودي: "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أع 5: 29)، والبابا بندكتس السادس عشر في خطابه أمام البرلمان الألماني عام 2011 قال: "يجب أن يرتبط القانون بالعدالة، فالقانون الوضعي يجب أن يحترم كرامة الإنسان، وإلا تحوّل إلى شكل من أشكال الطغيان"، وهذه الكلمات تُعدّ نداءً لكل مشرّع ومواطن، فالقانون لا يمكن أن يكون محايدًا تجاه حقيقة الإنسان، ولا يُقاس فقط بمدى تنظيمه بل بمدى احترامه لكرامة الإنسان. لذلك، القوانين يجب أن تُصاغ بروح إنسانيَّة تُراعي الكرامة، وتُعزز الحياة، وتُحترم التنوع، وأن تُدار الموارد العامة والخاصة بروح العدالة والرحمة، مع أولوية لحماية الفئات الأكثر هشاشة، وأن يشمل التكوين القانوني والمهني تأملًا في البُعد الإنساني والروحي للقانون، بحيث يصبح القانون جسرًا نحو العدالة، وأداة لبناء السلام، ومساحة للقاء بين البشر مهما اختلفت معتقداتهم.

 

لقد أعاد المجمع الفاتيكاني الثاني، من خلال وثيقة "فرح ورجاء"، التأكيد على أن الضمير هو "أعمق ما في الإنسان ومقدسه"، وأن القانون يجب أن يساعد الضمير على تمييز الخير، لا أن يحلّ مكانه أو يلغيه.  في هذا السياق، تبرز عبارة "الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أراده الله لذاته" (فرح ورجاء 24) التي تشكّل حجر الأساس لكل نظام قانوني عادل، إذ لا يمكن لأي قاعدة أن تكون مشروعة ما لم تنطلق من احترام الكرامة البشرية وصون الحياة في جميع مراحلها..  فالإنسان ليس أداة في يد النظام، بل هو غاية كل تنظيم بشري، وليس موضوعًا للقانون بل فاعلًا في التاريخ، وكل نظام قانوني يتجاهل هذه الحقيقة يبتعد عن العدالة.  والقول بأن الإنسان "أُريد لذاته" لا يعني الفردانية، بل العلاقة، إذ إن الإنسان مدعو إلى العيش في شركة، كحارس للخليقة وبانٍ للسلام، ولا يجد كماله إلا في العطاء الصادق لذاته. فالإنسان هو غاية الخليقة لا وسيلة ضمن منظومة قانونية أو اجتماعية،  فكل بنية اجتماعية يجب أن تحترم صورة الله في الإنسان، والمجتمع العادل هو الذي يعزز الحرية والمسؤولية والمشاركة، والاقتصاد والسياسة والقانون يجب أن تكون أدوات في خدمة الكرامة، لا غايات مستقلة.

 

يقول القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته "السنة المئة": "تؤكد الكنيسة أن الإنسان هو مركز النظام الاجتماعي” (عدد 11)، وفي "إنجيل الحياة" يُدين القوانين التي تُشرّع الاعتداء على الحياة ويصفها بأنها "قوانين غير عادلة" لأنها تنكر قدسية الإنسان. ويُذكّرنا البابا فرنسيس في "فرح الإنجيل": "القانون والقاعدة في خدمة الإنسان وخلاصه" (عدد 47)، ويُشدد على أن الكنيسة مدعوّة إلى أن تكون بيتًا للرحمة لا حصنًا للشرائع، فالقانون حتى الكنسي منه يجب أن يكون أداة للشركة لا وسيلة للإقصاء.

 

ختاماً نقول: القانون، في الرؤية المسيحية، ليس مجرد أداة تنظيمية أو سلطة تُمارَس، بل هو خدمة للحياة، وحماية للكرامة، وتجسيد للمحبة المرتبة. فالإنسان، كما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني، هو المخلوق الوحيد الذي أراده الله من أجل ذاته، وهذه الحقيقة تُشكّل حجر الأساس لكل نظام قانوني عادل، إذ لا يمكن لأي قاعدة أن تكون مشروعة ما لم تنطلق من احترام الكرامة البشرية وصون الحياة في جميع مراحلها. وفي ضوء هذا، يُفهم قول المسيح: "السبت جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت"، بوصفه إعادة ترتيب للعلاقة بين الإنسان والنظام، حيث تصبح القاعدة في خدمة الشخص، لا العكس، ويصبح القانون وسيلة للرحمة المنظمة، لا أداة للسيطرة. ومن هذا المنطلق، تُدين الكنيسة القوانين التي تُشرّع الاعتداء على الحياة، كالإجهاض والقتل الرحيم، لأنها تُنكر الحق الأساسي في الوجود، وتُحوّل الجريمة إلى حق قانوني، وهو ما يتعارض مع الضمير الإنساني السليم، ومع المبادئ الأخلاقية الكونية التي تُعلي من قيمة الحياة وتحمي الضعفاء. لذلك، فإن كل من يضع أو يطبّق القوانين، سواء في السياق الكنسي أو المدني، مدعو إلى التمييز الأخلاقي، وإلى مراعاة الأثر الواقعي على حياة الناس، لا الاكتفاء بالنصوص المجردة. ويجب أن تُصاغ القوانين بروح إنسانية تُراعي الكرامة، وتُعزز الحياة، وتُحترم التنوع، وأن تُدار الموارد العامة والخاصة بروح العدالة والرحمة، مع أولوية لحماية الفئات الأكثر هشاشة، وأن يشمل التكوين القانوني والمهني تأملًا في البُعد الإنساني والروحي للقانون، بحيث يصبح القانون جسرًا نحو العدالة، وأداة لبناء السلام، ومساحة للقاء بين البشر مهما اختلفت معتقداتهم. هذه الرؤية، وإن انطلقت من اللاهوت المسيحي، تُخاطب ضمير كل إنسان، وتدعو إلى عالم تُصان فيه الحياة، وتُكرَّم فيه الكرامة، ويُحترم فيه الاختلاف، فحيث تُصان الحياة هناك يُعلَن وجه الله، وحيث تُكرَّم الكرامة هناك تُبنى الشركة، وحيث يُعاش القانون كمحبة هناك تبدأ القيامة.

 

إن هذه الرؤية لا تقتصر على المجال الكنسي أو اللاهوتي، بل تمتد لتخاطب كل من يسعى إلى بناء مجتمع عادل، يحترم الإنسان في ضعفه وقوته، في بداياته ونهاياته، في اختلافه وتنوعه. فحيث يُصاغ القانون بروح الرحمة، يُصبح أداة للشفاء لا للانقسام، وحيث يُطبّق بتمييز أخلاقي، يُصبح وسيلة لحماية الحياة لا لتبرير الاعتداء عليها. إن التحدي الأكبر أمام كل نظام قانوني هو أن يظل أمينًا للكرامة الإنسانية، وأن يضع الإنسان في قلب كل قرار، لا على هامش كل إجراء. ومن هنا، فإن الدعوة إلى قانون يخدم الحياة ليست مجرد مطلب ديني، بل هي نداء أخلاقي وإنساني، يمكن أن يتلاقى فيه المؤمن وغير المؤمن، رجل الدين ورجل القانون، الطبيب والمربي، كلٌ من موقعه، من أجل بناء عالم تُصان فيه الحياة، وتُحترم فيه الكرامة، ويُحتضن فيه الإنسان كقيمة لا تُختزل. إن القانون، حين يُفهم كخدمة، يُصبح فعل محبة، وحين يُمارس كحماية، يُصبح فعل عدالة، وحين يُصاغ كجسر، يُصبح فعل شركة. في هذا، تتجلى دعوة كل إنسان، مهما كان دينه أو خلفيته، إلى أن يكون شريكًا في بناء حضارة الحياة، لا ثقافة الموت؛ حضارة الكرامة، لا منطق الإقصاء؛ حضارة الرحمة، لا منطق الانتقام. فليكن القانون، في كل زمان ومكان، مرآة للضمير الحي، وصوتًا للحق، وراعيًا للإنسان.

 

والكنيسة، إذ تضع الإنسان في قلب رسالتها، لا تكتفي بإعلان المبادئ، بل تدعو إلى التزام عملي في الدفاع عن الكرامة البشرية، خاصة في وجه الأنظمة التي تُقصي أو تُهمّش أو تُشرّع الاعتداء على الحياة. هذا الالتزام لا يُفهم إلا في ضوء سر التجسد، حيث صار الله إنسانًا ليُعيد للإنسان كرامته، ويُظهر أن كل شخص بشري هو موضوع حب إلهي لا مشروط. ومن هنا، يصبح الدفاع عن الإنسان دفاعًا عن صورة الله، ويصبح القانون الصالح هو ذاك الذي يُترجم هذا الدفاع إلى بنية عادلة، تُنظّم المجتمع دون أن تُلغيه، وتُحفظ الحقوق دون أن تُقيّد الحرية. من هنا، فإن مسؤوليتنا الكنسية، في الرعاية والإدارة والتشريع، لا تُقاس بصرامة النصوص، بل بقدرتنا على جعل القانون نَفَسًا للرحمة، ومسارًا للشفاء، وجسرًا نحو اللقاء. فكل قاعدة كنسية، مهما بدت تقنية أو تنظيمية، هي في جوهرها دعوة إلى حماية الإنسان، ومرافقة دعوته، وصون حريته، وتمكينه من أن يعيش ملء إنسانيته في نور الله. إن الطاعة، حين تُعاش بوعي ومسؤولية، لا تُلغي الحرية، بل تُنضجها، وتُحوّلها إلى مشاركة في مشروع الله الخلاصي، حيث تُصبح الكنيسة بيتًا للرحمة، لا مؤسسة للردع، ومساحة للشفاء، لا ساحة للصراع.

 

فلنُجدّد، إذًا، التزامنا بأن يكون القانون في كنيستنا تعبيرًا حيًا عن قلب الله، وأن تكون كل ممارسة إدارية أو تشريعية فعل محبة، وكل إجراء تنظيمي شهادة للإنجيل، وكل نص قانوني نَفَسًا للحياة. بهذا الروح، نُصلي أن يُنير الرب ضمائرنا، ويقوّي عزمنا، ويجعل من خدمتنا القانونية شهادة حيّة على أن "الحق يُحرّر"، وأن "المحبة تُكمّل الشريعة"، وأن "الرحمة هي قلب الإنجيل".