موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٣١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥
مسيرة الإيمان والحقيقة والنور مع القديس يوحنا هنري نيومان

أبونا :

 

يُعدّ الكاردينال الإنجليزي يوحنا هنري نيومان (1801-1890) أحد أبرز المفكّرين المسيحيين في العصر الحديث، وشخصية محورية في مسيرة روحيّة وإنسانيّة تركت أثرًا عميقًا في حياة الكنيسة ومسيرة الحركة المسكونية في القرن التاسع عشر. وهو صاحب مؤلفات تُظهر أن عيش الإيمان هو حوار قلبي يومي مع المسيح ”القلب يكلِّم القلب“، وقد كرّس حياته بحماس وطاقة لخدمة الإنجيل، وهي مسيرة تُوّجت بإعلانه قديسًا عام 2019، وهو يُعلن غدًا "معلمًا في الكنيسة".

 

 

«من الظلال والصور إلى الحقيقة»

 

«قُدني، أيها النور اللطيف، وسطَ الظلمة المُلتفّة حولي،

قُدني إلى الأمام.

فالليلُ مظلمٌ، وأنا بعيدٌ عن الوطن -

قدني إلى الأمام...

لقد باركتني قوّتك طويلاً، وأنا واثقٌ بأنها

ستظلّ تقودني

فوق المستنقعات والسهول، وفوق الصخور والجداول السريعة،

حتى ينقضي الليل،

ومع الصباح تبتسم تلك الوجوه الملائكية

التي أحببتُها منذ زمن، وفقدتُها لبعض الوقت».

 

 

كان القديس يوحنا هنري نيومان يبلغ من العمر 32 عامًا حين انطلقت هذه الصلاة المؤثّرة من قلبه أثناء عودته إلى إنجلترا بعد رحلة طويلة عبر إيطاليا. وُلد في لندن عام 1801، وقد كان كاهنًا أنغليكانيًا لمدة ثماني سنوات، واكتسب اعترافًا واسعًا بوصفه أحد ألمع العقول في كنيسته، ورجلًا أسر القارئ والمستمع على حدّ سواء بكلماته المنطوقة والمكتوبة.

 

لقد عمّقت رحلته إلى إيطاليا عام 1832 بحثه الداخلي، إذ حمل نيومان في قلبه عطشًا لمعرفة أعماق الله و"نوره اللطيف"، الذي كان بالنسبة إليه أيضًا نور الحقيقة: حقيقة المسيح، والطبيعة الأصيلة للكنيسة، وتقاليد القرون الأولى حين كان آباء الكنيسة يخاطبون كنيسة لم ينقسم جسدها بعد. وصارت أكسفورد -مركز إيمانه، والمكان الذي عاش فيه وعمل- الطريق الذي قاده تدريجيًا نحو الكاثوليكية.

 

وفي عام 1845، لخّص مسيرته الروحية في مقالة حول تطوّر العقيدة المسيحية، وهي ثمرة سعيه الطويل نحو ذلك النور الذي تعرّف عليه في الكنيسة الكاثوليكية؛ الكنيسة التي رآها منبثقة من قلب المسيح، وكنيسة الشهداء والآباء الأولين، والتي نمت وتطوّرت عبر التاريخ كالشجرة.

 

وبعد فترة قصيرة، طلب الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية، وتم ذلك في 8 تشرين الأول 1845. وقد كتب لاحقًا عن تلك اللحظة: "لقد كان الأمر أشبه بالوصول إلى الميناء بعد بحرٍ عاصف؛ وسعادتي من أجل ذلك لا تزال بلا انقطاع حتى اليوم".

 

 

متفانٍ في محبة القديس فيليبو نيري

 

في عام 1846، عاد إلى إيطاليا ليلتحق، كطالب إكليريكي متواضع -على الرغم من كونه لاهوتيًا ومفكّرًا ذا شهرة عالمية- بكلية انتشار الإيمان. وكتب يقول: "إنه لأمر رائع أن أكون هنا. إنه أشبه بحلم، ومع ذلك فهو هادئ، مطمئن، وسعيد، كما لو كان تحقيقًا لأمل طال انتظاره وبداية لحياة جديدة". وفي 30 أيار 1847 اكتملت دائرة دعوته برسامته كاهنًا.

 

وخلال تلك الأشهر، انجذب نيومن بعمق إلى شخصية القديس فيليبو نيري - روحٌ أخرى، مثله، "تبنّتها" روما. وعندما شجّعه البابا بيوس التاسع على العودة إلى إنجلترا، مضى نيومن ليؤسّس هناك مصلى مكرّسًا لذاك القديس الذي شاركه البشاشة نفسها. وقد ظلّ حسّه المرح ثابتًا حتى وسط التحديات العديدة التي واجهها أثناء تأسيس مؤسسات كاثوليكية في وطنه، والتي بدا كثير منها متعثّرًا في البداية. ومع ذلك، ظلّ عقله يبدع كتابات لامعة دفاعًا عن الكاثوليكية ودعمها، حتى تحت هجمات شرسة.

 

في عام 1879، عيّنه البابا لاون الثالث عشر كاردينالاً. وعند سماعه الخبر، انهمرت دموع الفرح من عينيه قائلاً: "لقد انقشع الغمام إلى الأبد." واستمرّ في خدمته الرسولية بزخمٍ لا يفتر حتى وفاته في 11 آب 1890. وعلى شاهدة قبره، طلب أن يُكتفى بكتابة اسمه وعبارة قصيرة تختصر مسيرة حياته الممتدة 89 عامًا: "من الظلال والصور إلى الحقيقة".

 

وقد أعلنه البابا بندكتس السادس عشر طوباويًا عام 2010، مكرّمًا رجلاً ذا صلاة عميقة عاش، بكلمات البابا، "ذلك الرؤية الإنسانية العميقة للخدمة الكهنوتية من خلال رعايته المخلصة" للناس: "زيارة المرضى والفقراء، وتعزية الثكالى، ورعاية السجناء".

 

 

«القلب يكلِّم القلب»

 

أعلنه البابا فرنسيس قديسًا عام 2019، وأوضح في رسالته العامة "لقد أحَبَّنا" سبب اختيار القديس نيومان شعارًا له، وهو عبارة: ”القلب يكلِّم القلب“ (Cor ad cor loquitur): "إنّ الرب، بعيدًا عن أي جدليّة، يخلّصنا بالتحدّث إلى قلبنا من قلبه الأقدس".

 

وأضاف خورخي بيرغوليو: "هذا المنطق نفسه كان يعني بالنسبة له، وهو مفكّر كبير، أن مكان اللقاء الأعمق مع نفسه ومع الله لم يكن القراءة أو التأمل، بل حوار الصلاة، من القلب إلى القلب، مع المسيح الحيّ والحاضر. فوجد نيومان في الإفخارستيا قلب يسوع الحي القادر على أن يحرّر، ويعطي كل لحظة معناها، ويغرس السلام الحقيقي في الإنسان".

 

وقدّ عبّر نيومان في صلاته قائلاً:

 

«يا قلب يسوع الأقدس والمحبوب، أنت مختبئ في القربان المقدّس، وقلبك يخفق دائمًا هنا من أجلنا. إنّي أسجد لك بكلّ حبّي وإجلالي، وبعاطفتي الحارّة، وبكلّ إرادتي بكلّ ما فيَّ من حزم وخضوع. يا إلهيّ، عندما تأتي إليَّ في المناولة المقدّسة وتجعل سكناك فيَّ، اجعل قلبي يخفق بانسجام مع قلبك! طهّره من كلّ ما هو كبرياء وشهوة، ومن كلّ ما هو قسوة وتحجّر، ومن كلّ فساد، ومخالفة، ومن كلّ فتور. املأه بك بكلِّيَّته، حتّى لا تقدر على تعكيره لا الأحداث اليوميّة ولا ظروف الحياة، فيجد السّلام في محبّتك ومخافتك».