موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"أتحبّني؟"… حول السؤال الذي وجّهه المسيح لبطرس، توقّف الكاردينال دومينيك مامبيرتي في تأمّله العميق خلال القداس الختامي لتساعية الصلاة عن راحة نفس البابا فرنسيس، الذي أُقيم عصر الأحد في بازيليك القديس بطرس. وفي عظة طبعها الحنان والرجاء، استعاد الكاردينال مامبيرتي مسيرة بطرس الرسول في ضوء إنجيل القيامة، ليرى فيها انعكاسًا حيًّا لمسيرة البابا فرنسيس، الذي عاش رسالته في خدمة الكنيسة والإنسانية، مستندًا إلى محبة الله، ومستنيرًا بنور العبادة تحت نظر العذراء مريم.
قال الكاردينال مامبيرتي: إنّ الليتورجيا التي نحتفل بها اليوم، في ختام تساعيّة الصلاة عن راحة نفس البابا فرنسيس، هي ليتورجيا الأحد الثالث من زمن القيامة. ومقطع الإنجيل الذي أُخذ من إنجيل القديس يوحنا، والذي تلي علينا منذ قليل، يصوّر لنا لقاء يسوع القائم من بين الأموات ببعض الرسل والتلاميذ على ضفاف بحيرة طبرية، وينتهي بالرسالة التي أوكلها الرب لبطرس وبأمر يسوع: "اتبعني!". هذا الحدث يعيد إلى الأذهان أول صيد عجائبي، كما رواه الإنجيلي لوقا، حين دعا يسوع سمعان ويعقوب ويوحنا، وأعلن لسمعان أنه سيكون صيادًا للناس. ومنذ تلك اللحظة، تبع بطرس يسوع، في لحظات من عدم الفهم بل وحتى في الخيانة. ولكن في هذا اللقاء، الأخير قبل عودة المسيح إلى الآب، ينال بطرس من يسوع مهمّة رعاية قطيعه.
تابع: إنّ المحور الذي يدور حوله هذا النص الإنجيلي هو المحبة. فأول من تعرّف على يسوع كان "التلميذ الذي كان يسوع يحبّه"، يوحنا، الذي صاح: "إنه الرب!"، فما كان من بطرس إلا أن يُلقي بنفسه في البحر لكي يبلغ المعلم. وبعد أن تشاركوا الطعام، وهو ما أيقظ في قلوب الرسل ذكرى العشاء الأخير، بدأ الحوار بين يسوع وبطرس: السؤال الثلاثي للرب، والإجابة الثلاثية لبطرس.
أضاف: في المرتين الأوليين، يستخدم يسوع فعل "يُحبّ"، وهو تعبير قوي، بينما يجيب بطرس، المتألّم من ضعف خيانته، بالفعل "يحبّ محبة صادقة"، وهو تعبير أقل قوة. وفي المرّة الثالثة، ينزل يسوع إلى مستوى بطرس، فيستخدم هو نفسه الفعل الأضعف، متجاوبًا مع هشاشة الرسول. وقد علّق البابا بندكتس السادس عشر على هذا الحوار قائلاً: "لقد فهم سمعان أن يسوع يرضى بمحبته الضعيفة، لأنها كل ما يملك. وهذا التنازل الإلهي هو ما يملأ بالرجاء قلب التلميذ الذي عرف ألم الخيانة. ومنذ ذلك اليوم، تبع بطرس المعلّم بوعيٍ تامٍ لهشاشته؛ لكنه لم يسمح لهذا الوعي بأن يثنيه عن المضي قدمًا، لأنه كان يعلم أن القائم من بين الأموات يرافقه، وهكذا يُرينا نحن أيضًا الطريق".
تابع: وفي عظة القداس بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لحَبريته، قال القديس يوحنا بولس الثاني: "اليوم، أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أودّ أن أشارككم خبرة شخصية تمتدُّ منذ ربع قرن. كل يوم يتردّد في قلبي ذلك الحوار عينه بين يسوع وبطرس. في أعماق روحي، أحدّق في نظرة المسيح القائم المليئة بالمحبة. وهو، رغم إدراكه لهشاشتي البشرية، يشجعني لكي أجيب بثقة كما أجاب بطرس: " يا رَبّ، أَنتَ تَعلَمُ كُلَّ شَيء، أَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". ومن ثم يدعوني إلى تحمّل المسؤولية التي أوكلها إليَّ". هذه الرسالة هي المحبة عينها، التي تتجسد في خدمة الكنيسة والبشرية جمعاء. وقد قبلها بطرس والرسل على الفور، بقوة الروح الذي نالوه يوم العنصرة، كما سمعنا في القراءة الأولى: " الله أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاس. إِنَّ إِلهَ آبائِنا أَقامَ يسوعَ الَّذي قَتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبَة. وهو الَّذي رَفعَه اللهُ بِيَمينِه وجَعَلَه سَيِّدًا ومُخَلِّصًا".
أضاف: لقد أدهشنا جميعًا ما أظهره البابا فرنسيس من أمانة متقدة لرسالته، مستندًا إلى محبة الرب وقوة نعمته، حتى آخر رمق من حياته. لقد أنذر الأقوياء بأن عليهم أن يطيعوا الله لا البشر، وبشّر البشريّة جمعاء بفرح الإنجيل، وبالآب الرحيم، وبالمسيح المخلّص. وقد قام بذلك في تعليمه، ورحلاته، وتصرفاته، وبنمط حياته. كنت إلى جانبه يوم الفصح، على شرفة هذه البازيليك، شاهِدًا على ألمه، وإنما وبشكل خاص على شجاعته وعزيمته في خدمة شعب الله حتى الرمق الأخير.
تابع: في القراءة الثانية، من سفر الرؤيا، سمعنا تسبيح الكون بأسره لِلجالِسِ على العَرشِ ولِلحَمَل، الحَمْدُ والإِكْرامُ والمَجدُ والعِزَّةُ أَبَدَ الدُّهور". فَقالَ الحَيَواناتُ الأَربَعَة: "آمين". وجَثا الشُّيوخُ ساجِدين. إن العبادة هي بُعد جوهري في رسالة الكنيسة وحياة المؤمنين. وغالبًا ما كان البابا فرنسيس يذكّر بها، كما في عظته لعيد الظهور الإلهي العام الماضي: " إنَّ قلوب المجوس تسجد في عبادة... وصلوا إلى بيت لحم، وعندما رأوا الطفل "جَثَوا له ساجِدين"... ملك جاء لكي يخدمنا، وإله صار إنسانًا. أمام هذا السر، نحن مدعوون لكي نثني قلوبنا وركبنا للعبادة: فنعبد الله الذي يأتي في الصغر، والذي يسكن حياة بيوتنا الطبيعية، والذي يموت حبًّا بنا.... أيها الإخوة والأخوات، لقد فقدنا عادة العبادة، وفقدنا هذه القدرة التي تهبنا إياها العبادة. فلنعد اكتشاف لذة صلاة السجود... ينقصنا اليوم حسّ العبادة".
وختم الكاردينال مامبيرتي عظته بالقول: هذه القدرة التي تمنحها العبادة لم تكن خفية في حياة البابا فرنسيس. فقد كانت حياته الراعوية المكثفة، ولقاءاته التي لا تُعدّ، متجذّرة في لحظات طويلة من الصلاة، طبعتها فيه الروحانية اليسوعية. وكان كثيرًا ما يذكّرنا بأن التأمل هو "ديناميكية حبّ"، "ترفعنا إلى الله لا لتفصلنا عن الأرض، بل لتمكّننا من أن نقيم فيها بعمق". وكان يفعل كل شيء تحت نظر مريم العذراء. ستبقى راسخة في ذاكرتنا وفي قلوبنا زياراته المئة وستّ وعشرين أمام صورة العذراء مريم "خلاص الشعب الروماني". والآن، وقد صار يرقد بجوار تلك الصورة العزيزة، نوكلُه بامتنان وثقة إلى شفاعة والدة الرب، أمّنا جميعًا.