موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
المونسنيور خالد عكشة، أمين السر السابق للجنة العلاقات الدينية مع المسلمين في دائرة الحوار بين الأديان بالفاتيكان
لم أتردد في قبول طلب الأب باتيستا رينالدي، رئيس تحرير نشرة مزار”سيدة تيرانو“ (سوندريو، إيطاليا)، لكتابة مقال لهذه النشرة. لقد حظيت بنعمة معرفة هذا الصرح المريمي وخدمته، وأصبحت صديقًا للكهنة الذين يديرونه: الأب جوزيبي رومانو، مدير المزار، والأب القانوني فيروتشيو سيتيريو، إضافة إلى الأب القانوني رينالدي السالف الذكر.
وصلني هذا الطلب أثناء عودتي من البرتغال بعد مشاركتي في حدث مريمي هام: إعادة افتتاح كنيسة ”سيدة الأحزان“، التي تقع في بلدة ميلريس-غوندومار، بالقرب من مدينة بورتو الشهيرة. تم ترميم الكنيسة المذكورة أعلاه، التي دمرها حريق عام 2024، بشكل خاص بفضل المساهمة السخية من الإسماعيليين في البرتغال: 375,000 يورو من أصل 500,000 يورو.
لدي علاقة صداقة قوية مع الإسماعيليين، وخاصة مع ممثلهم الدبلوماسي في البرتغال، سعادة السيد ناظم أحمد، وهي علاقة مستمرة على الرغم من انتهاء خدمتي في الكرسي الرسولي بدائرة الحوار بين الأديان في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، بسبب بلوغي السن القانوني.
الإسماعيليون هم فرع من الإسلام الشيعي، ويترأسهم إمام يحمل لقب” آغا خان “ (السيد النبيل)، وهو حاليًا الأمير رحيم كريم آغا خان. تتميز هذه الجماعة، من بين أمور أخرى، بالتزامها الإنساني والثقافي، ففي المجال الأول يعملون من” خلال شبكة الآغا خان للتنمية“، وفي المجال الثاني من خلال ”مؤسسة الآغا خان للثقافة“.
شهد حفل إعادة الافتتاح مشاركة شقيق الآغا خان، الأمير علي محمد آغا خان، للتأكيد على الأهمية التي يولونها لهذا الحدث. كما حضر ممثلون عن أبرشية بورتو والسفارة البابوية في البرتغال.
إن التزام الإسماعيليين بترميم كنيسة مخصصة للسيدة العذراء هو فرصة مواتية، بل واجبة، لنا نحن الكاثوليك بشكل خاص، والمسيحيين بشكل عام، لطرح السؤال: ”ما هي نظرة المسلمين إلى السيدة العذراء؟.“ "سِتُّنَا مريم" تلخص ذلك. دعونا نلقي نظرة أقرب على الأمر.
من بين المائة والأربع عشرة القرآنية، توجد سورة مخصصة للسيدة العذراء، هي”سورة مريم“. واسم هذه السورة التي تحتوي على 98 آية مأخوذ من الآية 16. ليست السورة كلها عن العذراء مريم، فلنقرأ الجزء الذي يتعلق بها:
”وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا * فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا * قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا * قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا * قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةٗ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرٗا مَّقۡضِيّٗا * فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانٗا قَصِيّٗا * فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا * فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا * وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا * فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗا1ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا * فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥۖ قَالُواْ يَٰمَرۡيَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَيۡٔٗا فَرِيّٗا * يَٰٓأُخۡتَ هَٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءٖ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِيّٗا * فَأَشَارَتۡ إِلَيۡهِۖ قَالُواْ كَيۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلۡمَهۡدِ صَبِيّٗا * قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا * وَبَرّٗا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا * وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا * ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ“ (الآيات 16-34).
إن النص العربي الأصلي يتمتع بجمال فريد من الناحية الأدبية والعاطفية. أتذكر في هذا الصدد ما قاله لي صديق، وهو شيخ عراقي: ”كل مرة أقرأ أو أجوّد هذه السورة، أبكي“. وعندما طلبت منه أن يجوّدها -ليس من باب الاختبار- بدأ في البكاء.
يروي النص القرآني على طريقته بشارة مريم، والحمل البتولي، وميلاد السيد المسيح (عيسى في النص القرآني)، والمعجزة التي صنعها وهو طفل رضيع في المهد، بالتكلم دفاعًا عن شرف أمه وعفتها. ثم يُعرّف نفسه، معلنًا أنه ”عبد الله“ وحامل ل”الكتاب“، و”نبي“، وليس ”جبارًا ولا شقيًا“. هذا هو ’عيسى الحقيقي‘،” قول الحق“، لكن أتباعه” يمترون“ حول هويته، أي يشكون ويترددون. وهكذا، فإن السيد المسيح في القرآن هو نبي عظيم ومميز، ولكنه مجرد نبي، وليس إلهًا صار إنسانًا كما يؤمن المسيحيون.
يُستنتج مما ورد أعلاه أنّ مريم في القرآن، التي يسميها المسلمون باللقب التكريمي ”سِتُّنَا مريم“، هي أمّ ”النبي عيسى“، وليست أمّ ”كلمة الله الذي صار إنسانًا“ بحسب الإيمان المسيحي.
وفي هذا الصدد، ينص بيان المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) في عصرنا حول ”علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية“ على ما يلي:
”وإنهم يجلّون يسوع كنبيّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى“ (الفقرة 3).
عند هذه النقطة، من المفيد معرفة موقف الكنيسة من المسلمين، كما هو معبَّر عنه في الوثيقة عينها:
”وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا الى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكلّ خالق السماء والأرض المكلّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكلّيتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي... علاوة على ذلك أنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كلّ البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية ويؤدّون العبادة لله لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم“ (الفقرة عينها).
يدعو هذا النص المهم المسيحيين والمسلمين إلى عدم البقاء أسرى لماضيهم الصعب، بل إلى الالتزام معًا بمستقبل من السلام والتعاون:
”وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص الى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرّية لفائدة جميع الناس“ (الفقرة عينها).
بالإضافة إلى النظرة القرآنية، هناك فصل آخر يضاف إلى نظرة المسلمين إلى السيدة العذراء: الأحاديث المنسوبة لنبي الإسلام، والتقوى الشعبية والتبجيل الذي ينتج عنها.
جاء في حديث أخرجه البخاري (3431):
”سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ما مِن بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِن مَسِّ الشَّيْطَانِ، غيرَ مَرْيَمَ وابْنِهَا“.
هذا الحديث بالغ الأهمية لأنه يعترف، على طريقته، بأن مريم وابنها لم ”يمسهما“ الشيطان ولم ”يتلوثا“ بالخطيئة عند ولادتهما. ويكرر هذا النص صدى نص قرآني وُضع على لسان والدة مريم:
”إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًۭا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ... ۖ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ“ (آل عمران: 35-36).
يُستنتج من ذلك أن شخصية مريم متجذرة بعمق في التقوى الشعبية الإسلامية، التي تعتبرها نموذجًا للفضيلة. فهي تُعتبر رمزًا للأنوثة والأمومة. وكثيرًا ما تُتلى سورة مريم المذكورة أعلاه من قبل النساء المسلمات طلبًا للراحة أثناء الحمل والولادة، وللتبريك على الطفل والأم.
علاوة على ذلك، تجسد السيدة العذراء للمسلمين نموذج الإيمان والخضوع للإرادة الإلهية (الإسلام). إن تواضعها وإيمانها وتسليمها لله يجعلانها مثالًا حيًا لجميع المؤمنين.
يوجد مظهران رئيسيان للتبجيل تجاه أم يسوع: الألقاب التكريمية الشعبية والحج.
بالإضافة إلى اللقب الأكثر انتشارًا ”سِتُّنَا مريم“، هناك ألقاب أخرى مثل ”السِت العذراء“، التي تعكس مكانتها العالية.
فيما يتعلق بالحج، من اللافت للنظر أن العديد من المسلمين يتوجهون للحج إلى الأماكن المريمية الكاثوليكية في الغرب، ولا سيما في لورد وفاطيما، وفي الشرق الأوسط، مثل بيت العذراء مريم في أفسس بتركيا، ومزار سيدة لبنان في حريصا. وهذا يشهد على تبجيل يتجاوز الحدود الدينية.
باختصار، تمثّل شخصية مريم جسرًا للحوار والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين. وعلى الرغم من وجود اختلافات لاهوتية فيما يتعلق بهوية ابنها ورسالته، وبالتالي هويتها نفسها، فإن طهارتها وإيمانها وأهميتها كأم لنبي عظيم تجعلها شخصية تحظى بتبجيل واحترام كبيرين لدى المسلمين.
نأمل أن يزور العديد من المسلمين مزار سيدة تيرانو وغيره من المزارات، لتبجيل أم يسوع والدعاء إلى الله بشفاعتها.