موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في ختام يومٍ آخر من الحزن المضمّخ بالإيمان، ارتفعت في بازيليك القديس بطرس صلاة اليوم السابع من تساعية القداسات عن راحة نفس البابا فرنسيس، حاملةً في طيّاتها أنين الأرض ورجاء السماء. وفي عظته مترئسًا القداس الإلهي وجه الكاردينال كلاوديو غوجيروتي نداءً مؤثرًا إلى قلوب المؤمنين، حاملاً نبض الشرق الجريح، وصوت الكنائس التي أحبّها البابا واحتضنها، وداعيًا إلى البقاء أوفياء لذلك الإيمان الذي عاشه الذين بذلوا دماءهم لا من أجل سلطان أرضي، بل من أجل وجه المسيح المتألّق في الفقراء والمضطهدين والمنسيين.
قال الكاردينال غوجيروتي: قبل أيامٍ قليلة، وقفنا نصلي أمام جثمان حبرنا الأعظم البابا فرنسيس، وعلى ذاك الجسد الساكن جددنا إيماننا الراسخ بقيامة الأموات. وفي هذه الأيام، لا تزال قلوبنا مملوءة بالرجاء وصلواتنا متواصلة، نرفعها إلى الرب كي يغمُر برحمته عبده الأمين. إنَّ القيامة، كما تذكرنا القراءة الأولى، ليست ظاهرة تنبع من طبيعة الإنسان ذاتها، بل هي عطية من الله، يهبها لنا بروحه القدوس. من مياه المعمودية خرجنا خليقة جديدة، أعضاء في بيت الله، مقرّبون إليه، وكما يقول القديس بولس: أبناء بالتبني، لا عبيد. وبما أننا أبناء، يمكننا أن نهتف في الروح عينه: "أبّا، أيها الآب". إن هذه الصرخة لا ترتفع منّا وحدنا، بل تشاركنا فيها الخليقة بأسرها، التي تتمخّض، مترقّبة شفاءها. كم هو ضئيل ما يُمنح اليوم من قيمة للإنسان والطبيعة معًا! ومع ذلك، نجد بيننا كرادلة، وخصوصًا من إفريقيا، يشعرون عفويًّا بجمال ما يولّده هذا المخاض لأن الحياة الجديدة هي كنز لا يُقدّر بثمن لشعوبهم.
تابع: ويظهر لنا في هذا السياق وجه الخليقة كشريكة في مسيرة الإنسان، متضامنة معه، كذلك هي تطلب منه أن يكون بدوره متضامنًا معها، لكي يتمّ احترامها ويُعمل على شفائها. وهذا بالذات ما كان عزيزًا على قلب حبرنا الأعظم العزيز البابا فرنسيس. إن صدى أنين الخليقة من حولنا لا ينفكّ يُسمع، وفي صميمه أنين الإنسان، ذاك الذي خُلق للمجد وهو الغاية التي لأجلها أوجد الله الخليقة. إنَّ الأرض تصرخ، لكن الأشدّ صراخًا هو بشرية تئنّ تحت وطأة الكراهية، التي ليست سوى ثمر فقدان المعنى الحقيقي للحياة. أما نحن، المسيحيين، فنؤمن أن الحياة هي دخول في عائلة الله، إلى حدّ الاشتراك في جسد ودم المسيح الرب، الذي نحتفل به في سرّ الإفخارستيا هذا.
أضاف: وكثيرًا ما تعجز هذه الإنسانية الممزقة عن أن تحوّل صراخها إلى صلاة تتوجّه بها نحو إله الحياة. وهنا، كما يعلمنا القديس بولس، يتدخل الروح في أعماقنا، محوّلاً صمتنا الثقيل ودموعنا المختنقة إلى ابتهال أمام الله بأنّاتٍ لا تُوصف، أو كما يمكن ترجمتها أيضًا: بأنّاتٍ صامتة. وهذه التعابير تجد لها صدى خاصًا في الروحانية المسيحية الشرقية، حيث يُعدّ العجز عن التعبير عن الله إحدى سمات اللاهوت: تأمل في ما لا يمكن فهمه، محاولة لإزالة الحجاب عن الحقيقة السامية، لكي لا يبقى لنا سوى أن نقول، كما قال القديس توما الأكويني: ليس ما هو الله، بل ما ليس هو.
تابع: ما أعمق هذا التعليم لنا، نحن الذين نتوهّم أحيانًا أننا نملك الله ونعرف الحقيقة معرفة تامة، بينما لسنا سوى حجّاج على الطريق، أُعطينا الكلمة التي هي ابن الله المتجسّد، لأن ما أعطانا موهبة العيش في مجد الله ليس سوى ثمرة النعمة وحلول الروح القدس الذي يجعلنا بالتحديد "روحانيين". وفي الشرق، الأب الروحي والأم الروحية هما الراهب أو الراهبة أو مرشد الذين يطلبون الله. حتى نحن في الغرب، قبل أن نسمي هؤلاء الأشخاص "مرشدين" روحيين، كنا نسميهم آباء وأمهات روحيين. تغيير مثير للاهتمام. وفي هذا الاحتفال الإفخارستي، نحن نرغب في أن نتحدّ، قدر ما نستطيع، رغم جفافنا وتشتتنا وفقداننا المستمر للتركيز على ما هو جوهري، مع أنين الروح الذي لا يوصف، والذي يصرخ إلى الله بما يرضيه وبما يعبّر بملء فيه عن أنين طبيعتنا الذي لا نعرف كيف نصوغه بالكلمات، لأننا لا نمنح أنفسنا، وسط زحام الحياة، فرصةً لكي نعرف ذواتنا، ونعرف الله، ونرفع الصلاة إليه. يدعونا القديس أوغسطينوس لكي ندخل إلى داخل ذواتنا لأنه هناك يمكننا أن نجد المعنى الأصيل الذي لا يعبّر فقط عما نحن عليه، بل يصرخ إلى الآب حاجتنا لأن نكون أبناء أحباء، مردّدين: "أبّا، أيها الآب: "لا تخرج إلى الخارج، بل عُد إلى ذاتك؛ ففي داخل الإنسان تسكن الحقيقة".
أضاف: من أحبّ حياته فقدها -كما يذكّرنا إنجيل يوحنّا- ومن أبغض حياته وجدها. في هذه العبارة المتطرفة يعبر الربّ عن خصوصيتنا كمسيحيين، أولئك الذين ينظر إليهم العالم كأتباع لمهزوم في الحياة، لم يخلّص العالم بتأسيس مملكة أرضيّة، بل من خلال موته فدى كلّ واحدٍ منّا. لقد علّمنا البابا فرنسيس أن نصغي إلى صرخة الحياة المُنَتهَكة، أن نأخذها على عاتقنا ونرفعها إلى الآب، وأن نعمل على تخفيف الألم الذي تثيره هذه الصرخة بشكل ملموس، في كلّ بقعةٍ من الأرض، وبكلّ شكلٍ من الأشكال التي يتسلّل بها الشرّ ليضعفنا ويفتك بنا.
تابع: واليوم يحي هذه الليتورجيا ويشارك فيها بعض آباء وأبناء وبنات الكنائس الشرقية الكاثوليكية الحاضرين معنا لكي يشهدوا على غنى خبرتهم الإيمانية وعلى أنين ألمهم الذي يرفعونه من أجل الراحة الأبدية للبابا الراحل. لهم نقول شكراً، لأنهم قبلوا أن يُغنوا كاثوليكية الكنيسة بتنوّع خبراتهم وثقافاتهم، بل وبشكلٍ أعمق، بغنى روحانيتهم الفريدة. إنهم أبناء فجر المسيحية، وقد حملوا في قلوبهم، مع إخوتهم وأخواتهم الأرثوذكس، نكهة أرض الرب، لا بل إن بعضهم لا يزالون يتكلمون اللغة التي تكلم بها يسوع المسيح. ومن خلال التطورات المذهلة والمؤلمة في تاريخهم وصلوا إلى أبعاد مهمة وإرسالية. في الماضي، قبل الشرقيون الكاثوليك أن يدخلوا في شركة تامة مع خليفة بطرس، الذي يرقد جسده في هذه البازيليك، وباسم هذه الوحدة، شهدوا لإيمانهم، غالبًا بالدم أو بالاضطهاد. وإن كانوا اليوم، بفعل الحروب والتعصّب، قد قلّ عددهم وخارت بعض قواهم، إلا أنَّهم ما زالوا متشبثين بقوة بحسّ كاثوليكي لا يستبعد الاعتراف بخصوصيتهم بل يفترضه. وقد حدث، في مسار التاريخ، أن الغرب لم يفهمهم فهماً كافياً، بل حكم عليهم أحياناً، وقرّر ما إذا كان ما آمنوا به، وهم ورثة الرسل والشهداء، موافقاً لما نراه نحن "لاهوتاً صحيحاً". في حين أن إخوتهم الأرثوذكس، الذين يشاركونهم الثقافة والليتورجيا والحسّ الروحي، رأوا فيهم منشقين عن بيتهم الأصلي، قد ذابوا في عالمٍ اعتبروه آنذاك غير متوافق مع بعضهم البعض
أضاف: إنَّ البابا فرنسيس، الذي علّمنا أن نحبّ الغنى والتنوّع في كلّ ما هو إنساني، يتهلل اليوم، كم أعتقد، لرؤيتنا مجتمعين معًا في الصلاة من أجله ومن أجل شفاعته. وإذ يُجبر كثيرون من هؤلاء الإخوة والأخوات على مغادرة أوطانهم القديمة، التي هي أرض مقدسة، بحثاً عن الحياة وطلباً لمستقبل أفضل، فإنّنا نتعهّد، كما رغب البابا فرنسيس، بأن نفتح قلوبنا لاستقبالهم، ونمدّ لهم يد العون لكي يحافظوا، في أراضينا، على خصوصية إسهامهم المسيحي، الذي هو جزء لا يتجزأ من كوننا كنيسة كاثوليكية. لطالما كانت عيون وقلوب إخوتنا وأخواتنا في المشرق تعتزّ بالمفارقة المذهلة للحدث المسيحي: من جهة شقاء كوننا خطأة، ومن جهة أخرى رحمة الله اللامتناهية التي رفعتنا إلى عرش مجده لكي نشاركه حتى في كيانه، من خلال ما يسميه الأسقف وملفان الكنيسة الكبير القديس أثناسيوس الذي تذكره الكنيسة اليوم "التأله".
تابع: إنَّ ليتورجيتهم هي منسوجة بخيوط الدهشة هذه. وهكذا، على سبيل المثال، يكرر التقليد البيزنطي بلا نهاية هذه الخبرة التي لا توصف، وينشدونها وينقلونها للآخرين: قائلين "المسيح قام من بين الأموات، وداس الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور". ويكرّرونها بلا انقطاع، لكي يغرسوها في قلوبهم وقلوب الآخرين. وهذه الدهشة عينها تتجلّى في الليتورجيا الأرمنية، في صلاة مأثورة للقديس غريغوريوس ناريك، الذي أدرجه البابا فرنسيس في عداد ملافنة الكنيسة، وجعله التقليد جزءًا لا يتجزأ من الصلاة الإفخارستية، يقول فيها: "نتضرّع إليك، أيها الرب، أن تُحرق خطايانا بالنار، كما أُحرقت ذنوب النبي بالجمر الذي قُرّب إليه بالملقط، لكي تُعلَن في كلّ شيء رحمتك، كما أُعلنت حلاوة الآب بالابن الإلهي، الذي أعاد الابن الضال إلى ميراث أبيه، وقاد الزواني إلى طوبى الأبرار في ملكوت السماوات. نعم، أنا أيضًا واحد منهم: فاقبلني معهم، كمحتاج إلى محبتك العظمى للبشر، أنا الذي أحيا بفضل نِعَمك". هاتان شهادتان فقط من الشهادات الغنيّة التي فيها يمتزج وجدان القلب بصفاء الفكر، ليصفا فقرنا العظيم الذي غمره حب الله اللامتناهي.
وخلص إلى القول: أيها الإخوة الكرادلة الأحبّاء، إذ تقترب الأيام التي سندعى فيها لاختيار البابا الجديد، لنضع على شفاهنا دعاء الروح القدس الذي كتبه أحد أعظم الآباء الشرقيين، القديس سمعان اللاهوتي الجديد، في مستهلّ أناشيده: "تعال، أيها النور الحقيقي؛ تعال، أيها الحياة الأبدية؛ تعال، أيها السرّ الخفي؛ تعال، أيها الكنز الذي لا اسم له؛ تعال، أيها الواقع الذي لا يوصف؛ تعال، أيها الكائن الذي لا يُدرك؛ تعال، أيها الفرح الذي لا نهاية له؛ تعال، أيها النور الذي لا غروب له؛ تعال، أيها الرجاء الثابت لجميع المنتظرين الخلاص؛ تعال، أنت الذي اشتاقَت إليك نفسي الحقيرة، وتشتاق إليه. تعال، أنت وحدك، إليّ، أنا الوحيد، لأنك ترى أنني وحدي؛ لكي إذ أراك إلى الأبد، أحيا أنا المائت؛ ولكي إذ أمتلكك، أنا الفقير، أغتني، وأغتني أكثر من الملوك؛ ولكي إذ آكل وأشرب منك وأتسربل بك في كل لحظة، أنتقل من نعيمٍ إلى نعيمٍ في خيرات لا تُوصف، لأنك أنت كل خير وكل مجد وكل سرور، ولك المجد، أيها الثالوث القدوس، المساوي في الجوهر، وواهب الحياة: الآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين".