موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في قلب مدينة حلب، وبين أنقاض الحرب وصوت القذائف، بقي الرهبان الفرنسيسكان إلى جانب الشعب، كأعمدة من نور وسط الظلام. لم تكن مهمتهم فقط تقديم المساعدات الإنسانية أو إقامة الصلوات، بل كانت رسالتهم الأعمق هي الحضور، الحضور الذي يعطي معنى للاستمرار، ويمنح القوة لمن كاد أن يفقدها.
يروي أحد الرهبان: "في أحد الأيام، اقترب مني رجل مسن، كانت عيناه تملؤهما الدموع، وقال لي: 'أبونا، وجودكم هو وجودنا. أنتم سبب بقائنا هنا. لو غادرتم، سنشعر أننا تُركنا وحدنا في هذا العالم". هذه الكلمات لم تكن مجرد تعبير عن الامتنان، بل كانت صرخة من القلب، تعكس كيف أن وجود الرهبان والراهبات في سوريا خلال سنوات الحرب كان بمثابة مرساة روحية ونفسية للناس. لقد اختاروا البقاء، رغم الخطر، ليكونوا علامة رجاء، وصوتًا للسلام، ويدًا تمتد لكل من يحتاج إلى العزاء
ويضيف الراهب: "بقاؤنا هنا ليس بطولة، بل هو واجب المحبة. نحن لا نحمل السلاح، بل نحمل الرجاء. وجودنا هو صلاة مستمرة، ورسالة صامتة تقول لكل من يعاني: لست وحدك". في زمنٍ كانت فيه الهجرة هي الخيار الأسهل، اختار الرهبان أن يكونوا شهودًا للرجاء وسط الألم، وأن يثبتوا أن المحبة لا تُقاس بالكلمات، بل بالفعل، وبالوجود الصادق إلى جانب الآخر.
لم يكن اهتمام الرهبان بالناس مجرد كلمات عزاء أو صلوات تُرفع في الكنيسة، بل كان حضورًا حيًّا في تفاصيل الحياة اليومية. كانوا يفتحون أبواب الأديرة لكل محتاج، يوزّعون الطعام والدواء، ويؤمّنون المأوى لمن فقد بيته. في لحظات الخوف، كانوا يزورون العائلات، يطمئنون على الأطفال، ويجلسون مع كبار السن الذين فقدوا الأمل. كانوا يرافقون المرضى إلى المستشفيات، ويبحثون عن الأدوية النادرة، ويقفون في طوابير الخبز مع الناس، لا كرجال دين، بل كإخوة في الألم. أحد الرهبان قال: "نحن لا نعيش في برج عاجي، بل في قلب المعاناة.
كل دمعة نراها هي دعوة لنا لنحب أكثر. كما نظّموا برامج دعم نفسي للأطفال الذين عاشوا أهوال القصف، وفتحوا صفوفًا تعليمية بديلة عندما أُغلقت المدارس. كانوا يعلّمون، يربّون، ويزرعون بذور الرجاء في قلوب صغيرة لم تعرف سوى صوت الحرب. حتى في لحظات الخطر، عندما كانت القذائف تسقط قرب الدير، لم يغادروا. بل كانوا يقولون: "إن لم نكن هنا الآن، فمتى؟ الناس لا تحتاجنا في وقت الراحة، بل في وقت الألم."
إن شهادة الرهبان الفرنسيسكان في سوريا خلال الحرب ليست مجرد قصة إنسانية، بل هي تجسيد حيّ للإنجيل في زمن الألم. لقد اختاروا أن يكونوا نورًا في الظلمة، وصوتًا للرجاء، ويدًا تمتد لكل من يحتاج إلى العزاء. وجودهم كان بمثابة صلاة مستمرة، ورسالة تقول: "لسنا وحدنا، فالله معنا، من خلال إخوتنا الذين اختاروا أن يحبوا حتى النهاية."