موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
خلال القداس الإلهي الذي ترأسه بمناسبة عيد جميع القديسين ويوبيل عالم التربية والتعليم، اليوم الأحد 1 تشرين الثاني 2025، أعلن البابا لاون الرابع عشر القديس جون هنري نيومان "معلّمًا للكنيسة"، ليصبح بذلك القديس الثامن والثلاثين الذي ينال هذا اللقب النادر في تاريخ الكنيسة، وسمّاه أيضًا "شفيعًا مشاركًا" لجميع المشاركين في العملية التربوية، إلى جانب القديس توما الأكويني.
ويُعدّ الكاردينال الإنجليزي نيومان (1801-1890) أحد أبرز المفكّرين المسيحيين في العصر الحديث، وشخصية محورية في الفكر الكاثوليكي. وقد عُرف بمساهماته اللاهوتية والأكاديمية في مجالات متعدّدة، أبرزها أطروحته حول "تطوّر العقيدة" التي أثّرت بشكل مستمر في تفسير العقيدة الكاثوليكية. كما كتب عن دور الضمير المسيحي في حياة المؤمن، وقدم رؤية واضحة لأهمية التعليم الجامعي المسيحي في كتابه "فكرة الجامعة". وتُعدّ أعماله مرجعًا مهمًا في الدراسات اللاهوتية والفكر الكاثوليكي، لما فيها من جمع بين العقل والإيمان، وبين التحليل الأكاديمي والرؤية الروحية.
وفي عظته، خاطب البابا لاون آلاف المؤمنين، وخاصة الطلبة والمعلمين، المحتشدين في ساحة القديس بطرس تحت أشعة الشمس اللطيفة، داعيًا إياهم على أن "يجعلوا من المدارس والجامعات وكل واقع تربوي، حتى غير الرسمية والشعبية، بوابات لحضارة الحوار والسلام".
وبحضور وفد رسمي من كنيسة إنجلترا برئاسة المطران ستيفن كوترل، رئيس أساقفة يورك، ذكّر البابا لاون بأنّ معلّم الكنيسة الجديد قد ترك لنا، لا سيّما في كتاب ’التأملات والعبادات‘ تعابير رائعة في "سرّ كرامة كل إنسان، وأيضًا في تنوّع المواهب التي يوزعها الله".
وقال إنّ "حياتنا تُنير ليس لأننا أغنياء أو جميلون أو أقوياء، بل عندما يكتشف الإنسان في داخله هذه الحقيقة: الله دعاني، ولِي دعوة، ورسالة، وحياتي تُفيد لأمرٍ أسمى منّي! كلّ مخلوق له دور يؤدّيه. والمساهمة التي يقدّمها كلّ واحد قيمتها فريدة، ومهمّة الجماعات التربويّة هي أن تشجّع وتقدّر هذه المساهمة".
وأضاف: "لا ننسَ ذلك: في قلب المسار التربوي يجب ألا يكون هناك أفراد مبهمون، بل أشخاص من لحم وعظم، لا سيّما الذين يبدون أنهم غير منتجين، بحسب معايير الاقتصاد الذي يُقصي ويقتل. نحن مدعوون إلى أن نهيئ الأشخاص، ليتألقوا مثل النجوم في ملء كرامتهم".
وفي بداية عظته، أعلن البابا لاون عن إدراج القديس جون هنري نيومان بين معلّمي الكنيسة، وفي الوقت نفسه، وبمناسبة يوبيل عالم التربية، أن يسمّيه شفيعًا مشاركًا، مع القديس توما الأكويني، لجميع الذين يشاركون في العملية التربوية.
وأوضح الأب الأقدس أنّ "القامة الثقافية والروحية المهيبة لنيومان ستكون مصدر إلهام للأجيال الجديدة، المتعطشة قلوبها إلى اللامحدود، والمستعدة أن تُحقق، بالبحث والمعرفة، الرحلة التي تجتاز الصعاب، وتصل إلى النجوم، كما كان يقول القدماء".
وفي تأمله لرسالة القديس بولس إلى أهل فيلبي وتكليفه الرسولي: "تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون" (2، 15)، كرّر البابا للمعلمين والمؤسسات التربوية الكلمات التي جاءت في إرشاده الرسولي ’لقد أَحبَبتُكَ‘: "إنكم ’تُضيئُونَ اليوم ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون“، بفضل صدق التزامكم في البحث الجماعي عن الحقيقة، وفي مشاركتكم الصادقة والسخية، بخدمتكم للشباب، ولا سيّما للفقراء، وفي الخبرة اليومية أن "المحبة المسيحية بطبيعتها نبوية، وتصنع المعجزات".
وأكد أنّ حقل التربية الكبير، في إطار يوبيل كحجٍ في الرجاء، يمثّل "بذرة لازمة لا يمكن أن نستغني عنها!". وقال: "عندما أفكر في المدارس والجامعات، أفكّر فيها على أنها مختبرات للنبوءة، حيث نعيش الرجاء، ونبشر به ونقدّمه باستمرار".
ووصف البابا التطويبات التي أُعلنت للتو في الإنجيل بأنّها "مسيرة ورسالة يسوع المربّي"، الذي –ما يبدو غير معقول في منطق العالم- يُعلن "الفقراء طوباويّين، والجياع والعطاش إلى البرّ، والمضطهدين والساعين إلى السلام"، مؤكدًا بأنها علامات ملكوت الله وبأننا نرى في القديسين هذا الملكوت يقترب منا ويتحقق بيننا.
ولفت إلى أنّ "القديس متى قدّم التطويبات على أنها تعليم، وصوّر يسوع معلمًا ينقل رؤية جديدة للأشياء، وتتفق رؤيته مع مسيرته. غير أنّ التطويبات ليست تعليمًا إضافيًا، بل هي التعليم بامتياز. وبالمثل، الرب يسوع ليس واحدًا من المعلمين الكثيرين، بل هو المعلم بامتياز. وأكثر من ذلك، هو المربّي بامتياز". وقال: "نحن تلاميذه، في مدرسته، نتعلّم أن نكتشف في حياته، أي في الطريق الذي سلكه أفقًا من المعنى، قادرًا على أن ينير كلّ أشكال المعرفة. لتكن مدارسنا وجامعاتنا دائمًا أماكن للإصغاء وعيش الإنجيل".
وأقرّ البابا بأنّ "التحديات الراهنة يمكن أن تبدو أحيانًا أكبر من إمكانياتنا، لكنها ليست كذلك!". وقال: "لا نَدع التشاؤم يهزمنا!". واستشهد بكلمات البابا فرنسيس إلى الجمعية العامة الأولى لدائرة الثقافة والتربية، قبل عام: "يجب علينا أن نعمل معًا لتحرير البشرية من ظلمة العدميّة التي تحيط بها، ولربما هذه هي أخطر أمراض الثقافة المعاصرة، لأنها تهدّد بأن ”تمحو“ الرّجاء".
وأشار إلى أنّ الظلمة التي تحيط بنا، تذكّرنا بأحد أشهر نصوص القديس نيومان، وهو نشيد ”قُدْني، أيها النور اللطيف“. وقال: "في هذه الصلاة الجميلة نُدرك أننا بعيدون عن بيتنا، وأنّ أقدامنا ترتجف، وأننا لا نستطيع أن نميّز الأفق بوضوح. لكن لا شيء من كلّ ذلك يوقفنا، لأننا وجدنا المُرشد: "قُدْني، أيّها النّور اللطيف، عبر الظّلمة التي تُحيط بي، وكن دليلي!".
وأكد البابا لاون أن "التربية، في المنظور المسيحيّ، تساعد الجميع ليصيروا قديسين. لا أقل من ذلك"، مستذكرًا كلمات عظة البابا بندكتس السادس عشر للشباب خلال قداس تطويب نيومان في بريطانيا عام 2010: "ما يريده الله أكثر من أي شيء لكلّ واحد منكم هو أن تصيروا قديسين. إنه يحبكم أكثر مما تستطيعون أن تتصوّروا، ويريد لكم الأفضل".
وخلص البابا لاون الرابع عشر في عظته رافعًا الصلاة "لكي تساعد التربية الكاثوليكية كل واحد ليكتشف دعوته إلى القداسة". وقال: "القديس أغسطينس، الذي كان القديس جون هنري نيومان يقدّره كثيرًا، قال مرّة إنّنا زملاء دراسة لنا معلّم واحد، مدرسته على الأرض وكرسيّه في السماء".