موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، قداس منتصف الليل لعيد الميلاد المجيد، وذلك في كنيسة القديسة كاترينا المحاذية لكنيسة المهد في مدينة بيت لحم، بمشاركة لفيف من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، وحشد من المؤمنين والحجاج.
وشهد القداس حضور نائب رئيس دولة فلسطين حسين الشيخ ممثلاً عن الرئيس محمود عباس، ووزير الداخلية الأردني مازن الفرايا ممثلاً عن الملك عبدالله الثاني، ورئيس اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين الدكتور رمزي خوري، إلى جانب عدد من الشخصيات الحكومية والأمنية، والسفراء، وممثلي الدول.
وفيما يلي النص الكامل لعظة البطريرك:
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
ليمنحكم الربّ السلام.
تبدأ قراءة الإنجيل بكلماتٍ صارمةٍ ودقيقة: "في تِلكَ الأَيَّام، صدَرَ أَمرٌ عنِ القَيصَرِ أَوغُسطُس بِإِحْصاءِ جَميعِ أَهلِ الـمَعمور" (لو 2: 1). يعرض الإنجيلي لوقا ولادة يسوع في قلب تاريخ العالم الكبير، تاريخٍ تصوغه قرارات سياسيّة وموازين القوة وعقلية تبدو كأنّها تتحكّم بمسار الأحداث. وكما كان الحال آنذاك، فإن التاريخ اليوم يتسم أيضًا بقرارات سياسية وموازين قوى غالبًا ما تحدّد مصير الشعوب.الأرض المقدّسة شاهد حيّ على ذلك: فالخيارات التي يتخذها الأقوياء لها تداعيات ملموسة على حياة ملايين البشر.
لكنّ الميلاد يدعونا إلى أن نتجاوز منطق الهيمّنة، لنكتشف من جديد قوّة المحبّة والتضامن والعدالة. فهو ليس رواية معلّقة خارج إطار الزمن، بل حدثٌ يتمّ في قلب التاريخ الذي يسير في طرقٍ لا نفهمها دائمًا، وغالبًا لا نختارها.
إنّ مستهلّ النصّ الإنجيلي ليس تفصيلًا تاريخيًّا عابرًا، بل اختيارًا لاهوتيًّا عميقًا. فالإنجيلي لوقا يعلن لنا أنّ الله لا يخاف من التاريخ البشري، حتّى حين يبدو مضطرباً، ومليئاً بالظلم والعنف والهيمنة. ولا يصنع الله تاريخًا موازيًا، ولا يدخل العالم حين يصبح كلّ شيء منظّمًا ومسالمًا، إنما يدخل من بوابة التاريخ الواقعي الملموس، والقاسي أحيانا، ويتبنّاه من الداخل.
يبدو أن مرسوم قيصر يهيمن على المشهد: إمبراطور يُحصي ويُسجّل وينظّم ويحكم. كلّ شيء يبدو تحت سيطرته، وكل شيء يبدو خاضعًا لمنطق السلطة التي تقرّر مصير الشعوب. ومع ذلك، ومن دون أن يدري، يصبح هذا المرسوم عينه أداة تدبيرِ إلهيّ أعظم. فالتاريخ الذي يظنّ فيه الإنسان أنّه مكتفٍ بذاته، يصير المكان الذي يُتمّم الله فيه وعده. وهذه إحدى البشائر الكبرى للميلاد: الله لا ينتظر أن يتحسّن التاريخ ليدخله، بل يدخله كما هو. وهكذا يعلّمنا أنّه لا يوجد زمن ضائع بالكامل، ولا حالة مظلمة جداً إلى حدٍّ يعجز الله أن يسكن فيها.
لذلك لا يبدأ الإنجيل بمعجزة صاخبة، بل بقرار إداري؛ لا بترنيم الملائكة، بل بأمر إحصاء. وهناك، على وجه الخصوص، يقترب الله من الإنسان، فينطلق يوسف ومريم في الطريق، لا وفق مشروع اختاراه، بل طاعة لأمر صادر عن السلطات العليا. إنهما يتحركان في مجرى تاريخ لا يملكان السيطرة عليه، تحكمه قرارات لم تصدر عنهما. ومن خلال هذه الظروف، التي تبدو بعيدة كل البعد عن وعد الله، يتمم الله كلمته.
في الميلاد لا يخضع الله للعالم، كما أنّ المسيح في الفصح لا يُغلَب بالشرّ؛ في الميلاد يبلغ حبّ الله للعالم إلى أقصى الحدود، فيحتضنه ويتكفّله. ويمكن القول إن الله، بتجسده، يقترن بالواقع، فكل ما هو بشري لم يتوقف في نظر الله، عن أن يكون مكانا جديرا بسكناه. صحيح أن الخطيئة شوهت شبهنا بالله، لكنها لم تمح هذه الصورة فينا وفي الخليقة. لذلك يبقى العالم مباركا، حتى حين يتحول نشيد تسبيح الخالق لجمال الخلق إلى نداء خلاص.
إن دخول الله الأزلي الى الزمن البشري جعله مفعَما برجاء مستقبل مختلف. وكسر الحلقة العقيمة من أحداث غالبا ما تتكرّر بشكل مؤلم، وحوّل حياتنا الهشّة، ولحظاتنا الصعبة، إلى أماكن تعبق بتاريخ الخلاص. ومنذ ذلك الحين، صار التاريخ جديرا بأن يُعاش دائمًا، لأنّ بذرة سلام لا تُقهر قد أُودِعت فيه. فابن الله، إذ صار طفلًا واختار أن يخضع للمسيرة الإنسانية كلّها من الميلاد إلى الموت، يعلن لنا أنّ هناك ما يستحقّ الحياة كرجالاٍ ونساء، لأنّ الحياة الإنسانيّة التي اتّخذها الكلمة الأزلي، أصبحت المكان المقدّس الذي يواصل الله فيه صنع عجائبه.
تحدث ولادة يسوع في الليل. لا في الليل الزمنيّ فحسب، بل في ظلمة الليل البشري، في زمن يسوده الضعف وعدم اليقين والخوف. ومع ذلك، في هذه الليلة المظلمة عينها يلج النور في العالم. نورٌ لا يلغي الليل، بل يغلب الظلمات التي تحيط به. نور الله لا يُبهِر ولا يفرض نفسه، بل يُنير الدرب أمامنا ويجعل متابعة السير ممكنة.
يقدّم إنجيل لوقا، من خلال سرده لقصة الميلاد، تباينًا جوهريًا: من جهة إمبراطور يتحكم بمصير الشعوب، ومن جهة أخرى طفل يلد بلا سلطان بشري. الإمبراطوريّة تُصدر مراسيم، أمّا الله فيهب ابنًا. وبينما يتبع التاريخ منطق القوّة، يعمل الله في الخفاء ويُتمّم وعوده عبر أحداثٍ عاديّة.
هذا التباين لا يهدف إلى تحريك مشاعرنا فحسب، بل إلى تغييرنا. يكشف لنا طريقة حضور الله في العالم، وبالتالي كيف نحن مدعوّون إلى أن نكون حاضرين في هذا التاريخ. إن عيد الميلاد ليس ملاذاً روحياً يخلصنا من التعب الحاضر، بل إنه مدرسة في المسؤوليّة. يعلمنا أنّ ملء الزمان ليس حالةً مثاليّة ننتظرها، بل واقعًا تقبله لأن المسيح نفسه هو الذي يملأ الزمن ولا ينتظر أن تكون الظروف ملائمة، بل يقيم فيها كما هيَّ ويحوّلها.
"الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لو 2: 14). وهكذا يجب أن نفهم السلام الذي بشّر به الملائكة. إنّه ليس مجرّد حالة من الاستقرار والهدوء، ولا نتيجة لاتفاقات هشّة، بل ثمرة حضور الله في التاريخ. إنه سلامٌ يأتي من العُلى، لكنّه لا يُفرض. إنه موهوب، ولكنه في الوقت عينه أمانة في أعناقنا. فالله يقوم بدوره إلى المنتهى: يدخل التاريخ، يتجسد كطفل، ويشاركنا حالتنا. لكنّه لا يُلغي حرّيّة الإنسان. ولا يصير السلام واقعًا إلا إذا وجد قلوبًا مستعدّة لاستقباله، وأيديًا جاهزة لحراسته.
من هنا، يضع عيد الميلاد بين أيدينا مسؤوليّة كبيرة وملموسة. فكلّ مبادرة للمصالحة، وكلّ كلمة لا تُغذّي الكراهية، وكل قرار يستند إلى احترام كرامة الآخر، يُصبح المكان الذي يتجسّد فيه سلام الله. عيد الميلاد لا يُبعدنا عن التاريخ البشري، بل يُشركنا فيه بعمق. لا يجعلنا محايدين، بل شركاء.
هنا، في الأرض المقدّسة، لهذه الحقيقة صدى خاص وقوي. فالاحتفال بميلاد الرب في بيت لحم يعني الاعتراف بأنّ الله اختار أرضًا حقيقيّة، مليئة بالجراح والآمال. قداسة الأماكن تتجاور مع جراحٍ ما زالت مفتوحة. نحن نأتي من سنوات عصيبة، حيث الحرب والعنف والجوع والدمار أثروا بشكل كبير في حياة الكثيرين، ولا سيما الصغار. أصبحت الأوضاع ثقيلة للغاية، والعلاقات مليئة بالصراعات، واستئناف الطريق وإعادة البناء ليسا بالأمر الهيّن. أظهر التاريخ في هذه السنوات كلّ تناقضاته، وفاجأنا الواقع بجانبها الثقيل والمعقّد والحزين. وما نختبره هنا كواقعٍ ملموس ومؤلم، يتكرر في أماكن كثيرة من العالم. هناك رغبة متزايدة في الهروب من الواقع: هروب من مسؤوليّاتٍ ثقيلة، وهروب من العناية بالخير العام مع تفضيل المصلحة الشخصيّة؛ وهروب من روابط تتطلّب التزامًا للانتقال من تشتيتٍ إلى آخر، في مناخٍ عام من اللامبالاة. في كلّ مكان تقريبًا، نشعر بقلقٍ عميق، وأحيانًا روحيّ، لعجزنا عن فهم سبب هذا العنف كلّه، والثقافة التي تغذّيه أو تتجاهله.
إنّ الأوضاع الصعبة التي تشهدها هذه الفترة ليست نتيجة القدر، بل نتيجة خيارات سياسيّة ومسؤوليّات بشريّة وقرارات غالباً ما تضع مصالح القلّة فوق الخير العام. الأرض المقدّسة، ملتقى الشعوب والديانات، لا تزال مسرحًا لتوتّراتٍ وصراعات تستدعي مسؤوليّة القادة المحلّيّين، والمجتمع الدولي، وكذلك السلطات الدينيّة والأخلاقيّة.
ما زالت امامنا تحديات أينما كنا داخل حدود ابرشيتنا. وعلى الرغم من توقّف الحرب، ما تزال المعاناة حاضرة في غزّة؛ فالعائلات تعيش بين الأنقاض، والمستقبل يبدو هشًّا ومجهولاً. الجراح عميقة، ومع ذلك، هنا أيضًا، بل هنا تحديدًا، يصدح إعلان الميلاد. وقد أثّر فيّ، لدى لقائي بهم، ما لمسته من قوّة ورغبة في البدء من جديد، وقدرتهم على فرحٍ متجدد، وإصرارهم على إعادة بناء حياتهم المدمرة من الصفر. أعتقد أنّهم يعيشون اليوم ميلادًا خاص بهم، أي ولادة جديدة وحياة جديدة. إنّهم شهادة جميلة لنا جميعًا. يذكّروننا بأنّنا نحن أيضًا مدعوّون إلى أن نبقى داخل تاريخنا، وأن نطالب بشجاعة بمسارات عدالة ومصالحة، وبالإصغاء إلى صرخة الفقراء، حتى لا يبقى السلام مجرد حلم، بل التزامًا ومسؤوليّة جماعية.
"وكانَ في تِلكَ النَّاحِيَةِ رُعاةٌ يَبيتونَ في البَرِّيَّة، يَتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم" (لو 2: 8). هذا النداء العالمي يجد على الفور وجهًا ملموسًا في الإنجيل: فبعد ولادة يسوع، يتحوّل النظر من عظماء التاريخ إلى رعاةٍ في الحقول، رجالٍ بسطاء، غالبًا غير مرئيّين، يمثّلون الحياة العاديّة والكفاح اليومي. لا يكشف الله ذاته للمتميزين، بل للباحثين؛ لا لمن يملكون، بل لمن يسهرون ويواجهون تعب الحياة اليوميّة.
هنا والآن، نحن جميعًا مدعوّون إلى أن نكون باكورة الملكوت الآتي. لا في مكانٍ آخر، ولا في زمنٍ مثالي. هنا، ونحن نواجه بشجاعة تحدّيات العيش معا، الذي غالبًا ما يكون صعبًا، ومسيرة إعادة الإعمار البطيئة والشاقّة، نحن مرسَلون من الآب، مع الابن، بقوة الروح، لإصلاح الخراب، وإعادة الرجاء، وبث الحياة. على خطى يوسف ومريم، نحن مدعوون للعودة إلى واقعنا مفعمين بالثقة، متأكدين أنّ الله يسير أمامنا.
أيّها الأحبّاء،
إنّ التاريخ لا يتغيّر بين عشية وضحاها. لكنّه قد يغيّر اتجاهه حين نسمح لأنفسنا، رجالاً ونساء، بأن نستنير بنور أعظم منا. إنجيل هذه الليلة يخاطبنا نحن الحاضرين، الآتين من بلدان وثقافات وتواريخ مختلفة. يطلب منا ألّا نبقى على الحياد، وألّا نهرب من تعقيدات الحاضر، بل أن نجتازها ونحن نستنير بنور الطفل. قد يكون ليل العالم قاتما، لكنّه ليس نهائيًّا. نور بيت لحم لا يُبهِر، بل يُنير الطريق. ينتقل من قلبٍ إلى قلب، عبر أفعالٍ متواضعة، وكلماتٍ مصالِحة، وخياراتٍ يوميّة للسلام، يصنعها رجال ونساء يسمحون للإنجيل أن يتجسّد في حياتهم.
في هذه الليلة المقدّسة، تعلن الكنيسة أنّ الرجاء لا يَخِيب. لقد دخل الله تاريخنا ولم يغادره. اختار أن يسكن زمن البشر لكي لا يشعر أحد بأنّه مُستثنى، أو أنّ حياته مهمّشة، أو أن ليلَه بلا نور. ليبارك الطفل المولود في بيت لحم هذه الأرض وكلّ شعوبها. وليبارك كلّ عائلةٍ مجروحة، وكلّ طفلٍ متألّم، وكلّ رجلٍ وامرأةٍ أثقلهم عبء الحاضر. في هذه الليلة المقدّسة نعلن بفرح: النور يشرق في الظلمة، والظلمة لم تُدركه. ولله الذي اقترب منّا، واختار فقر المذود ليسكن تاريخنا، المجد إلى الأبد.
ميلادٌ مجيد لكم جميعًا، وللأرض المقدّسة، وللكنيسة، وللعالم أجمع. آمين.
البطريرك بيتسابالا في رسالة الميلاد 2025: المحبة بلا حدود هي ما يحتاجه عالمنا اليوم