موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
القانون في خدمة الخلاص: من سلامة الشعب إلى خلاص الإنسان

الأب د. ريمون جرجس الفرنسيسكاني :

 

في قلب كل تنظيم بشري عادل، يسطع مبدأٌ قديمٌ بصيغة لاتينيَّة موجزة«Salus populi suprema lex esto» : »سلامة الشعب يجب أن تكون القانون الأسمى». هذا القول، الذي صاغه شيشرون في سياق تنظيمي للدولة الرومانيَّة، لا يزال يحمل في طياته نداءً أخلاقيًا يتجاوز الأزمنة: أن القانون لا يُبرَّر إلا إذا خدم الحياة، وصان كرامة الإنسان، وسعى إلى الخير العام. لكن الكنيسة، في رسالتها، لا تكتفي بسلامة الإنسان الزمنيَّة، بل تنفتح على خلاصه الكامل. فهي لا تُنظّم فقط حياة الجماعة، بل تُرافق كل فرد نحو ملء الحياة في الله. ولهذا، يُختتم القانون 1752 من مجموعة القوانين اللاتينيَّة بالعبارة: «Salus animarum suprema lex esse debet»  »خلاص النفوس يجب أن يكون القانون الأسمى». هنا نلاحظ التحول من salus populi  (سلامة الشعب) إلى salus animarum (خلاص النفوس)، مما يدل على أن الكنيسة تتبنى المبدأ الروماني، لكنها تعمّقه وتُعيد توجيهه نحو غايتها الأساسيَّة: خلاص الإنسان في ملء كيانه. فسلامة النفوس، التي تُفهم هنا بمعناها الروحي والإنساني، تُصبح هي القانون الأسمى، ما يعكس تقاطعًا عميقًا بين الفلسفة الرومانيَّة القديمة والرؤيَّة الكنسيّة الحديثة التي ترى في القانون خادمًا للحياة، لا سيدًا عليها.

 

ففي الفكر الكنسيّ، لا يُفصل الخير العام عن خلاص الفرد. فسلامة الشعب تُفهم كسلامة الجماعة المؤمنة، التي تُرشد وتُرافق كل فرد نحو الحياة الأبديَّة. والقانون، حين يُطبّق بروح رعويَّة، يصبح تعبيرًا عن محبة الله المنظمة، التي لا تُقصي أحدًا بل تسعى إلى احتضان الجميع. لهذا، الكَنِيسَة، في جوهرها، قائمة على مهمّة خلاص الْإِنْسَان، الذي يُفهم كشخص يتمتع بحقوق أساسيَّة تعبّر عن كرامته، ويُصبح بذلك "العلّة الأولى لكل قانون"، و"الغايَّة التي من أجلها وُجد القانون.

 

في الحقيقة، المبدأ الروماني القائل بأن «سلامة الشعب يجب أن تكون القانون الأسمى» لا يُفهم فقط كصيغة سياسيَّة أو تنظيميَّة، بل كإعلان أخلاقي بأن القانون يفقد شرعيته إن لم يكن في خدمة الحياة البشريَّة. هذا المبدأ، حين يُقرأ في ضوء الإيمان، يكتسب بُعدًا أعمق: فالكنيسة لا تسعى فقط إلى حمايَّة الإنسان من الأذى، بل إلى خلاصه الكامل—جسديًا، روحيًا، ووجوديًا. لهذا السبب، الكنيسة، في رسالتها، لا ترى القانون كغايَّة في ذاته، بل كوسيلة تُسهم في تحقيق خلاص الإنسان. القانون الكنسيّ، حين يُفهم في ضوء هذا المبدأ، لا يُصبح مجرد أداة تنظيميَّة، بل يُستعاد كخدمة رعويَّة، كوسيلة للرحمة، وكجسر بين العدالة والنعمة. فكل قاعدة، وكل إجراء، وكل قرار إداري، يجب أن يُسأل: هل يخدم خلاص النفوس؟ هل يُقرّب الإنسان من الله؟ هل يُحافظ على كرامته، ويُعينه في ضعفه، ويُرشده في مسيرته؟

 

لطالما اعتبرت الكنيسة أن رسالتها الخاصة تتمثل في إيصال الخلاص إلى البشريَّة جمعاء. فالله نفسه قد بادر إلى لقاء الإنسان من خلال الوحي المتجلي في تجسد الابن، وآلامه، وموته، وقيامته. ومن خلال صيانة "وديعة الإيمان" (depositum fidei)، تتولى الكنيسة بعنايَّة تنظيم الوسائل والتدابير المؤديَّة إلى الخلاص، وفقًا لكلمة الرب: «كل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولًا في السماء» (متى 16: 19).

 

وهكذا، في الكَنِيسَة التي تعمل من أجل الْإِنْسَان، في بُعديها الأرضي والروحي، تتجلّى مركزيَّة "salus animarum" بوصفها تعبيرًا عن اهتمام الله الرحيم بمخلوقاته، وهو اهتمام يجد جذوره في العقيدة الكتابيَّة عن "صورة الله" في الْإِنْسَان. ومن المؤكد أن مبدأ "خلاص النفوس" هو المبدأ الملهم لرسالة الكَنِيسَة الخلاصيَّة، من خلال التبشير والتقديس، والهدف اللاهوتي الأسمى للنشاط الكنسيّ. فخلاص النفوس هو الخير القانونيّ الأعلى الذي تهدف إليه الكَنِيسَة، وهو في نفس الوقت الهدف والغايَّة الأخيرة للتنظيم الكنسيّ. وهذا ليس بغايَّة فرديَّة ولا اجتماعيَّة إٍنَّما شخصيَّة، يلّخص الجوانب الإفراديَّة والجماعيَّة، الخاصة والعامة لعمل الكَنِيسَة الخلاصي كعمل مؤمن فردي. فأي تنظيم قانوني نظاميّ كالكنسيّ، يُحذر دائماً من الضغط بين المطالب العامة، الشَّاملة، الموضوعيَّة، الحاضرة في الهيئات والأنظمة القانونيّة النظريَّة، الموجّه لليقين القانونيّ الذي يهدف كي يكون مطبقاً بطريقة مساواة بين الجميع، بشكل مستقل عن خصوصيَّة حالة الفرد والقناعات الذاتيَّة للأشخاص، والمطلب لحلّ عادل ومنصف يأخذ بعين الاعتبار من وقت لأخر الظروف والمصالح الخاصة، والتقييم الذاتي ومسؤوليَّة المؤمن، وأَيضًا حالة الضمير للأشخاص.

 

ومن هذا المنطلق، يُفهم الشَّرع الكنسيّ بوصفه أداة لبناء جماعة مؤمنة، تُعبّر عن العدالة، وتخدم الحياة الروحيَّة، وتوقظ وعي المؤمن بمسؤوليته الذاتيَّة، لا من خلال الأوامر، بل من خلال التوجيه الرَّعويّ نحو السلام الداخلي والحفاظ عليه. ولا شك أن عمليَّة التجديد التي أطلقها الْمَجْمَع الْفِاتيكَانِّي الثَّاني قد أدّت إلى فهم جديد للقانون الكنسيّ، وإلى تعميق مبدأ "salus animarum"، بفضل الإسهامات العقائديَّة ذات الطابع الكنسيّ، التي أثّرت بعمق في عمليَّة الإصلاح التشريعي، والتي تُوّجت بتعاون الأسقفيَّة الكاثوليكيّة بأسِرْها. شدّد البابا بولس السادس في كلمته أمام المحكمة الرومانيَّة بتاريخ 27 كانون الثاني 1969، على أن الْمَجْمَع الفاتيكاني الثاني لم يرفض الشَّرع الكنسيّ، بل عبّر عن إرادة واضحة في استمراره، بوصفه تعبيرًا عن السُّلطة التي أوكلها المسيح إلى الكَنِيسَة، وضرورة نابعة من طبيعتها الاجتماعيَّة والمرئيَّة، الجماعيَّة والهرميَّة، فضلًا عن كونه أداة لتنظيم الحياة الدينيَّة والسعي نحو الكمال المسيحي، وضمانًا قانونيًا للحريَّة. وأكّد أن الشَّرع الكنسيّ ليس شكليًا أو منفصلًا عن روح الإنجيل، بل يتوافق مع التجديد الذي أطلقه الْمَجْمَع. في هذا الاِعْتِبَار، تبقى كلمات البابا بولس السادس  في خطابه الأخير روتا رومانا واضحة: أنتَم تعلمون جيداً أنَّ للشرع الكنسيّ "كما يبدو"، وكنتيجة للشرع القضائي، الذي هو جزء، لأسبابه الملهمة تدخل في نطاق مشروع الخلاص، على أنَّ خلاص النفوس (salus animarum) هوالشَّرع الأعلى للكنيسة".

 

يشمل المبدأ "خلاص النفوس الشَّرع الكنسيّ بأجمله، وجميع أعضاء الكَنِيسَة بجميع أشكالها وبجميع أعمالها، سواء التشريعيّة، الإداريّة، والقضائيّة. فهذا المبدأ يفوق أي مبدأ وأي نظام كنسيّ قانونيّ وأي عمل تطبيقي وملاحظات الأنظمة الكنسيّة. ولكون العدالة موجّهه لمهمّة الخلاص الكنسيّ، فجميع المبادئ، وجميع الهيئات القانونيّة وجميع الأنظمة القضائيّة لها القيمة ذاتها، في صعيد العدالة الكنسيّة، كونها تؤّمن لكل شخص إمكانيّة المشاركة في سرّ الخلاص الذي ينتمي له حسب العدالة. يمكننا القول "أنّ النعمة الإلهيَّة هي أساس خلاص النّفوس أو الخلاص الاسكاتولوجي، ويبقى جواب الإنسان الفرد عامّلا إيجابيّا لهذا الخلاص". من منطلق هذا القول، فإنَّ الشرائع الكنسيّة لا تشترك في تطبيقاتها بشكل مباشر في عمل النعمة. فلا بد من إحترام الحريَّة القائمة بين الخالق والمخلوق، أي بين الآب الإلهيّ والمؤمن المتحرر من عبوديّة الخطيئة بواسطة دم المسيح، والذي أصبح ابن الله في الكَنِيسَة. ولذلك، يجب على السلطات التنفيذيَّة والقضائيَّة في الكَنِيسَة أن تأخذ هذا المبدأ بعين الاعتبار عند تفسير النصوص القانونيّة، أو عند حلّ التناقضات بين الأحكام، أو عند معالجة الثغرات التشريعيَّة، بما يضمن الاستجابة لنيَّة المشرّع، لا للنص فحسب. وبهذا المعنى الواسع للرعايَّة، يُعطى لمبدأ "salus animarum"  قيمة ثلاثيَّة في الشَّرع الكنسيّ: كغايَّة للنظام القانونيّ، وكمعيار ملهم، وكشرط مقيِّد للخبرة القانونيّة.

 

لقد نبّه Giacchi إلى أنَّه يجب الأخذ هذه الغايَّة بعين الاعتبار عند تفسير القواعد الملتبسة، أو عند البحث عن العلّة التشريعيَّة (ratio) لنصٍّ معيّن، أو عند الرجوع إلى المبادئ العامة؛ غير أن عنصر "خلاص النفوس" (salus animarum) لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحلّ محلّ القواعد الوضعيَّة التي يقرّها قانون الكنيسة؛ بمعنى أن النظام القانونيّ الكنسيّ يظلّ نظامًا وضعيًا، لا يجوز فيه التضحيَّة بيقين القانون، أو باستقراره، أو بالضمانات التي يتضمنها، لصالح متطلبات وإن كانت نبيلة للغايَّة—لم يتم الاعتراف بها فيه صراحةً أو ضمنًا.

 

لذلك، «يتّضح أنّ الشَّرع الكنسيّ مرتبط بجوهر الكَنِيسَة نفسها؛ فهو يشكل مع الكَنِيسَة جسدًا واحدًا من أجل ممارسة صحيحة للمهمّة الرَّعويَّة في معانيه الثّلاثة المهمّة التّعليميّة والتّقديسيّة والحكم. في كَنِيسَة المسيح -كما أكّد لنا الْمَجْمَع- بجانب البعد الرّوحيّ والأبديّ، يوجد أيضًا البعد المنظور والخارجيّ". صرّح البابا يُوحَنَّا بُولُس الثَّاني في الدستور الرَّسوليّ الذي أصدر به الشَّرع اللاتينيّ ١٩٨٣، أن القوانين الكنسيّة، «إلى جانب العناصر الأساسيّة للّهيكليّة التّراتبيّة والعضويّ للكَنِيسَة [...]»، تحتوي أيضًا على «القواعد الرّئيسيّة المتعلّقة بممارسة المهامّ الثّلاثيّة الموكّلة إلى الكَنِيسَة نفسها [...]»، وكذلك «بعض القواعد والنّظم للعمل». و"إن القوانين الكنسيّة تتطلب بطبيعتها الالتزام"؛ وأنّها تشكّل مشاركة خاصة في مهمّة المسيح الراعي، وتهدف إلى تفعيل نظام العدالة داخل الكَنِيسَة، كما أراده المسيح نفسه".

 

والبابا بندكتوس السادس عشر حين قال: "العدالة في الكَنِيسَة لا يمكن فصلها عن المحبة وخلاص النفوس، الذي هو قانونها الأسمى"؛ كان يُعلّمنا أن العدالة الكنسيّة لا تكتمل إلا إذا اقترنت بالمحبة، لأن العدالة بدون رحمة قد تتحول إلى ظلم. وهنا يظهر دور القانون كـأداة تربويَّة، تُرشد وتُصحّح، لكنها لا تُدين ولا تُقصي. فالقانون في الكَنِيسَة يجب أن يكون جسرًا نحو الشفاء، لا حاجزًا أمام النعمة. والعدالة الكنسيّة، في نظره، لا تكون حقيقيَّة إلا إذا كانت عدالة فاديَّة. فليس المطلوب تطبيق النصوص ببرود، بل حمايَّة حقيقة الشخص ومسيرته نحو الله. وهكذا يصبح القانون ليس فقط تصحيحيًا، بل تربويًا، شفائيًا، نبويًا. فالقانون لا يكفي أن لا يعيق الخلاص، بل يجب أن يساهم فيه فعليًا. وهذا يترجم إلى ممارسة قانونيَّة تضع الإنسان وتاريخه وجراحه في المركز. لم يعد القانون مجرد قاعدة، بل هو تمييز، مرافقة، رعايَّة. إنه دعوة لجعل كل فعل قانوني فعل محبة أيضًا.

 

من خلال هذه الأقوال، نفهم أن مبدأ "خلاص النفوس هو القانون الأسمى" ليس مجرد شعار، بل هو منهج حياة كنسيَّة. ونبض الرسالة الكنسيّة، وبوصلة التمييز الرعوي؛ إنه دعوة لكل راعٍ، ولكل قاضٍ كنسي، ولكل مشرّع، أن يُعيد النظر في كل قاعدة، وكل إجراء، وكل قرار، في ضوء هذا الهدف السامي. فالقانون في الكَنِيسَة ليس مجرد تنظيم إداري أو ضبط سلوكي، بل هو تعبير عن محبة الله في شكل منظم. فكل قاعدة قانونيَّة، مهما بدت تقنيَّة أو تفصيليَّة، يجب أن تُفهم في ضوء هدفها الأسمى: خدمة الإنسان في مسيرته نحو الله. وهذا يعني أن القانون لا يُطبّق بطريقة حرفيَّة جامدة، بل بروح التمييز، الرحمة، والعدالة التي تُراعي ظروف الأشخاص وتاريخهم الروحي. فلكي يُطبق الشَّرع في حالة معيّنة، لا يكفي فقط تفسير النظام العام المجرّد، ولكن أيضاً،   سيكون من الضروري الاستفادة من الوسائل القانونيّة التي هيأها النظام الكنسيّ للرعاة لضمان ضرورة التماسك بين الحياة القانونيّة الشكليَّة للكنيسة والهدف الخاص لتنظيمها القانونيّ. وهكذا، فإن الكَنِيسَة، من خلال قانونها، لا تُنظّم فقط، بل تُحبّ؛ لا تُحاكم فقط، بل تُرحم؛ لا تُدير فقط، بل تُخلّص. وهذا هو جوهر رسالتها، وهذا هو معنى أن يكون خلاص النفوس هو قانونها الأسمى. في هذا السياق، يُمكن القول إن القانونيّن، رغم اختلاف المرجعيَّة والغائيَّة، يشتركان في رسالة واحدة: خدمة الإنسان في ضعفه، وفي تطلعه إلى حياة كريمة. فالقانون، سواء كان كنسيًا أو مدنيًا، لا يُحقّق غايته إلا إذا كان في خدمة الحياة، لا في خدمة السلطة؛ في خدمة الرحمة، لا في خدمة العقوبة؛ في خدمة العدالة، لا في خدمة الشكل.

 

ويُمكن اعتبار مبدأ "خلاص النفوس" بمثابة دعوة أخلاقيَّة للقانون المدني كي لا يكتفي بتنظيم العلاقات، بل أن يُصبح أداة للرحمة، والعدالة، والتضامن. فالقانون، سواء كان كنسيًا أو مدنيًا، يفقد جوهره إذا تحوّل إلى أداة للسيطرة أو الإقصاء، ويستعيد رسالته حين يُصبح خدمة للإنسان، لا سلطة عليه. وهكذا، فإن الكَنِيسَة، من خلال قانونها، تُذكّر المجتمعات المدنيَّة بأن العدالة الحقيقيَّة لا تُقاس فقط بمدى الالتزام بالنصوص، بل بمدى قدرتها على حمايَّة الضعفاء، ورفع المظلومين، وفتح أبواب الرجاء. فكما أن القانون الكنسيّ يُوجَّه نحو خلاص النفوس، ينبغي للقانون المدني أن يُوجَّه نحو خلاص الإنسان في واقعه الأرضي: في كرامته، في حقوقه، وفي قدرته على العيش بحريَّة ومسؤوليَّة.