موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٥
أبونا يرحّب بالأب جوزيف الكرملي في أولى مقالاته: ناسوت المسيح عند الأفيليّة
يسرّ موقع أبونا أن يعلن للقراء الأكارم أن الأب جوزيف الكرملي من مصر سيبدأ بنشر مقالاته عبر صفحات الموقع. ويسعدنا اليوم أن ننشر باكورة كتاباته بعنوان: «إنسانية المسيح: إعلان محبة الله – ناسوت المسيح في كتابات القديسة تريزا الأفيليّة، قراءة عقائديّة وروحيّة». والأب جوزيف الكرملي حاصل على ماجستير في اللاهوت العقائدي من جامعة الغريغوريانا في روما، ويسعى من خلال كتاباته، خصوصًا في مجالي اللاهوت الروحي واللاهوت العقائدي، إلى خدمة الإيمان ونقل خبرة الكنيسة وتعليمها بلغة روحية رصينة وقريبة من القارئ. أهلاً وسهلاً بك يا أبونا، في بيت "أبونا".

الأب جوزيف الكرملي :

 

مقدمة

 

تُعد القديسة تريزا الأفيليّة (1515–1582) واحدة من أعظم النساء في تاريخ الروحانية المسيحية. لم تكن مجرد راهبة سعت إلى إصلاح الحياة الرهبانية، بل كانت مفكّرةً روحيةً وكاتبةً ملهمةً وصوفيةً اختبرت أعماق الاتحاد بالله. وقد نالت لقب «معلّمة الكنيسة» لما تركته من تراثٍ لاهوتيٍّ وروحيٍّ عميقٍ لا يزال يُلهم الكثيرين حتى اليوم.

 

بالنسبة إلى القديسة تريزا، يسوع هو المسيح الذي نؤمن به بالإيمان؛ المُعلَن في الكلمة، والحاضر في الإفخارستيا، والحيّ في الإخوة. تراه في الفقراء، والكهنة، والمكرَّسين، وقديسي الكنيسة، وفي جماعة المؤمنين الذين يشكّلون "كنيسة القديسين". بهذا المعنى، تعيش تريزا إيمانًا متجسّدًا، ترى فيه وجه المسيح في كل بُعد من أبعاد الكنيسة والحياة المسيحية.

 

ضمن خبرتها الإيمانية، تجلّى يسوع لتريزا بشكلٍ أعمق، لا سيّما من خلال خبرتها الصوفية التي كانت مكانًا لكشف أعماق سرّ الإيمان المسيحي ومضمونه. فقد كانت خبرتها بأكملها خبرة كريستوفانيّة (Christophanica) – أي تجلّي المسيح لها – إذ أضاء وجه يسوع قلبها وأنار حياتها الروحية. اختبرت تريزا أن وجه يسوع يكشف عن جمال إنسانيته وسرّ ألوهيته، ويشكّل لها نافذة على الله، وطريقًا نحو الاتحاد به.

 

لم يكن هذا الظهور مجرد رؤى أو حالاتٍ عاطفية، بل دخولًا تدريجيًا وعميقًا في سرّ المسيح الكامل: الإله المتجسّد. في خبرتها، لم يكن وجه المسيح صورةً ذهنيةً أو رمزيةً فحسب، بل حضورًا حيًّا وشخصيًا ومُحبًّا.

 

اذن النقطة المركزية في الخبرة الإيمانية للقديسة تريزا هي حضور وأهمية إنسانية المسيح في الحياة الروحية. فهي لم تفصل يومًا بين العلاقة بالله والارتباط العميق بيسوع المتجسد. إنسانية المسيح، بالنسبة لها ليست مرحلة عابرة في الطريق إلى الله، بل هي الطريق ذاته. لقد فهمت تريزا أن المسيح، في جسده وواقعه البشري، هو الوسيط الوحيد الذي يقود النفس إلى الاتحاد بالله، وأن التأمل في آلامه، كلماته، أفعاله، وحتى ضعفه الإنساني، هو ما يجعل الروح تنفتح على النعمة وتتقدّس. بكلماتها، لا يمكن بلوغ العمق الإلهي إلا من خلال إنسانية يسوع.

 

وقد كرّست القديسة تريزا لهذا الموضوع فصلين متوازيين في كتاباتها:

 

الأول في كتاب "السيرة"، الفصل الثاني والعشرون، وكانت حينها في سن الخمسين تقريبًا،

والثاني في كتاب "المنازل - القصر الداخلي"، في المنازل السابعة، عندما كانت في حوالي الثانية والستين من عمرها.

 

في كلا النصين، تؤكّد تريزا على أن الإنسانية المقدسة للمسيح ليست فقط بابًا إلى العمق الروحي، بل تبقى دائمًا الركيزة الضرورية لكلّ اختبارٍ إلهيٍّ أصيل.

 

لدراسة فكر القديسة تريزا، ينبغي قراءة المقطعين المذكورين بشكل متوازٍ. ومن اللافت للنظر أنه خلال الاثني عشر عامًا التي تفصل بين كتابة النصين، لم تغيّر تريزا رأيها، لا في الجوهر ولا في التفاصيل. فعلى الرغم من أنها، حين كانت تدون كتاب المنازل في أفيلا عام 1577، لم يكن بحوزتها كتاب "السيرة"، إلا أن تريزا حافظت على نفس الخطّ الفكري والمنهجي، وواصلت دعم الحُجج نفسها والتشبث بذات الرؤية الروحية عينها.

 

 

1. إنسانية يسوع المسيح كما تفهمها القديسة تريزا الأفيليّة

 

في جوهر هذا الموضوع، تكمن الخبرة الشخصية العميقة التي عاشتها تريزا، أي ما اختبرته في حياتها من صلاة وتأمل واتحادٍ بالله. فيما يخصّ إنسانية المسيح، كتبت تريزا أعمالها مقدّمةً للقارئ تعليمًا روحيًا يركّز على مركزية إنسانية المسيح في الحياة المسيحية. فالجانب الوجودي والاختباري الذي تسرده في كتاباتها يمنح نصوصها حرارةً روحيةً وواقعيةً إنسانيةً، ويجعلها بعيدة عن الجفاف النظري أو البرود العقائدي الذي قد يقع فيه بعض اللاهوتيين البعيدين عن الخبرة الروحية الشخصية. فكتاباتها تنبع من اختبارٍ حيٍّ يجعل فكرها لاهوتيًا نابضًا بالحياة، مختلفًا عن اللاهوت النظريّ المجرّد الذي يفتقر إلى التفاعل الداخلي مع سرّ الإيمان.

 

بالنسبة إلى القديسة تريزا، «إن إنسانية يسوع» تعني شخص يسوع التاريخيّ المرتبط بتاريخ الخلاص. إنها تشير إلى يسوع الذي عاش في زمانٍ ومكانٍ محدّدين، وسط أشخاصٍ وظروفٍ ملموسة. تتأمّل في كيانه وأفعاله وآلامه ومشاعره وكلماته ومحبّته، مع تركيزٍ خاص على السرّ الفصحى: آلامه وموته وقيامته المجيدة. وفي الوقت نفسه، لا ترى تريزا هذه الإنسانية عنصرًا منفصلًا عن ألوهيته، بل مندمجةً اندماجًا كاملاً في شخصه الإلهي، حيث «يشكّل الإلهي والإنساني معًا» (المنازل السادسة7: 9) جوهر كيانه وتاريخه. بكلمات أخرى، إنسانية يسوع ليست مجرّد بُعدٍ بشريّ، بل هي المدخل إلى سرّ المسيح الكامل، حيث يتّحد الإلهي بالبشري في حبٍّ خلاصيٍّ حيٍّ وفعّال.

 

وعندما تكتب القدّيسة تريزا: «ما هو جسدي» في يسوع» (را. المنازل السادسة، 7: 6)، فهي لا تختزل إنسانيّة الرب في الجانب الجسدي المادي فقط، بل تُعبّر، في خبرتها الصوفية، عن افتتانها بالتأمّل في عيني يسوع، ويديه المثقوبتين والممجّدتين، وحضوره وطريقة حديثه. هذا التأمل لا يقتصر على يسوع التاريخي، بل يمتدّ أيضًا إلى يسوع الممجَّد في المجد الإلهي. لذلك، ترى تريزا في «ما هو جسدي» نافذةً تكشف الحضور الكامل للمسيح في تواضعه وألمه ومجده. إنها ترى في العلامات الجسدية للمسيح حضورًا حيًا لله المتجسّد، سواء في حياته الأرضية أو في قيامته الممجَّدة..

 

تكتب القدّيسة تريزا: «بعد أن شاهدت جمال الرب الفائق ما عدت رأيت أحدًا بإزائه حَسَنًا ولا جديرًا بأن يشغلني. ما إن حدقت قليلاً بناظري بصيرتي في الصورة المرسومة في أعماق نفسي [...] ومذ ذاك، صرت إخالُ كل ما أراه يثير في النفور إذا ما قورن بالجمالات والمحاسن التي أراها في هذا الرب. فلا علم ولا بهجة، مهما كان شكلها، إلا وأحسبها لا شيء بالمقارنة مع كلمة واحدة أسمعها من ذاك الفم الإلهي» (كتاب السيرة 37 :4)، وتضيف أيضا: «كنت مستغرقة في التأمل ذات يوم، فشاء الربُّ أن يُريني يديه فقط، وكانتا على جمال أعجز معه عن وصفها» (كتاب السيرة28 :1). فالقديسة تعبّر في هذه النصوص عن انخطافها العميق أمام إنسانية يسوع، إذ لا تتحدث عن تصوّر رمزي أو مجرّد، بل عن رؤيةٍ داخليةٍ حيّةٍ تمسّ جمال المسيح ونظراته وكلماته وجسده الممجَّد.

 

من خلال هذه الاختبارات، تَظهر الحميمية الروحية التي تربطها بالمسيح، ويتجلّى الطابع الحسيّ لحضور يسوع في حياتها الروحية فالاتحاد بالله، بحسب تريزا، يمرّ عبر إنسانية المسيح، التي تكشف عن عمق لاهوته ومحبّته بشكل ملموس وجذّاب. هذا الحبّ العميق لجمال الربّ، حتى في تفاصيله الإنسانية، يُمثّل أحد أركان التصوّف التريزياني، حيث يمتزج الروحي بالحسّي، واللاهوتي بالاختباري، في إطار علاقةٍ شخصيةٍ حيّةٍ مع المسيح.

 

 

2. إشكالية إنسانية المسيح في زمن القديسة تريزا

 

في زمن القديسة تريزا الأفيليّة، كانت الأوساط الرهبانية والروحية تشهد تصاعدًا لفكر صوفي متأثر باتجاهات روحانيةٍ مفرطةٍ تميل إلى تجاوز كلّ ما هو محسوس أو ماديّ في مسيرة التأمل الروحي.

 

بالنسبة إلى تريزا، ظهرت مسألة حضور إنسانية المسيح أولًا على مستوى الممارسة والخبرة، ثمّ تطوّرت لاحقًا لتُطرح بمصطلحات لاهوتية أوضح. وقد تكشف نبرتها الجدلية وإشاراتها إلى بعض مؤلّفي زمنها أنّها كانت تخوض موضوعًا مثيرًا للجدل، وقد دفعت أيضًا ثمن بعض التفسيرات الخاطئة التي اتبعتها في حياتها.

 

ومع ذلك كانت تمتلك قناعاتٍ راسخةً وبراهينَ قويّة، إلى حدّ أنها وكانت مستعدةً لمناقشة أفكارها مع اللاهوتيين وأساتذتها. فقد استندت في مواقفها إلى الكتاب المقدّس وخبرتها الروحية العميقة، ما منحها القدرة على المساهمة في توضيح هذه المسألة.

 

لقد أُثيرت المسألة آنذاك في الأوساط الرهبانية، حيث نشأت نزعة إلى ترك التأمل في إنسانية المسيح وأسراره والانتقال مباشرةً إلى التأمل في ألوهيته. وهي قضية معقّدة تتعلّق بتفسير النصوص الكتابية وفهمها روحيًا. فعلى سبيل المثال، كان الإختلائيون أمثال أوسونا ولاريدو يدعون إلى التخلّي عن الجسديات، ومنها ناسوت المسيح، من أجل الارتقاء إلى المشاهدة الروحية الخالصة. وحين حاولت تريزا تطبيق هذا التعليم اختبرت خيبة أملٍ وشعورًا بالفراغ الروحي، فكتبت فيما بعد تدافع عن خبرتها وتؤكّد عن خطورة التخلّي عن ناسوت المسيح وضرورة التأمل بالآلامه.

 

كان ردّ فعل القدّيسة عفويًا وعميقًا، إذ أكّدت بحزم على أهمية عدم إهمال التأمل في إنسانية يسوع ضمن الخبرة الروحية المسيحية. لم تدخل تريزا في تفاصيل الجدل اللاهوتي أو في تحليل آراء الروحيين، بل وقفت إلى جانب المؤمنين البسطاء الذين قد يَفهمون تلك المواقف على أنها رفض واضح لحضور المسيح الإنسان في مسيرة الحياة الروحية ورأت في ذلك فكرًا يتعارض مع الإيمان المسيحي وخبرتها الشخصية. فقد كانت في شبابها قد تخلّت فترةً عن صلاتها البسيطة القائمة على الحوار الداخلي مع المسيح الحاضر في النفس، قبل أن تكتشف مجدّدًا عمق العلاقة الشخصية معه من خلال التأمل.

 

وبحسب ما تؤكده تريزا، كانت المشكلة تُطرح آنذاك تقريبًا على النحو التالي: في الدرجات أو المراحل العليا من التأمل الصوفي، يُفترض بالمتأمّل أن يصبح «روحانيًا كاملاً» فيتجاوز كلّ ما هو جسدي، وبالتالي يتجاوز إنسانية يسوع أيضًا. وسوف يتوجب عليه –بحسب هذا الرأي– أن يضعها جانبًا لأنها قد تُقيّد تأمله في الألوهية التي هو مدعو إليها. كانت هذه رؤية روحانية مفرطة تُفسِّر الكمال المسيحي تفسيرًا أحادي الجانب.

 

وترى القدّيسة أنّ هذه الرؤية تستند من الناحية العقائدية إلى تفسير وتأويلٍ غير دقيقٍ لكلمات يسوع الواردة في (يوحنا 16، 7): «صدقوني، من الخير لكم أن أذهب، فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم المعزي. أما إذا ذهبت فأرسله إليكم». وقد فُسِّر هذا النصّ الإنجيلي،  من قِبل بعض آباء الكنيسة، ولاحقًا أيضًا من بعض المؤلفين الروحيين الإسبان في القرن السادس عشر في زمن تريزا، على أنه مبرّر روحي للتخلّي عن العلاقة الشخصية مع يسوع المتجسّد، من أجل بلوغ حضور الروح القدس والحياة في الله، على الرغم من مركزية المسيح الواضحة في فكرهم جميعًا.

 

 

3. يسوع وناسوته المقدّس في تعليم القديسة تريزا

 

بعد تحديد الإشكالية، تجيب تريزا أولاً على المستوى الوجودي، من خلال سرد خبرتها الشخصية، ثم تقدّم أسبابًا وعللًا لاهوتية دقيقة على المستوى العقائدي.

 

أولاً: على المستوي الوجودي

 

في مسيرتها الروحية، كانت تريزا ضحية لهذا التوجّه الروحاني المفرط. فبمجرد أن بدأت خبرتها التأملية والصوفية، نُصحت بأن تتخلى عن التأمل في إنسانية المسيح وناسوته. لكن هذا التوجّه لم يستمر طويلاً، إذ شعرت سريعًا بفراغٍ داخليٍّ عميقٍ ووحدةٍ روحيةٍ خانقة. لذلك، عادت القديسة بحماسٍ إلى ممارسة الصلاة انطلاقًا من التأمل في يسوع كما تقدّمه الأناجيل، واكتشفت أن النعمة الكبرى في الحياة الصوفية تأتي من التعمّق في إنسانية يسوع. وفيما بعد، أثناء كتابتها واسترجاعها لهذه التجربة، عبّرت عن خجلها وأسفها لأنها استسلمت لهذا التعليم.

 

تكتب القديسة تريزا في كتاب السيرة: «من أين اتتني جميع الخيرات والنعم إن لم يكن من لدنك؟ لا أود التفكير بأني أتيتُ في هذا الأمر ذنبا، فإنني أتألم كثيرًا، ولقد كان ذلك بالتأكيد جهلاً مني، فأردت أنت، بلطفك وصلاحك، أن تعالجه بإرسالك الي من ينقذني من هذا الخداع، وأن تُظهر ذاتك لي من ثُمَّ مَرّات كثيرة، لأدرك بشكل أوضح كم كان خطأي وذنبي كبيرا، كي أخبر به كثيرين حدثتهم عنه، ولأثبته الآن هنا». (السيرة 4:22). بهذا الاعتراف، توضّح تريزا أن خبرتها الشخصية كانت المدخل لفهمها اللاهوتي العميق لإنسانية المسيح.

 

ثانيًا: على المستوى العقائدي

 

بعد أن عرضت القديسة تريزا خبرتها الشخصية وموقفها الوجودي من هذا التعليم، تنتقل بخطى ثابتة إلى المستوى العقائدي، لتُبيّن بالأدلّة اللاهوتية أن ما عاشته في صلاتها ليس مجرّد إحساس عاطفي أو تجربة فردية، بل هو حقيقة إيمانية متجذّرة في العقيدة المسيحية. فهي تستند إلى الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة، لتبرهن أن التأمل في إنسانية المسيح هو الطريق الأصيل إلى الاتحاد بالله.

 

تؤكد تريزا بقوة أن «من ربنا تأتينا كل الخيرات، أنظر إلى حياته، وهو يعلمك، فأنها خير أفضل مثال» (السيرة 22: 7)؛ و«حين رأيتك بقربي، رأيت جميع الخيرات» (السيرة 22: 6)؛ و«خيراتٍ عظيمةٍ كالتي تَنطوي عليها أسرارُ خيرنا، يسوعَ المسيح. خيرات عظيمة كهذه الموجودة في أسرار خيرنا، يسوع المسيح» (المنازل السادسة 7، 12). ومن خلال هذه الشهادات المقتبسة من كتابَي السيرة والمنازل، تضع القديسة تريزا قائمة طويلة من «الأسباب اللاهوتية» لدعم أطروحتها وخبرتها الشخصية. وهي لا تكتفي بمجرد سرد خبرتها الشخصية، بل تبرر موقفها بعمق من خلال حجج عقائدية مستندة إلى الإيمان والعقيدة. من بين هذه الأسباب:

 

أ) قبل كل شيء، ترفض تريزا الاعتقاد بأن النصّ اليوحنّاوي (يوحنا 7،16) يعني ما ينسبه إليه البعض. أي أنه من الأفضل في الصلاة التخلي عن التأمل في إنسانيّة المسيح من أجل بلوغ خبرة روحيّة أسمى. ترى تريزا أن هذا التأويل خاطئ تمامًا، وتؤكد أن حضور إنسانية المسيح يبقى أساسيًا حتى في أسمى درجات الحياة الروحية. بالنسبة لها، تبقى كلمات يسوع صالحة بشكل مطلق: «فإن الربَّ نفسه يقول إنه هو الطريق؛ ويقول الربّ أيضًا انه نور؛ وأن لا أحدَ يستطيع الذهاب إلى الآب إلاّ به، وان من يراني يرى أبي. قد يقولون إن لهذه الكلمات معنى آخر، أمَّا أنا، فلا أعرف هذه المعاني الأخرى، فهذا المعنى، الذي تشعر نفسي دائمًا أنه الحقيقة، لاءمني تمامَ الملاءَمة». (المنازل السادسة 7، 12). وتضيف: «رأيت بوضوح أنه يجب عليّ الدخول من هذا الباب» (السيرة 6،22). وبهذا، قدّم تريزا أساسًا كتابيًا متينًا لتأكيد شرعية التأمل في إنسانية المسيح كطريق ضروري للحياة الروحية.

 

ب) ترى تريزا أن التخلّي عن إنسانية يسوع يُعدّ قمة الكبرياء، في حين أن البناء الروحي بأكمله مؤسَّس على التواضع (را.السيرة 22: 5-11). فمَن يظن أنه قادر على بلوغ درجات عالية من الحياة الروحية دون المرور عبر إنسانية المسيح، إنما يفتح الباب للغرور الروحي. فالاتحاد بالله لا يتحقق بالتجرد المتعالي وحده، بل عبر التواضع العميق الذي يمرّ من خلال سرّ التجسد وآلام يسوع، حيث يظهر الله في أقرب صوره إلى الإنسان.

 

ج) تستند تريزا، بالإضافة إلى ذلك، إلى شهادة القديسين، قائلة: «فلنتأمل القديس بولس المجيد، الذي كان يبدو، وكأنه يحمل دائمًا اسم يسوع على شفتيه، فقد كان كمن يمتلكه في قلبه امتلاكا.» (السيرة 7،22).  وتضيف إلى بولس الرسول أمثلة أخرى من قديسي التقليد المسيحي الذين حافظوا على علاقة حية وعميقة بإنسانية المسيح، مثل القديس فرنسيس الأسيزي، والقديس برناردوس، والقديس أنطونيوس البادواني، والقديسة كاترينا السيانية (را. السيرة 7،22). من خلال هؤلاء الشهود، تؤكد تريزا أن أعظم القديسين لم يتجاوزوا إنسانية المسيح في حياتهم الروحية، بل جعلوها محور علاقتهم بالله، مما يعزز رؤيتها ضد التيارات التي تدعو لتجاوز الجسد والتأمل فقط في الروح المجردة، وأن الطريق الحقيقي إلى الله يمر دائمًا بيسوع الإنسان والإله معًا.

 

د) تُدخِل القديسة تريزا أيضًا بُعدًا إنسانيًا ونفسيًا في حجّتها، فتقول: «نحن لسنا ملائكة، بل لدينا جسد. فأن نرغب في التصرف كأننا ملائكة ونحن على الأرض، هو ضربٌ من الجنون» (السيرة 10،22). هذا الموقف الحازم ضد أي نزعة «روحانية مفرطة» ينبع من حقيقة أننا بشر ولسنا كائنات روحانية خالصة. ومن ثمّ نحن بحاجة إلى المسيح في إنسانيته. وتضيف: «المسيح دائمًا صديق صالح وطيب جدًا، لأننا ننظر أليه إنسانًا مثلنا، ونراه في ضعفه ومشقاته، ونري فيه رفيقا» (السيرة 10،22). بهذا، لا تعبّر تريزا هنا فقط عن موقف لاهوتي، بل أيضًا عن حاجة نفسية وروحية عميقة في الإنسان: الحاجة إلى علاقة واقعية وحميمة بالمسيح القريب، لا كفكرة مجردة بل كشخص يشاركنا ضعفنا ويقودنا إلى الله. ومن ثمّ يصبح التأمل في إنسانيته وسيلة فعالة وعميقة في الحياة الروحية. لهذا السبب بالتحديد، قد مدّد الرب حضوره بشكل سرّي ومستمر في سرّ الإفخارستيا: «ها هو هنا، رفيقًا لنا في سرّ القربان الأقدس، حتى ليبدو وكأنه لم يكن باستطاعته أن يبتعد عنا ولو لحظة واحدة» (السيرة 6:22). ومن هنا، تتساءل تريزا بمرارة: أليس السعي لتجاوز أو تجاهل إنسانيّته المقدسة، ألا يقودنا في النهاية إلى «فقدان التقوى تجاه سرّ القربان الأقدس»؟ (المنازل السادسة 7: 14). هذا السؤال المؤلم يعيدنا إلى جذور الإيمان المسيحي نفسه، ويُظهر أن المشكلة لا تخص فقط المتصوفين أو أصحاب الخبرات الروحية العميقة، بل تمسّ كل مؤمن. فتريزا تذكّرنا بأن العلاقة بالمسيح تمرّ من خلال حضوره الحيّ والملموس في سرّ القربان، وأن التخلي عن إنسانيته لا يهدد فقط الحياة الروحية الفردية، بل يشوّه جوهر الإيمان المسيحي ذاته.

 

إن مضمون هذا الحديث، إذًا، يتجاوز بكثير مجرد رفض رأي "الروحانيّين" في زمنها، فالأمر لا يقتصر على الرد على تأويلات لاهوتية، بل يتعلق بإعلان لاهوتي جوهري: هو التأكيد على أن سرّ المسيح، الإله والإنسان، هو الطريق والمقياس لكل حياة روحية: تقول تريزا: «لأنهم إذا فقدوا الدليل، الذي هو يسوع الصالح، فلن يجدوا الطريق [...] أليس الرب نفسه يقول إنه هو الطريق؟ ألا يؤكد أيضًا أنه هو النور، وأنه لا يمكن لأحد أن يذهب إلى الآب إلا من خلاله؟ وألا يقول أيضًا: من رآني فقد رأى الآب؟» (المنازل السادسة 7: 6). هكذا لا تردّ تريزا على تيار فكري معيّن فحسب، بل تقدّم دفاعًا شاملًا عن الإيمان المتجسّد، وعن مركزية إنسانية المسيح في الحياة الروحية.

 

هي لا تعارض فقط رأيًا لاهوتيًا أو تجربة روحية، بل تكشف خطورة الانفصال بين الروح والجسد في الفهم المسيحي، وتحذّر من روحانية مفرغة من التجسّد، قد تؤدي إلى فقدان المعنى الحقيقي للعلاقة بالله، وللأسرار المسيحية وفي مقدّمتها الإفخارستيا. لذلك، يحمل كلامها بُعدًا لاهوتيًا وراعويًا وإنسانيًا يهمّ كل مؤمن، وليس فقط المتصوّفين أو اللاهوتيين.

 

وترتبط الخبرة الصوفية لإنسانية المسيح في فكر القديسة تريزا ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الإنسانية المسيحية ومحبة القريب على مثال المسيح، والتي تصبح معيارًا لكل ممارسة مسيحية حقيقية. فكما أن إنسانية المسيح تنعكس في الإنسانية المسيحية، كذلك محبته للبشر تُعدّ الأساس لكل عمل بالمحبة. وهكذا نجد أنفسنا أمام ما يمكن تسميته "كريستونومية تريزية" (Cristonomia teresiana) ، أي رؤية لاهوتية وروحية تُحاور الحياة اليومية، وتتمحور حول سرّ المسيح، الإله والإنسان.

 

وفي قمة خبرتها الروحية، والتي تميّزت بغزارة النعم الصوفية ذات طابع كريستولوجي، تعترف تريزا بأنها لا تكف أبدًا عن «السير مع المسيح ربنا بطريقة رائعة، يكون فيها اللاهوت والناسوت مجتمعين معا، رفيقا لها دائما» (المنازل السادسة 7: 6). بهذا تؤكد تريزا أن الاتحاد بالله لا يتم بتجاوز إنسانية المسيح، بل بالمرور منه وفيه، لأن إنسانية المسيح ليست فقط وسيلة بل هي أيضًا غاية، وهي الصورة التي منها يُفهم الله ويُحب القريب وتُعاش الحياة الروحية الحقيقية.

 

في الروحانية التريزيانية، تُعدّ هذه القيمة المطلقة لإنسانية يسوع وحضوره المستمر في كل مراحل الحياة الروحية أمرًا جوهريًا وأساسيًا. فالقديسة تريزا لا ترى إنسانية المسيح كمرحلة أولية يمكن تجاوزها لاحقًا، بل كعنصر دائم ومؤسّس لكل علاقة بالله، من البدايات إلى أعلى مراحل الاتحاد الصوفي. إن حضور المسيح المتجسّد ليس مجرد وسيلة، بل هو الطريق ذاته، والمثال، والمرافقة الحيّة التي تسير مع النفس في مسيرتها الروحية. هذه النظرة تجعل من يسوع، الإله والإنسان، المحور الثابت والمركزي في كل تجربة إيمانية وروحية، وتُغلق الباب أمام أي روحانية "مجرّدة" تفصل بين الله والواقع الإنساني الملموس.

 

 

4. الأبعاد المتعددة لإنسانية يسوع في تعليم القديسة تريزا الأفيليّة

 

لقد سلطت القديسة تريزا الضوء على جوانب وأبعاد متعددة من سرّ يسوع الذي لا ينضب، إذ لا تقتصر رؤيتها على بعد واحد، بل تشمل أبعادًا متنوعة تعبّر عن عمق خبرتها الروحية وحسّها الإنساني العميق. فيما يلي أبرز الصور التي تظهر في كتاباتها وتعليمها، والتي تُشكّل محاور أساسية في فكرها الروحي:

 

أ) يسوع هو "عبد يهوه":

 

تندهش تريزا من سرّ الإخلاء والاتضاع الإلهي ((kenosi  الذي عاشه يسوع، والذي يبدأ بتجسّده ويبلغ ذروته في آلامه وموته، فهي ترى في هذا الاتضاع إدراج الإلهي وإدخاله في صميم الواقع الإنساني. وتُبدي تريزا خشوعًا عميقًا أمام فقره وتجرده، فتكتب: «لم يكن لملكنا بيت سوى مغارة بيت لحم حيث وُلد، والصليب الذي مات عليه» (طريق الكمال 9:2). وترى أن قمة الاتضاع الإلهي الذي عاشه يسوع، تتجلّى في الإفخارستيا، حيث يُخفي ربّ المجد نفسه «هنا والآن» تحت شكلَي الخبز والخمر، لكي «يجعل نفسه موجود في القربات المقدس» (السيرة 38: 19). هذا الإدراك العميق للإخلاء الإلهي يجعل من يسوع قلب العلاقة بين الله والإنسان، ويكشف كيف أن المحبة الإلهية تبلغ أقصى درجاتها في الاتضاع والمشاركة في ضعف الإنسان.

 

بهذا، تقدّم تريزا يسوع كالإله الذي لا يكتفي بأن يقترب من الإنسان، بل يتنازل إلى أقصى درجات التواضع والفقر كي يدخُل في علاقة حقيقية، ملموسة، وشخصية مع كلّ من يؤمن به.

 

 

ب) يسوع هو صاحب الجلالة:

 

تريزا لا ترى في يسوع فقط العبد المتواضع، بل أيضًا الملك ووربّ المجد المتعالي فوق كل شيء. وتخاطبه غالبًا بألقاب مهيبة مثل: «جلالتكم»، أو «جلالك»، للتعبير عن إدراكها العميق لعظمته الإلهية.

 

لكن اللافت أن عظمة يسوع لا تتنافى مع تواضعه؛ بل ترى تريزا في اتحاده بين اللاهوت والناسوت سرًّا مدهشًا: «الالوهية والإنسانية مجتمعين في الوقت ذاته» (المنازل السادسة 7:9 (. وبشكل عام، حين تدعوه تريزا «ملكي، إمبراطوري، سيدي»، فهي تجمع بين الإعجاب العميق والحنان الشخصي. تكتب تريزا «إيه ربّي! إيه يا ملكي! من تُراه يستطيع أن يصف جلالك! يستحيل ألاّ نرى أنّك، بذاتك، امبراطورٌ عظيمٌ؛ فمشاهدة هذا الجلال تُذهل النفوس، لكنّ مشاهدة تواضعكَ، ربّي، وهذا الجلال، والحُبّ الذي تُبديه... تزيد من الذهول» (السيرة 6،37). في إحدى مناجاتها الشخصية في كتاب طريق الكمال، تشارك القديسة تريزا قرائها بالنعمة الخاصة التي تختبرها عندما تصلي قانون الإيمان، فتقول «ما هذا، يا سيّدي؟ ما هذا، يا سلطاني؟ كيف يمكن قبوله؟ إنّك ملكٌ، يا إلهي، إلى الأبد، لأن مُلْكَك ليس مستعارًا. وعندما نقول في قانون الإيمان "لا فناء لملكه"، أشعر بلذّة خاصّة. أسبِّحك، يا ربّ، وأباركك إلى الأبد. الخلاصة، إن مُلْكك يدوم أبدًا» (طريق الكمال 1،22)

 

بهذا، تُظهر تريزا كيف أن المزج بين المهابة والحنان، تظهر العلاقة الفريدة التي تعيشها مع يسوع: علاقة تقوم على محبة عميقة ووقار لا حدّ له. فليس بين الاتضاع الإلهي والجلال الإلهي تعارض، بل تكامل يكشف عن وجه الله الكامل، حيث تتلاقى الألوهة والإنسانية في علاقة شخصية حميمة وعميقة.

 

 

ج) يسوع هو الجمال المطلق:

 

تتميّز الخبرة الكريستولوجية لدى القديسة تريزا أيضًا ببُعد جمالي عميق. فمحبتها للمسيح ليست عقلانية أو إيمانية فحسب، بل تحمل طابعًا ذوقيًّا وجماليًّا قويًّا.

 

لا تملّ تريزا من تمجيد جمال يسوع، كما في (السيرة 28، 1-3)، حيث تعبّر عن انبهارها العميق عن جمال يديه، ووجهه، ونظرته، ونوره. بحيث لا تقدر أن تصف ما تراه، وتكتفي بالدهشة والاندهاش: «كنت مستغرقةً في التأمّل ذاتَ يوم، فشاءَ الربُّ أن يُريَني يديه فقط، وكانتا على جمالٍ أعجِز معه عن وصفها. نالني روعٌ شديدٌ لأنَّ أيَّ شيءٍ جديدٍ في أيَّةِ نعمةٍ فائقة الطبيعة يَمنحُنها الربّ يُحدِثُ بي، في البدءِ، خوفًا عظيمًا. وبعد بضعةِ أيّامٍ، رأيتُ أيضًا ذلك الوجهَ الإلهي وقد أخذَ، فيما أظنّ، بمجامع قلبي».  وتلجأ أحيانًا إلى لغة شعرية صوفية للاحتفال بهذا الجمال الفائق، ومن أجمل ما كتبته قولها: « يا جمالًا يفوقُ - كلَّ جمالٍ آخر» (قصيدة 6(.  

 

في هذا السياق، يُصبح يسوع ليس فقط موضوعًا للإيمان والتأمل، بل أيضًا مُلهمًا للحبّ والجمال. فاختباره لا يملأ العقل فحسب، بل يخطف القلب والحواس، ويحوّل اللقاء به إلى اختبار جمال داخلي عميق. وهكذا، يظهر يسوع في روحانية تريزا كمصدر الحق والخلاص، وأيضًا كمصدر للجمال الذي يشدّ النفس نحوه بكل كيانها.

 

 

د) يسوع هو المعلم والمثال المطلق:

 

لا تكتفي تريزا بتأمل وتذوق كلمات يسوع كما وردت في الإنجيل، بل تعيش خبرة التتلمذ له على نحو صوفيّ عميق. بالنسبة لها، يسوع هو المعلّم الإلهي الذي تُصبح كلماته حياةً وتجربة حيّة في النفس.  تقول تريزا «فلا علم ولا بهجة، مهما كان شكلها، إلاّ وأحسبها لا شيء بالمقارنة مع كلمةٍ واحدة أسمعها من ذاك الفم الإلهيّ» (السيرة 4،37). وفي قاموسها الروحي، تُشير تريزا إلى يسوع بلقب المثال المطلق (راجع السيرة 7،22؛ المنازل السادسة 13:7)، تأكيدًا على كونه المثال الأعلى، فهو ليس فقط مَن يُعلّم، بل أيضًا مَن يجب الاقتداء به بالكامل في الفكر والعمل والموقف.

 

ومن الملفت أنها كتبت على غلاف كتاب صلواتها اليومية كلمات يسوع: «تعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب»، وقد كتبنها لتتذكّرها دائمًا في كلّ مرّة تفتح الكتاب للصلاة. فيسوع هو المثال المُطلَق.

 

فبالنسبة لتريزا، يسوع هو المثال والمعلم الذي يُربّي النفس من الداخل، لا من خلال التعليم النظري فقط، بل عبر حضوره وكلماته وحياته كلّها.

 

 

ه) المسيح هو العريس بشكل خاص:

 

يُعدّ هذا البُعد أكثر الأبعاد بروزًا في رؤية القديسة تريزا لسرّ يسوع. فهي ترى في المسيح العريس الموصوف في نشيد الأناشيد، الحبيب الذي يسعى إلى النفس بشغف، والذي تنشده النفس بدورها بمحبة متبادلة.

 

هذا البُعد العُشقي يشكّل جوهر الخبرة الصوفية التريزيانية، حيث العلاقة مع المسيح ليست مجرد عبادة أو تبعية، بل علاقة حبّ شخصيّ ومتبادل بين العريس والنفس. في كتاب المنازل، تصف تريزا قمة الحياة المسيحية بأنها حدث زفافي، اتحادٌ عميق ومقدّس بين المسيح والعقل والنفس، حيث يبلغ الحُبّ فيه ذروته بين الطرفين المتحابَّين: المسيح والعروس (النفس).

 

فالمسيرة الروحية، بحسب تريزا، لا تبلغ كمالها في التقدّم الأخلاقي أو السلوكي، بل في تحقيق ملء المحبة المتبادلة. لذلك، حين تتحدث عن القداسة، لا تركّز على مفهوم «الكمال» كغاية في ذاته («كونوا كاملين»: المنازل الخامسة 7،3)، بل على صدق الحبّ المتبادل بين المسيح والنفس (المنازل السابعة 3،3). بهذا، تُصبح القداسة نفسها عند تريزا ليست حالة أخلاقية فحسب، بل علاقة حبّ مكتمل ومقدّس، يتجلّى فيها اتحاد العروس بعريسها الإلهي، اتحادًا يلامس أعماق الوجود الإنساني، ويحوّله إلى شركة حبّ إلهي.

 

إنه الحبّ الذي لا يطلب شيئًا لنفسه، بل يذوب في الآخر، في المسيح، ويجد فيه هويته وسعادته وكماله.

 

كل هذه الصور تُشكّل في فكر القديسة تريزا رؤية متكاملة للمسيح: الإله المتجسّد، القريب، المتألّم، الممجَّد، الحيّ في الأسرار، والمصدر الدائم للحياة الروحية.  إنها الرؤية التي تشكل قلب الروحانية الكرملية، وتمنح تعليم تريزا فرادته وعمقه، حيث يلتقي اللاهوت بالحبّ، والعقيدة بالحياة.

 

 

الخاتمة

 

مما عرضناه سابقًا، يتّضح أنّ القديسة تريزا تمتلك رؤيةً واقعيّةً ومنسجمةً بعمقٍ لشخص يسوع المسيح. فعلى الرغم من أنّها لم تُقدّم كريستولوجيا منهجيّة أو منظّمة في كتاباتها، إلا أنّ مؤلّفاتها تكشف رؤيةً لاهوتيّةً عميقةً للمسيح تُضفي على روحانيتها بُعدًا جديدًا ومميزًا.

 

تريزا تفهم يسوع انطلاقًا من إنسانيّته، لا كعنصرٍ ثانويّ، بل كمدخل جوهري إلى سرّ ألوهيته. وفي تركيزها على إنسانية يسوع المتجسد، الصديق، المعلم، المتألّم، والعريس، فهي تقترب من جوانب عديدة، من المقاربات الكريستولوجية الحديثة التي تسعى إلى دمج البعد التاريخي والوجودي لشخص يسوع مع أبعاده اللاهوتية والروحية. إن كريستولوجيا تريزا ليست نظريةً جامدةً، بل خبرةٌ حيّة تنبثق من الصلاة والتأمّل والممارسة والاتحاد الشخصي بالمسيح، فتُشكّل قلبًا نابضًا لروحانيتها، وتقدّم نموذجًا مسيحيًّا متكاملاً يجمع بين اللاهوت والحياة، بين العقيدة والمحبّة.

 

لم يكن لقاء القديسة تريزا الأفيليّة بإنسانية المسيح لقاءً سريعًا أو عابرًا، بل كان مسيرةَ اكتشافٍ بطيئةً ومتعمّقةً نضجت عبر الزمن، حتى بلغت في النهاية قناعةً راسخةً تقول: إنه لا يمكن محبّة المسيح والعيش معه دون أن نظلّ محدّقين في ألوهيّته كابن الله، وفي إنسانيّته كابن الإنسان، في آنٍ واحد. وهذه القناعة تنسجم تمامًا مع ما يقوله القديس يوحنا الإنجيلي في رسالته الأولى: «الذي كان من البدء، الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة، والحياة تجلت فرأيناها والآن نشهد لها ونبشركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وتجلت لنا، الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتكونوا أنتم أيضا شركاءنا، كما نحن شركاء الآب وابنه يسوع المسيح» (1يوحنا 1:1-3). هذا النصّ الإنجيلي يُعانق بعمق خبرةَ تريزا، التي لم تكتفِ بتأمّل المسيح من بعيد، بل دخلت في علاقةٍ ملموسةٍ وحيّةٍ به، ورأت في تجسّده، بما يحمله من وجهَيه الإلهي والبشري، المدخلَ الحقيقيَّ لكلّ محبّةٍ صادقةٍ واتحادٍ روحيٍّ أصيلٍ بالله.

 

وتستخدم تريزا هذه النظرة الإنجيلية كمنهجٍ روحيٍّ متكامل: فالحياة المسيحية، في منظورها، لا تقوم على الإيمان بكائنٍ سماويٍّ غير منظور، بل على خبرة حيّة بيسوع المتجسّد، الذي يُمكن التأمل فيه، الإصغاء إليه، محبته، واتباعه في ملموسية الحياة اليومية. وهكذا، تُصبح إنسانية المسيح في فكر تريزا ليست فقط حقيقة لاهوتية، بل طريقًا عمليًا للقداسة والاتحاد بالله. طريقًا تتلاقى فيه العقيدة والخبرة، ويتجلّى فيه الحبّ كجوهر الإيمان وحياته.

 

يقول البابا بندكتوس السادس عشر، في المقابلة العامة بتاريخ 2 فبراير 2011، والتي خصّصها للقديسة تريزا الأفيليّة، ولا سيّما حول إنسانية المسيح: «بالنسبة لتريزا، الحياة المسيحية هي علاقة شخصية مع يسوع، التي تبلغ ذروتها في الاتحاد به بواسطة النعمة، وبالمحبة، وبالاقتداء به. ومن هنا تأتي الأهمية التي تعطيها للتأمل في الآلام وفي سر الإفخارستيا، باعتبارها حضورًا حيًا للمسيح في الكنيسة، وفي حياة كل مؤمن، وقلبًا نابضًا لليتورجيا». هذا الكلام يُلخّص بدقة جوهر روحانية تريزا: الإيمان بشخص يسوع، التأمل في آلامه، حضور الإفخارستيا، والارتباط العميق بجسد الكنيسة. إنها رؤية تجعل من الحياة الروحية علاقة حية ومتجذّرةً في التاريخ، تتجسّد في الصلاة والمحبّة والالتزام الكنسيّ العميق.

 

إنّ رؤية القديسة تريزا للمسيح تنطلق من الاعتراف بوحدة الرب في كينونته وفي أعماله، وذلك في مواجهة بعض اللاهوتيين في زمنها الذين كانوا يميلون إلى التقليل من شأن البعد الإنساني للمسيح لصالح بُعده الإلهي. لكنها ترى في المسيح شخصًا واحدًا لا ينقسم، تتّحد فيه الألوهية والإنسانية اتحادًا لا ينفصل، في كلّ كيانه وفي كلّ عمله. فالمسيح الذي تتأمّله وتناجيه في صلاتها هو دومًا يسوع القائم من الموت، الذي يتّحد فيه الكلمة الأزلي (اللوغوس) بيسوع الناصري في وحدةٍ خلاصيّةٍ حيّة. إنّه المسيح القائم من بين الأموات، الذي تندمج فيه إنسانية الناصري بألوهية الكلمة في تآلفٍ سرّيٍّ فاعل. لذلك، حين تتحدث تريزا عن ناسوت المسيح المقدس، فإنها لا تشير فقط إلى طبيعته البشرية، بل إلى الواقع الكامل والمتكامل لشخص يسوع: الإله والإنسان معًا، في سرّ لا ينفصل. إنها تتأمل دائمًا الكلّ: إنسانًا وإلهًا، متجسدًا وقائمًا. وبذلك، تكون تريزا قد تجاوزت الانقسامات اللاهوتية السائدة في زمنها، وقدّمت فهمًا شخصيًا متكاملاً للمسيح، حيث لا وجود لفصلٍ بين الألوهي والإنساني، بل اتحادٌ خلاصيٌّ حيٌّ يجعل من المسيح نقطةَ التقاء الله بالإنسان، ومركزَ كلّ حياةٍ روحيةٍ أصيلة.

 

في النهاية، فالقديسة تريزا لا تهدف إلى عرض إنسانية يسوع كموضوعٍ عقائديٍّ مجرّد، بل تطوّر كريستولوجيا اختبارية (عمليّة)، حيث يكون المسيح، بكلّ واقعيّته وتجسّده، الوسيطَ المباشر للتقديس. وهي تُركّز بإلحاح على جوانب يسوع الإنسانية، لا لمجرّد التأمل العاطفي، بل لاكتشاف وجه الله الحاضر والفاعل في التاريخ وفي الإنسان.