موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٦ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥
الكاردينال فرنانديز: مريم العذراء ليست فقط نجمة البشارة بل أمّها الحقيقية

أبونا :

 

في مؤتمر عُقد في 12 كانون الأول 2026، وُجّه إلى كهنة وراهبات وإكليريكيي أميركا اللاتينية الدارسين في روما، قدّم الكاردينال فيكتور مانويل فرنانديز، عميد دائرة العقيدة والإيمان، تأمّلًا لاهوتيًا عميقًا في دور العذراء مريم، لا بوصفها «نجمة الكرازة» فحسب، بل «أمّها الحقيقية». وانطلق الكاردينال في مداخلته من الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة، مبيّنًا لماذا تحتل مريم هذا الموقع الفريد في رسالة إعلان الإنجيل.

 

 

معها يأتي المسيح والروح القدس

 

استهلّ الكاردينال حديثه بمشهد زيارة مريم لأليصابات (لوقا 1: 39–45)، حيث تستقبل أليصابات، الممتلئة من الروح القدس، مريم بعبارات التسبيح: «مباركة أنتِ في النساء، ومبارك ثمرة بطنك». هذه الكلمات، بحسب فرنانديز، تُظهر وحدة مريم والمسيح التي لا تنفصم. كما أن سؤال أليصابات المتواضع: «من أين لي أن تأتيني أمّ ربي؟» وتطويبها لإيمان مريم يكشفان عمل الروح القدس. ومن هذا المشهد، يستخلص الكاردينال حقيقة دائمة: حيثما تحضر مريم، يحضر المسيح، ويفيض الروح القدس.

 

وأشار إلى أن هذه الديناميّة لا تزال حاضرة اليوم، ولا سيما في التقوى الشعبية في أميركا اللاتينية. فعندما تزور صورة مريم البيوت، أو ترافق المرضى، أو تستقبل الحجّاج في المزارات، فإنها تحمل يسوع معها، ومنه يفيض الروح. فمريم، غير المنفصلة عن ابنها، تُقدّم المسيح بحنان أمومي لكل من تلتقيهم.

 

 

ممتلئة بالإنجيل وتربطه بحياتنا

 

ثم توقّف الكاردينال عند علاقة مريم الفريدة بالإنجيل ذاته. ففي إنجيل لوقا يُقال مرتين إن مريم «كانت تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها» (2: 19 و51). وهكذا تصبح «الكتاب الحيّ والمضيء» الذي يحتوي قصة يسوع كاملة: من التجسّد إلى القيامة، مرورًا بالسنوات الخفيّة في الناصرة التي لم تدوّنها الأناجيل المكتوبة. وأكد أن الإنجيل الأكمل يسكن في قلب مريم.

 

وشدّد على أنّ قلب مريم لا يحفظ قصة المسيح وحده، بل قصة كل واحد منا. فكما يبيّن سفر الرؤيا (الفصل 12)، هي أمّ للطفل الذي يرعى جميع الأمم، وأيضًا أم «لسائر نسلها»، أي أن يسوع، بالنسبة لها، ونحن، بقية أبنائها، حقيقتان لا تنفصلان. ولهذا السبب، تتأمل مريم بحياة كل مؤمن -أفراحه وأحزانه، شكوكه وتجاربه، منذ لحظة الحبل به- بعين الأم نفسها.

 

واستشهد الكاردينال بكلمات العذراء للقديس خوان دييغو: «ألستُ أنا هنا، أنا التي التي هي أمّك؟ … ألستَ في حضني، في أحضان ذراعيّ؟». هذه المعرفة الحميمة تمكّن مريم من ربط الإنجيل مباشرة بحياة كل إنسان. فهي وحدها القادرة على إنارة التاريخ الشخصي لكل مؤمن بنور أسرار خلاص المسيح، بعمق يفوق أي صديق أو مستشار بشري. وفي الصلاة، عندما تعجز الكلمات أو تخون الذاكرة، تقرأ مريم ما لا يُقال في ضوء الإنجيل المحفوظ في قلبها.

 

 

البشارة من خلال وجه مريم الأمومي

 

وتطرّق الكاردينال إلى بُعد آخر غامض من الكرازة، يتمثّل في نقل رسالة الإنجيل من دون كلمات، عبر وجه مريم الأمومي. فالمؤمنون البسطاء، من دون دراسات لاهوتية، يلتقون أسرار المسيح ورسالة الإنجيل المنعكسة في صورتها.

 

وقال: «أي إنّه، من دون قراءة أو دراسة نص لوقا 15، يتعرّف المؤمنون في وجه مريم على رحمة الآب الله وحنانه. ومن دون قراءة نص هوشع 11، يشعرون وهم ينظرون إلى مريم بأن ذلك الآب يرفعهم إلى خده بمحبة. ومن دون قراءة رواية الآلام، يقرأون في مريم المطعونة بالسيف سرّ الصليب الخلاصي. ومن دون قراءة أناجيل القيامة أو الالتحاق بدورات أكاديمية حول السرّ الفصحي، يكتشفون في وجه مريم أنّ المسيح حيّ وأنّ هناك رجاءً. كثير من المثقفين لا يفهمون هذا الأمر، لأن له منطقًا مختلفًا: إنّه يحدث بطريقة خفيّة، سرّية، وأحيانًا لا يعرف الشخص نفسه الذي يعيشه كيف يشرحه، لكنه في اللقاء مع مريم يكون قد استنار بالإنجيل. ولهذا السبب أيضًا، فإن مريم هي مُبشِّرة".

 

وأراد فرنانديز أن يتوقّف عند هذا التوضيح بالغ الأهمية، والأساسي لفهم لاهوت مريمي سليم: «ليس الأمر أن الله بعيد ومريم تمنحنا القرب الذي لا يمنحه الله. أرجوكم، لا تقولوا ذلك. بل العكس تمامًا: من المستحيل أن تكون مريم أقرب إلينا من الآب، أو من المسيح، أو من الروح القدس. ما يحدث هو أنه في مريم، وفي وجهها الأمومي، يمكننا بسهولة أن نكتشف قرب الله، الذي يصل إلى أعماق قلوبنا. فيها نتعرّف على محبة الآب التي يتحدث عنها الإنجيل، وحنان المسيح، وقوّة الروح القدس التي نقرأ عنها في نصوص الإنجيل. إنها تجسيد ملموس ومرئي لإلهنا القريب، الرحيم، العطوف، كما يقدمها الإنجيل».

 

 

أم النعمة

 

كما تناول عميد دائرة عقيدة الإيمان دور مريم العذراء «كأمّ للنعمة»؛ فمريم ليست مبشّرة فقط لأنها في شخصها تنقل لنا رسالة الإنجيل، بل أيضًا لأنها بمساعدتها الأمومية تُعيننا على استقبال هذه الرسالة بقلوبنا وعيشها. وهذه هي ثمرة النعمة.

 

ومجيبًا عن علاقة النعمة بمريم، قال: هي لا تستطيع أن تستحق لنا النعمة الكاملة المقدسة، لأنه «لا أحد يستطيع أن يستحق النعمة قبل غيره، سوى المسيح وحده». إلا أن الله يشاء بحرّية أن يمنح النعم الفعلية استجابة لشفاعة مريم الأمومية. ومن خلال صلاتها وما تنقله من كلمات وصور ومحفزات، تساعد المؤمنين على الانفتاح لإلهامات الروح القدس، وإعداد قلوبهم وتهيئتها للنعمة التي يفيضها الرب، والنمو أيضًا في حياة النعمة.

 

 

أم متجسدة في حياتنا

 

وأكد فرنانديز تضامن مريم العميق مع الفقراء والمتألمين، ما يجعلها قريبة من الجميع. فمؤمنو أميركا اللاتينية يرون فيها امرأة الناصرة التي عرفت الفقر، والهجرة، والقلق، والحزن الذي يخترق القلب. إنها تسير جنبًا إلى جنب مع المهمّشين، فتمنحهم الثقة لتقبّل الإنجيل من دون خوف.

 

وقال: «إنها لا تتشفع لنا حتى نتمكن من فتح قلوبنا للمسيح فحسب، بل هي أيضًا علامة قوية وجميلة على قرب الله، الذي هو حقًا الله معنا. إنها تسمح لنا بالتوقف عن الشعور بأن الله شخص بعيد، غير قادر على فهم حياتنا ومشاركتها، وبهذه الطريقة تلين قلوبنا حتى يتمكن الرب من إنجاز عمله فينا».

 

 

مريم المتعاونة الأولى والأعظم في عمل الفداء

 

وفيما أقرّ بدورها الفريد في عمل الفداء -الذي تصفه مذكرة Mater Populi Fidelis بأنها «أول وأعظم المتعاونين في عمل الفداء والنعمة»- حرص الكاردينال على التمييز الواضح بينها وبين المسيح. فالخلاص هو بالمسيح وحده (أعمال الرسل 4: 12). أما التقوى الشعبية، فتعبر عن محبتها بألقاب حميمية مثل «أمّنا»، من دون مصطلحات تقنية قد تُحدث التباسًا.

 

وأوضح الكاردينال أن رسالة مريم في البشارة تشمل أيضًا الارتقاء الإنساني الشامل. فمسارعتها لمساعدة أليصابات، وتدخلها في عرس قانا («ليس لديهم خمر»)، ونشيد تعظم التي تسبّح فيه الله رافع المتواضعين ومشبع الجياع، تكشف قلبًا يهتم بالحاجات الروحية والمادية معًا.

 

وفي ختام مداخلته، استحضر فرنانديز أفكار البابا فرنسيس الذي وصف مريم بأنها قلقة بالمعنى الإيجابي، وسائرة في الدروب، وممتلئة فرحًا - شابة ساهم حضورها في ولادة كنيسة مرسلة يوم العنصرة. وعلى الصليب، أعطى المسيح البشرية أمًّا لأنه «لا يريدنا أن نسير من دون أم». وفي لحظات الفشل، تحملنا مريم بلا إدانة، وتفهم آلامنا بقليل من الكلمات. وختم الكاردينال بالقول إن الكنيسة، في حضن مريم الأمومي، تجد أحنّ وأقوى مبشّرة: الأم التي تحمل المسيح، وتنير الإنجيل، وترافق كل مؤمن نحو ملء النعمة.