موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يعد الإعلام المعاصر بلا شك أكثر الأدوات مضيًا في التأثير على الأحداث، وتوجيه الرأي العام هذه الأيام، وما من ظاهرة تواجدت أو فكرة تصاعدت إلا وكان وراءها إعلام موجه يضع النقاط فوق الحروف ويهيىء الأجواء لقبول دعايات لم تكن متاحة من قبل، وإذا كان هناك إجماع على أن الأوضاع الاقتصادية تلعب دورًا فعالاً في توجيه النظم وتحريك الحكومات فإن التقدم التكنولوجي قد منح هذه الأداة الخطيرة أسلحة جديدة تجعلها قادرة على تغيير الرأي العام في بلد معين، وإعادة صياغته في بلد آخر لتوجيه مساره نحو أهدافٍ محددة، فالحركة الصهيونية مثلاً برعت خلال ما يزيد على قرن كامل في زراعة فكرة جديدة لم تكن الأرض ممهدة لها، ويكفي أن نتذكر أن الحديث عن دولة لليهود لم تكن هي القضية الأولى المطروحة في البداية ولكن الأمر تدرج تاريخيًا وجغرافيًا على نحو مشهود، بل ولم تكن فلسطين هي المرشح الأوحد للسطو على أرضها والعدوان على شعبها وسرقة وطنها، بل كان جزء من الأرجنتين مرشحًا وأرض أوغندا مطروحة كذلك، ولكن جاذبية الأرض الفلسطينية كانت أقوى وأشد لأسباب تاريخية وادعاءات دينية وظروف سياسية، فالشرق الأوسط في قلب العالم ولا يبعد عن أوروبا كثيرًا، ويمكن حماية الأرض فيه من خلال الامبراطوريات الاستعمارية الموجودة في المنطقة خصوصًا البريطانية والفرنسية، لذلك عكف الدعاة الأوائل للدولة الصهيوينة على هذا الأمر لعقود طويلة فأخفقوا مع بلاط نابليون وبلاط محمد علي وحققوا إنجازًا محدودًا مع بعض السلاطين العثمانيين، ولكنهم ظلوا في النهاية يحلمون بما يسمونه أرض الميعاد بما لها وما عليها.
وإذا انتقلنا إلى الجانب الآخر للتأثير الإعلامي المعاصر فإن ما نطلق عليه ظلمًا تعبير «الإسلام السياسي» هو المرادف العكسي للحركة اليهودية في فلسطين، فمع تدهور وضع الخلافة العثمانية وتمزق تركة «الرجل المريض» أصبح المشهد ملائمًا لأفكار قومية تملأ الفراغ أو نداءات دينية تستحوذ على مشاعر الملايين، ومع سقوط الخلافة بفعل الأتاتوركية، وما ارتبط بها من نزعة تورانية بدا الوضع ملائمًا للحديث عن بديل للخلافة يأتي هذه المرة شعبويًا وليس نخبويًا، فتلقف حسن البنا ورفاقه عناصر المشهد الجديد للبناء عليه منذ عام 1928 انطلاقًا من مدينة الإسماعيلية التي كانت تضم نسبة كبيرة من الأجانب بحكم وجود إدارة شركة قناة السويس فاستجاب الآلاف لتلك الدعوة وباركها الجميع بحماس جعلها تنتشر في الريف المصري والمدن الصغيرة كالنار في الهشيم، ولم يكن الإعلام قضية صعبة بالنسبة لهم في ذلك الوقت لأنهم يستندون –ولو ادعاءً- على عقيدة دينية راسخة ونظرية إسلامية متداولة، فكانت كلمة (الله أكبر ولله الحمد) تكفي وحدها شعارًا لتجسيد معنى الحاكمية في الفكر الإسلامي المعاصر، وهنا لعب الإعلام مرة أخرى دورًا موازيًا لما لعبه مع أفكار أخرى وسيناريوهات متعددة.
إنني أقول صراحة إن خطر الإعلام حاليًا يفوق خطر الحروب المسلحة أحيانًا بل وينتزع الأدوار من القوى الأخرى، وهنا نشير إلى حقائق ثلاث:
أولاً: إن الإعلام نتيجة وليس سببًا وظاهرة وليس حقيقة، إنه نتاج جمعي للتيارات السائدة في المجتمع، فالرأي العام ركيزة معلنة للإعلام المتحكم في السياسات داخليًا وخارجيًا رغم تباين الظروف واختلاف التوجهات، ولذلك فإن الإعلام المدروس يحتاج إلى خلفية تاريخية وأخرى قانونية وثالثة سياسية، ولا يمكن أن يمضي على قدم واحدة، بل لا بد أن تدعمه حجج واضحة وأسانيد في متناول التفكير العام لمجتمع معين، وهذا ما نشاهده وشهدناه في ظروف كثيرة استطاعت بعض الدول استغلالها لخدمة أهدافها على حساب الجميع.
ثانيًا: إن المطبخ السياسي هو الذي يقدم مفردات الرأي العام ورسائله الإعلامية ليضعها الطهاة على المائدة، فهم لا يصنعون شيئًا ولكن طريقة انتقال المادة الإعلامية من منطقة إلى أخرى ومن مستوى إلى آخر هو الكفيل بتغيير المسار عند اللزوم، ونحن نرى العلاقات الدولية المعاصرة باعتبارها خير شاهد على ذلك، فمذابح غزة المروعة لم تتوقف رغم بشاعتها ومتابعة الملايين لها على شاشات التليفزيون، ذلك أن الإعلام الخبيث استطاع أن يحقن العقول بأفكار مغرضة ومعلومات سامة ومضللة تنطلي على البسطاء ويستخدمها أصحاب المصالح.
ثالثًا: إن التقدم التكنولوجي الكاسح خصوصًا في وسائل الاتصال المعاصر قد قلب الأمور رأسًا على عقب، وجعل وطأة الإعلام متغيرًا مستقلاً يقود باقي المتغيرات بالوسائل الحديثة والأساليب المبتكرة والسرعة الفائقة لنقل الأخبار وتوزيع المعلومات، ويكفي أن نتذكر أن الخبر الواحد أصبح من الممكن أن تتابعه مئات الملايين من المليارات البشرية في أنحاء الكوكب في الوقت نفسه، وإذا تداولنا الآن الصورة الذهنية لشخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاكتشفنا أن الإعلام المعاصر قد لعب دورًا كبيرًا في صناعة صورته أمام العالم، وفي تكريس شعبيته لدى أنصاره ومواجهة المنتقدين له لدى خصومه.
ولن ننسى تأثير الإعلام على المشهد التاريخي للمقابلة الشهيرة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي في البيت الأبيض، فهي تتحدث عن نفسها وتبرز سطوة الإعلام المعاصر في التشكيل النهائي للصورة الذهنية!
(الأهرام)