موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
"لنفرح جميعًا في الرّبّ: وُلد مخلِّصُنا في العالم. اليوم نزل إلينا السّلام الحقيقيّ من السّماء" (أنتيفونة الدّخول في قداس ليلة الميلاد). هكذا تنشد الليتورجيّا في ليلة ميلاد السّيّد المسيح، وهكذا يتردّد في الكنيسة صدى إعلان بيت لحم: الطّفل الذي وُلد من سيّدتنا مريم العذراء هو المسيح الرّبّ، الذي أرسله الآب ليخلّصنا من الخطيئة ومن الموت. إنّه سلامُنا، هو الذي غلب الكراهية والعداوة بمحبّة الله ورحمته. ولهذا، "إنّ ميلاد الرّبّ يسوع هو ميلاد السّلام" (القدّيس لاوُن الكبير، عظة 26).
وُلد يسوع في مذود، لأنّه لم يكن له مَوضِعٌ في المَضافة. وما إن وُلد حتّى "قَمَّطَته [أمّه مريم] وأَضجَعَته في مِذوَدٍ" (لوقا 2، 7). ابن الله، الذي به خُلق كلّ شيء، لم يستقبَله أحد، وكان مهدُه معلفًا فقيرًا للحيوانات.
كلمة الآب الأزليّ الذي لا تستطيع السّماوات أن تسعه، اختار أن يأتي إلى العالم بهذه الطّريقة. بدافع المحبّة أراد أن يولد من امرأة ليشاركنا إنسانيّتنا. وبدافع المحبّة قَبِلَ الفقر والرّفض، وساوى نفسه مع المُهمَّشين والمُستبعَدين.
في ميلاد يسوع تجلّى أصلًا الخيار الأساسيّ الذي وجّه كلّ حياة ابن الله حتّى موته على الصّليب: الخيار الذي به لا نحمل نحن عبء الخطيئة، بل يحمله هو عنّا ويتحمّله بدلًا منّا. هذا ما كان هو وحده قادرًا على أن يعمله. وبيَّن لنا، في الوقت نفسه، ما نستطيع نحن وحدنا فقط أن نعمله، أي أن يتحمّل كلّ واحد منّا نصيبه من المسؤوليّة. نَعم، لأنّ الله الذي خلقنا بدون إرادتنا، لا يستطيع أن يخلّصنا بدون إرادتنا (راجع القدّيس أغسطينس، كلمة 169، 11. 13)، أي بدون إرادتنا الحرّة في أن نحبّ. من لا يحبّ لا يخلُص، بل يهلك. ومن لا يحبّ أخاه الذي يراه، لا يستطيع أن يحبّ الله الذي لا يراه (راجع 1 يوحنّا 4، 20).
أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو طريق السّلام: طريق المسؤوليّة. لو أنّ كلّ واحد منّا، وعلى جميع المستويّات، بدلًا من أن يتّهم الآخرين، يعترف أولًا بنقائصه ويطلب المغفرة من الله، وفي الوقت نفسه، يضع نفسه مكان المتألّمين، ويتضامن مع الأضعفين والمظلومين، لتغيّر وجه العالم.
يسوع المسيح هو سلامُنا أوّلًا لأنّه يحرّرنا من الخطيئة، ومن ثمّ لأنّه يدلّنا على الطّريق الذي يجب أن نتّبعه لنتجاوز النّزاعات، كلّ النّزاعات، من النّزاعات الشّخصيّة إلى النّزاعات الدّوليّة. بدون قلب متحرّر من الخطيئة، قلب غفر الله له، لا يمكن أن نكون رجالًا ونساء سلام وصانعي سلام. ولهذا وُلد يسوع في بيت لحم ومات على الصّليب: ليحرّرنا من الخطيئة. إنّه المخلِّص. وبنعمته، نستطيع ويجب على كلّ واحد منّا أن يقوم بدوره في رفض الكراهية والعنف والمخاصمة، وفي ممارسة الحوار والسّلام والمصالحة.
في يوم العيد هذا، أودّ أن أوجّه تحيّة حارّة وأبويّة إلى جميع المسيحيّين، ولا سيّما إلى الذين يعيشون في الشّرق الأوسط، والذين أردت لقاءهم مؤخّرًا في أوّل زيارة رسوليّة لي. أصغيتُ إلى مخاوفهم، وأعرف جيّدًا شعورهم بالعجز أمام ديناميكيّات أصحاب سلطان أقوى منهم. الطّفل الذي يولد اليوم في بيت لحم هو نفسه يسوع الذي قال: "لِيَكونَ لَكُم بِيَ السَّلام. تُعانونَ الشِّدَّةَ في العالَم، ولكِن ثِقوا: إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم" (يوحنّا 16، 33).
ومنه نلتمس العدل والسّلام والاستقرار للبنان وفلسطين وإسرائيل وسوريّة، ونحن واثقون بكلام الله: "يَكونُ عَمَلُ البِرِّ سَلامًا، وفِعلُ البِرِّ راحةً وطُمَأنينَةً لِلأَبَد" (أشعيا 32، 17).
إلى أمير السّلام نُوكل كلّ القارّة الأوروبيّة، ونطلب إليه أن يواصل إلهامها روحًا جماعيًّا وتعاونيًّا، وأمينًا لجذورها المسيحيّة وتاريخها، ومتضامنًا ومنفتحًا على المحتاجين. نصلّي بشكل خاصّ من أجل الشّعب الأوكرانيّ المعذَّب: ليصمت ضجيج السّلاح، ولتجد الأطراف المعنيّة، الذي يسندها التزام الجماعة الدّوليّة، شجاعة الحوار الصّادق والمباشر والجليل.
ومن طفل بيت لحم نطلب السّلام والعزاء لضحايا جميع الحروب الدّائرة في العالم، ولا سيّما تلك الحروب المنسيّة، ولجميع المتألّمين بسبب الظّلم، وعدم الاستقرار السّياسيّ، والاضطهاد الدّينيّ، والإرهاب. وأذكر على وجه الخصوص الإخوة والأخوات في السّودان، وجنوب السّودان، ومالي، وبوركينا فاسو، وجمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة.
وفي هذه الأيام الأخيرة من يوبيل الرّجاء، نصلّي إلى الله الذي صار بشرًا من أجل الشّعب العزيز في هايتي، لكي تتوقّف كلّ أشكال العنف في البلاد، ويتمكّن من التقدّم في طريق السّلام والمصالحة.
ليُلهم الطّفل يسوع الذين يتحمّلون مسؤوليّات سياسية في أمريكا اللاتينيّة، لكي يُفسَح المجال للحوار، أمام التحدّيات العديدة، من أجل الخير العام، وليس للإقصاءات الإيديولوجيّة والفئويّة.
وإلى أمير السّلام نطلب أن يُنير ميانمار بنور مستقبل من المصالحة: أن يعيد الرّجاء إلى الأجيال الشّابة، ويقود كلّ الشّعب البورمي في طرق السّلام، ويرافق الذين يعيشون بلا مأوى أو أمان أو ثقة بالغد.
وإليه نطلب أيضًا أن تُستعاد الصّداقة العريقة بين تايلاند وكمبوديا، وتواصل الأطراف المعنيّة العمل من أجل المصالحة والسّلام.
وإليه نوكل كذلك شعوب جنوب آسيا وأوقيانيا، المُبتَلَيْن بشدّة جرّاء الكوارث الطّبيعية المدمّرة الأخيرة التي أصابت جماعات سكّانية بأكملها. أمام هذه المِحَن، أدعو الجميع إلى أن يجدّدوا بكلّ قناعة التزامنا المشترك بمساعدة المتألّمين.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
في ظلمة الليل "كان النُّورُ الحَقّ، الَّذي يُنيرُ كُلَّ إِنْسان، آتِيًا إِلى العالَم" (يوحنّا 1، 9)، لكن "ما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنّا 1، 11). لا نترك أنفسنا تهزمها اللامبالاة تجاه المتألّمين، لأنّ الله ليس غير مبالٍ ببؤسنا.
إذ صار يسوع بشرًا، حمل ضعفنا، وساوى نفسه مع كلّ واحد منّا: مع الذين لم يعودوا يملكون شيئًا وخسروا كلّ شيء، مثل سكّان غزّة. ومع الذين يعانون الجوع والفقر، مثل الشّعب اليمني. ومع الذين هربوا من أوطانهم بحثًا عن مستقبل في مكان آخر، مثل اللاجئين والمهاجرين الكثيرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط أو يجوبون القارّة الأمريكيّة. ومع الذين فقدوا عملهم أو يبحثون عنه، مثل الشّباب الكثيرين الذين يصعب عليهم أن يجدوا وظيفة. ومع الذين يُستغلّون، مثل عدد كبير من العمّال ذوي الأجور المتدنّية. ومع الذين هم في السّجون ويعيشون مرارًا في ظروف غير إنسانيّة.
إلى قلب الله يصل دعاء السّلام الذي يصعد من كلّ أرض، كما كتب أحد الشّعراء:
"ليس سلامَ وقفِ إطلاقِ النّار،
ولا حتّى رؤيةَ الذّئبِ والحَمَل،
بل سلامٌ كما في القلب، عندما يهدأ الصّخب،
ولا يبقى سوى الكلام عن تعبٍ كبير.
[...]
ليأتِ فجأةً،
مثل الأزهارِ البرّيّة،
لأنّ الحَقلَ
بحاجةٍ إليه: إلى سلامٍ برّيّ".
في هذا اليوم المقدّس، لنفتح قلوبنا للإخوة والأخوات المحتاجين والمتألّمين. وبذلك نفتحها للطّفل يسوع، الذي يستقبلنا بذراعَيه المفتوحَتَين ويكشف لنا ألوهيته: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه، [...]، فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يوحنّا 1، 12).
بعد أيّام قليلة تنتهي سنة اليوبيل. ستُغلَق الأبواب المقدّسة، لكنّ المسيح، رجاءنا، يبقى معنا إلى الأبد. إنّه الباب المفتوح دائمًا الذي يُدخلنا إلى الحياة الإلهيّة. هذه هي البُشرى السّارّة لهذا اليوم: الطّفل الذي وُلد هو الله الذي صار بشرًا. إنّه لم يأتِ ليدين، بل ليخلِّص، وحضوره ليس عابرًا، بل جاء ليبقى ويعطي ذاته. ففيه يُشفى كلّ جُرح، ويجد كلّ قلب راحته وسلامه. "إنّ ميلاد الرّبّ يسوع هو ميلاد السّلام".
أتمنّى للجميع من كلّ قلبي عيد ميلاد مجيد في الصّفاء والطّمأنينة.