موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأربعاء، ٢٣ يوليو / تموز ٢٠٢٥
دور القيم الإنسانية في تنشئة الأجيال على العيش المشترك
فيما يلي كلمة المونسنيور خالد عكشة، أمين السر السابق للجنة العلاقات الدينية مع المسلمين، في دائرة الحوار بين الأديان بالفاتيكان، خلال ندوة منظمة "تربويون بلا حدود"، مكتب أبوظبي، بعنوان: القيم الإنسانية في المنظومة التعليمية: دور القيم الإنسانية في تنشئة الأجيال على العيش المشترك".

المونسنيور خالد عكشة :

 

كم يفرّحني مصطلح وفكرة "تربويون بلا حدود"، فالحدود كلها من صنع الإنسان، سواء كانت على الأرض أو في البحر أو في الجو. أّمّا ما خلق الله فهو رحبٌ بلا حدود، كمحبته تعالى لكل خلقه وعنايته بهم وحدبه عليهم. وهذا الكونُ وما فيه هو لله أولا وأخيرا، يسخّره لخير كل خلائقه، بدءا ببني آدم: "للرب الأرض وكل ما فيها، الدنيا وساكنوها " (المزمور 24، 1).

 

وقد قيل بأن الصدفةَ خيرٌ من ألف ميعاد. وهذا يصحّ على هذا اللقاءِ الافتراضي الذي نحن بصدده. فمبادرةُ مخاطبتكم، مشاهديَّ الأعزاء، ولدت خلالَ لقائي د. محمد العبيدي في باكو عاصمة أذربيجان، في شهر أيار المنصرم.

 

لم أتردد في قَبول الدعوةِ الكريمة حول تنشئة الأجيال القادمة لعدة أسباب، أوّلُها أنَّ المسيحيةَ ترى في الله، تبارك وتعالى، مربّيًا لخلائقه من بني البشر: "إنّ الله يعاملكم معاملة البنين، وأيُّ ابن لا يؤدّبه أبوه؟" (الرسالة الى العبرانيين 7:12). كما أنّ التربيةَ هي في صُلب رسالةِ رجلِ الدين. فأنا كاهنٌ كاثوليكي، وإضافةً إلى ذلك، فقد عملت في حقل التربية بشكلٍ حصري في معهد تنشئة الكهنة التابع لبطريركية القدس لللاتين الواقع في فلسطين المحتلة من عام 1982 الى عام 1993. كما أنّي دُعيت لاحقًا الى العمل في الفاتيكان في دائرة الحوار بين الأديان، التي من ضمن أهدافها تعزيزُ العيش المشترك بين أتباع الأديان المختلفة. كان هذا لمدة ثلاثين سنة: من 1994-2024.

 

أودّ أنْ أبدأ من النهاية، أي من الهدفِ المنشود: العيش المشترك، منتقلا بعد ذلك الى القيم الإنسانية ثمّ إلى تنشئة الأجيال، خاتمًا بالمنظومة التعليمية.

 

1. يُعرَّف العيشُ المشترك Coexistence)) بأنَّه حالةٌ من التفاعل السلمي الإيجابي بين أفرادٍ أو جماعات مختلفة في أعراقها وأديانها ومذاهبها ومعتقداتها، تعيش ضمن مجتمع واحد أو في فضاء مشترك. يتجاوز هذا النوع من العيش مجرّدَ التسامح السلبي، لينطلقَ إلى فضاء القَبولِ والاحترام المتبادَلين، وبناءِ مجتمعٍ مترابطٍ قوي ومنفتح على غيرِه من المجتمعات، يتميّزُ بالتعاون في سبيلِ الخير العام، ويسعى الى تحقيقِ مصالحَ مشتركة.

 

 

أبعاد العيش المشترك

 

لا تقتصر أبعاد العيش المشترَك على جانبٍ واحد، بل تمتدُ لتشملَ أبعادًا متعددة:

 

البعد الثقافي: قََبولُ واحترامُ التنوعِِ في العادات والتقاليد والفنون واللغات، واعتبارُها مصدرا للإثراء المتبادَل، لا للتنافر والتناحر.

 

البعد الديني: احترام أديان الآخرين ومعتقداتهم، والاعتراف بحقهم في ممارستهم شعائرهم الدينية بحرية ودون تضييق، وتعزيزُ الحوارِ بين الأديان الهادفِ الى المعرفة المتبادَلة وتعزيزِ الثقة بالآخر، بعد إسقاط حواجز الوجل والانغلاق على الذات خوفًا من الذوبانِ الهُوياتي والضياعِِ الديني والثقافي.

 

البعد الاجتماعي: ضمانُ المساواةِ في الحقوق والواجبات والمعاملة لجميع أفراد المجتمع وجماعاته، بصرف النظر عن خلفياتهم ومواقفهم الفكرية، وتعزيزُ التكافلِ الاجتماعي والتضامنِ بين جميعِ فئات المجتمع.

 

البعد السياسي والقانوني: ما يقتضي وجودَ أطرٍ قانونية وسياساتٍ عامّة تضمن العدالةَ والمساواة للجميع، وتحمي حقوقَ الأقليات العرقية والدينية، وتوفّر آلياتِ حلِّ النزاعاتِ سلميًا.

 

البعد الاقتصادي: توفيرُ فرصٍ متساويةٍ للجميع في العملِ والتنمية الاقتصادية، ومنعُ التمييز، ما يحمي من نتائجه السلبية من تهميشٍ وإقصاء وانغلاق وفقر.

 

 

ركائزُ العيش المشترك

 

لا بدّ من توافرِ ركائزَ أساسيةٍ لتحقيقِ العيش المشترك الفعّال:

 

1. الاحترام المتبادل: الاعترافُ بقيمةِ وكرامة كلَِ فردٍ أو جماعة، واحترامُ الاختلافات المشروعة واعتبارها عناصرَ إيجابيةٍ مُغنية، لا سلبية أو خطيرة.

 

2. قبول الآخر: قبولُ الآخر المختلف في المعتقد أو الرأي أو السلوك السوي، وعدمُ إكراهه على تبني ما لا يريد أن يؤمنَ به.

 

3. الحوار والتفاهم: فتحُ قنواتٍ للتواصل المنفتح والبنّاءِ بين المجموعات المختلفة، لفَهم وجهاتِ النظرِ المتباينة وإزالةِ سوء الفَهم وتحقيقِ التفاهمِ والانسجام.

 

4. العدالة والمساواة: ضمانُ حقوقٍ متساويةٍ وواجبات متكافئةٍ للجميع أمام القانون، وتوفيرُ فرصِ عملٍ وارتقاء وظيفي متساويةٍ لجميعِ الموطنين دونَ تمييز.

 

5. المشاركة والاندماج: إتاحة الفرصة لجميع الأفراد والجماعات للمشاركة الفعالة في الحياة العامة، والمساهمةِ في بناء المجتمع المتماسك القوي.

 

6. قبول الاختلاف: إدراكُ أنّ التنوعَ واقعٌ بشري لا يمكنُ إنكاره أو إلغاؤه، واعتبارُه مصدرَ غنى وإبداع، لا تهديدًا أو خطرًا يجب درؤه.

 

7. المواطنة المشتركة: ترسيخُ فكرةِ الانتماء لكيانٍ وطني جامع يتجاوز الانتماءات الفرعية، حيثُ يتساوى الجميعُ في الحقوقِ والواجبات والفرص.

 

 

أهمية العيش المشترك

 

يُعدّ العيشُ المشترك ضرورةً حتمية للمجتمعاتِ المعاصرة المتعددة الأعراق والأديان والثقافات، إضافةً إلى ما له من فوائدَ جمّة:

 

تحقيقُ السلامِ والاستقرار: يقلّل من التوترات النزاعات والصراعات، ويعزّزُ الأمنَ المجتمعي.

 

تعزيزُ التنميةِ والتقدم: يوفّر بيئةً مستقرة تتيح للأفراد والجماعات التركيزَ على البناءِ والتطوير في مختلَف المجالات.

 

إثراءُ الثقافة والهوية: يؤدي إلى تبادلِ الخبراتِ والمعارفِ وتلاقحِ الثقافات، ما يثري هُويةَ المجتمعِ الكلية ويجعله أكثرَ حيوية.

 

بناءُ مجتمعات متماسكة وقوية: عندما يشعر الجميع بالقيمة والانتماء، يصبح المجتمع أكثرَ ترابطًا وقدرةً على مواجهةِ التحديات ومواصلةِ مسيرةِ الخير.

 

تنمية الفرد: يساعد على توسيعِ مدارك الأفراد وتقبّلِهم للآخر، ما يعزِّز من نُضجهم الفكري والعاطفي.

 

التعاون على مواجهة التحديات العالمية: في عالمٍ مترابط أشبه بالقرية، أصبح التعاونُ بين الشعوب والأديانِ والثقافات المختلفة أمرًا ضروريًا لمواجهةِ قضايا مثلَ تغيرِ المناخ، الاحتباسِ الحراري، الهجرةِ غيرِ القانونية، الأوبئة، والفقر.

 

 

معوقات العيش المشترك

 

على الرغم من أهميته، يواجه العيشُ المشترك تحدياتٍ قد تعيق تحقيقه:

 

التعصب والتطرف: سواء كان دينيًا، عرقيًا، أو فكريًا، فإنّه يقودُ إلى الكراهيةِ والتمييز والإقصاء.

 

الجهلُ بالآخر: عدمُ معرفة أديان الآخرين ومعتقداتهم وثقافاتهم يؤدي إلى سوءِ الفَهم وتكوينِ الأحكام المسبقة والصور النمطية.

 

التمييز والإقصاء: ممارساتُ التمييزِ على أساسِ العرق، الدين، الجنس، أو أيِّ هُوية أخرى تحرم فئاتٍ من حقوقها وُتقصيها من المشاركةِ في حياة المجتمع والإسهام في تطوّره.

 

غياب العدالة: عدمُ وجودِ نظامٍ قانوني واجتماعي عادل يضمن المساواة –دولة القانون– يؤدي إلى تزايدِ التهميش وما ينتج عنه من مشاعرِ المظلومية والانغلاق والانعزال على مستوى الأفراد والجماعات.

 

المصالح الضيقة: سعيُ بعضِ الأفرادِ أو الجماعات لتحقيقِ مصالِحها على حساب الآخرين، ما يهدّد وَحدة المجتمعِ وخدمةَ الصالح العام.

 

 

تعزيز العيش المشترك

 

يتطلبُ تعزيزُ العيشِ المشترك جهودًا متواصلة على مستويات مختلفة:

 

التربية والتعليم: غرسُ قيمِ الاحترام المتبادَل وقَبولِ الآخر في المناهج التعليمية ومن خلالِ الأنشطة اللاصفية.

 

دور الإعلام: المساهمةُ في نبذ الكراهية وخطاباتها، ونشرُ ثقافة الحوار، وإبرازُ النماذج الإيجابية للعيش المشترك في الماضي والحاضر.

 

القوانين والتشريعات: سنُّ قوانينَ تجرّم التمييزَ والكراهية والتحقير والتهديد، وتضمنُ كرامَةَ الجميع وحقوقَهم.

 

الحوار بين الأديان والثقافات: تنظيمُ فعّالياتٍ ومنتديات للحوار لمزيدٍ من المعرفة المتبادلة وتقدير الآخر في سبيل تقريبِ وجهات النظر وبناءِ جسورِ التواصل.

 

المشاريع والأنشطة المشتركة: تشجيعُ الأنشطةِ التي تجمعُ أفرادًا من خلفياتٍ مختلفةٍ للعمل معًا على تحقيقِ أهدافٍ مشتركة تخدُم الصالحَ العام، كتنظيف الشواطئ وأمكنةِ التنزه والغابات والتخفيفِ من معاناة الفئات الضعيفة والمحتاجة من أيتامٍ وأراملَ وفقراءٍ ومهجّرينَ ونازحين.

 

العيشُ المشترك ليس مجردَ شعار، بل هو ممارسةٌ يومية ومسؤوليةٌ جماعية تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والدول لبناء مستقبلٍ أكثرَ إنسانيةُ وازدهارًا لجميع بني البشر.

 

وعلى الصعيد الشخصي، لا أزال أذكر بمودة وحنين أبناء وبنات صفي من المسلمين، عندما كنتُ في الصفوف الابتدائية في المدرسة التابعة للكنيسة في مدينتي الواقعة في جنوب الأردن. وأمّا الجيرانُ والأصدقاءُ من المسلمين، فهم بفضلِ الله كُثرٌ ونلتقي في بعض المناسبات.

 

وأمّا الأصدقاءُ المسلمون الذين تعرفت عليهم من خلال عملي الطويل في دائرة الحوار بين الأديان، فهم كثيرون ومنتشرون في العديد من البلدان ومصدرُ فرح واعتزاز. والصديق هو كالكنز، كما يعلّمنا الكتاب المقدس (ر. يشوع بن سيراخ 6: 14).

 

2. وننتقلُ إلى القيم الإنسانية. هي مجموعةٌ من المبادئ والمعايير الأخلاقية التي توجّه سلوكَ الأفراد وتفكيرهم وتفاعلاتهم مع الآخرين ومع المجتمع والعالم. هي بمثابةِ بَوصَلةٍ أخلاقية تساعد الإنسان على التمييز بين الصواب والخطأ، والخير والشر، وتحدد ما هو مهم وذا قيمة في الحياة.

 

 

مفهوم القيم الإنسانية

 

القيمُ الإنسانية ليست مجرّدَ قواعدَ جامدة، بل هي جزءٌ أساسي من كيان الإنسان وشخصيته. تتكوّنُ هذه القيم مِن:

 

مبادئَ أخلاقية: مثلَ الصدقِ، الأمانة، العدل، الإحسان، والتسامح.

 

معاييرٍ سلوكية: تحدّدُ كيفيةَ التصرف في المواقف المختلفة، مثلَ احترام الآخرين، المساعدةِ والتعاون.

 

معتقداتٍ راسخة: تؤثّر على طريقة رؤية الفرد لذاته وللعالم، واتخاذِ قرارات منسجمة معَ هذه الرؤية.

 

 

أهمية القيم الإنسانية

 

للقيم الإنسانية أهميةٌ بالغة على المستويين الفردي والمجتمعي:

 

للفرد:

 

بناء الشخصية: تساهم في بناء شخصيةٍ ناضجةٍ، قوية ومتماسكة.

 

توجيه السلوك: تكونُ مرجعًا لضبطِ التصرفات والسلوكيات، وتحمي الفردَ من الوقوع في الأخطاء، وتساعده على النهوض إذا سقط.

 

السلام الداخلي: تمنح الفرد إحساسًا بالسلام الداخلي والسكينة والتوازن والاستقرار.

 

كسب الثقة: تساعد على كَسب ثقة الناس ومحبتهم.

 

التطور الذاتي: تدفعه نحو التطورِ المستمر والنمو والتميز.

 

للمجتمع:

 

التماسك الاجتماعي: تحافظُ على تماسكِ المجتمع ووَحدته، وتحدِّدُ مبادئَه وأهدافَه.

 

تعزيز السلام والتعاون: تقلل من التوترات والخلافات والصراعات، وتعززُ التعاونَ بين الأفراد والجماعات في المجتمعات المتعددة المكونات.

 

التقدم الحضاري: تُعتبر ركيزةً أساسية للتقدم الحضاري، وتنتقلُ من جيل إلى جيل عبر التربية والتعليم والتواصلِ الفعّال بين الأجيال.

 

مواجهة التحديات: تساعد المجتمعَ على مواجهةِ التغيرات والتحديات بفعّالية.

 

تحديد الهوية: تعطي المجتمعَ هُويته التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات.

 

 

أنواع القيم الإنسانية

 

تتعددُ أنواع القيمِ الإنسانية، وتتداخلُ فيما بينها لتشكِّلَ نسيجًا متكاملًا، ومن أهمِّها:

 

القيم الأخلاقية: مثل الصدق، الأمانة، العدل، الشجاعة، قبول الآخر، الاحترام المتبادَل، التعاطف.

 

القيم الاجتماعية: التي تتعلق بالعلاقات بين الأفراد والمجتمعات، مثلِ العدالة الاجتماعية، المسؤولية الاجتماعية، التضامن، والتعاون.

 

القيم الشخصية: هي المبادئ التي يختارها الفرد لنفسه وتوجّه حياته، مثلَ التطور الذاتي، الاستقلالية، النجاح، والشغف.

 

القيم العالمية: هي القيمُ المشتركة بين أغلب البشر حول العالم، مثل الحريةِ، الأخوّة الإنسانية، المساواة، العدالة، والحب.

 

القيم الروحية والدينية: التي تتعلّق بالجانب الروحي للإنسان ومعتقداته، مثل الإيمان، السلام الداخلي، المحبة، والرحمة.

 

مصادر القيم الإنسانية عديدة، أهمّها الأسرة التي تعتبر المصدرَ الرئيس لغرسِ القيم في الطفل منذ الصغر، بالإضافة إلى المدرسة، أمكنة العبادة، الأصدقاء، والمجتمع بشكل عام. ورغم أنَّ بعضَ القيم قد تبدو فطرية، إلاّ أنّها تتطورُ وتتشكل أيضًا من خلال التجارب والتعلّم والتفاعل مع الآخرين.

 

ودون الوقوعِ في مطبّ التبسيط، فإني عندما أفكّرُ في حال عالمنا، فإنّي استخلصُ أنّ الأزْمة على صعيد الأفراد والجماعات والدول، وبالتالي على صعيد العالم، إنّما هي أولاً أزمة قيم، فلو كانت هناك مساواةٌ وعدلٌ وإنسانية وتراحم وإيثار لكانت أزمات العالم والدول والجماعات أقلَّ حدة وأسهل علاجًا. وكونُنا لا نريد أن نكتفي بالتمنيات، فليعملْ كلٌ مِنا على شفاء عالمنا المريض وعلى تجديده قيميًا.

 

 

3. تنشئة الأجيال

 

هي عملية شاملة ومعقدة تهدف إلى إعداد الأطفال والشباب ليصبحوا أفرادًا فاعلين، منتجين، ومساهمين إيجابيًا في مجتمعاتهم. لا تقتصر هذه العملية على تزويدهم بالمعرفة فحسب، بل تشمل أيضًا غرسَ القيم، بناءَ المهارات، وتطويرَ الشخصية في جميع جوانبها.

 

 

أهمية تنشئة الأجيال

 

تُعدّ تنشئةُ الأجيال ركيزةً أساسيةً لأيّ مجتمعٍ يسعى إلى التقدم والازدهار. تكمن أهميتها في:

 

بناءِ المستقبل: الأجيالُ الجديدة هم بناةُ المستقبل وقادة الغد، بالإضافةِ إلى دورِهم في حاضرِ مجتمعاتهم. تنشئتُهم السليمة تضمن استمراريةَ تطوّرِ المجتمع وحضارتِه.

 

الحَفاظ على القيم والهوية: من خلالِ التنشئة، تنتقلُ القيم الدينية، الأخلاقية والثقافية من جيل إلى جيل، ما يحافظُ على هويةِ المجتمع وخصوصيّته.

 

المساهمة في التنمية الشاملة: تزويدُ الأجيال بالمعرفة والمهارات اللازمة يُمكّنهم من المساهمة بفعّالية في التنمية الاجتماعية، الاقتصادية، والعلمية.

 

بناء شخصيات متوازنة: التنشئةُ السليمة تساعد الأفراد على تطوير شخصياتٍ متكاملة، قادرةٍ على التفكيرِ النقدي، التكيف مع التغيرات، وحل المشكلات.

 

الحد من المشكلات الاجتماعية: الأفراد الذين ينشؤون على قيمٍ إيجابية ومهاراتٍ حياتية يكونون أقلَّ عُرضة للوقوع في المشكلات الاجتماعية والانحراف.

 

 

أركان تنشئة الأجيال

 

تتضافر جهود عدّة جهات لتشكيل الأجيال، وأبرز هذه الأركان هي:

 

الأسرة:

- هي الحاضنة الأولى والمشتل الأساسي لتنشئة الأطفال.

- تغرس القيمَ الأوليّةَ مثل الصدق، الأمانة، الاحترام، والتعاطف.

- توفّر القدوة الحسنة من خلال سلوك الوالدين، ما يؤثِّر بشكلٍ مباشر على الأطفال.

- تعزز التواصل والحوار، وتوفّر الدعم العاطفيّ والأمان.

- تساعد على بناء شخصية الطفل ومبادئه الأساسية.

 

المؤسساتُ التعليمية (المدارس والجامعات):

- تكمّلُ دور الأسرة في تزويد الأجيال بالمعرفة والمهارات الأكاديمية والعملية.

- تعزز التفكير النقدي، الإبداع، وحل المشكلات.

- تساهم في التنشئة الاجتماعية من خلال التفاعل مع الأقران والمعلمين.

- تعلّم الانضباط، العمل الجماعي، والالتزام بالمسؤوليات.

- تُعدّ الأفراد لسوق العمل والمساهمة في التنمية.

 

المجتمع (المؤسسات الدينية، الإعلام، الأقران):

- يُشكّل المجتمع البيئةَ الكبرى التي يتفاعل معها الأفراد.

- تؤثّر المؤسسات الدينية في غرس القيم الروحية والأخلاقية.

- يلعب الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي والأفكار، سواءً بشكلٍ إيجابي أو سلبي.

- مجموعةُ الأقران (الأصدقاء) تؤثّر على سلوكيات الشباب واختياراتهم.

- توفّر الأنشطةُ المجتمعيةَ والنوادي فرصًا لتنمية المهارات واكتساب الخبرات.

 

 

تحدّياتُ تنشئة الأجيالِ في العصر الحديث

 

تواجه عملية تنشئة الأجيال اليومَ تحدياتٍ غيرِ مسبوقة بسبب التطورات المتسارعة:

 

تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي: التعرض للمحتوى الضار، مخاطر الخصوصية والأمان الرقمي، والتشتت وصعوبة التركيز.

 

التغيرات الاجتماعية والاقتصادية: ضغوط الحياة، انشغال الوالدين، وتغيّرُ نمَط الحياة الأسرية، بما في ذلك غيابُ الأجداد في كثير من الأحيان عن بنيهم وأحفادهم، يؤثّر على جودة التفاعل الأسري.

 

العولمة وانفتاح الثقافات: صعوبةُ الحَفاظ على الهُويةِ والقيم المحلّية في ظل تدفّق الثقافات المختلفة.

 

غياب القدوة: في بعض الأحيان، يفتقر الشباب إلى قدواتٍ إيجابية في محيطهم العائلي أو الاجتماعي أو في الإعلام.

 

التحدّيات النفسيّة: زيادة الضغوط النفسية، القلق، والاكتئاب بين الشباب نتيجةً للمقارناتِ الاجتماعية والتوقّعات العالية والخوف من المستقبل.

 

الفجوة بين الأجيال: صعوبة التواصل بين الأجيال المختلفة نتيجةً لاختلاف طرق التفكير والقيَم والأولويات.

 

 

سبل تعزيز تنشئة الأجيال

 

لضمان تنشئةٍ سليمة للأجيال، يجب التركيز على:

 

الاستثمار في الأسرة: دعمُ الأسَر لتقوية روابطها، وتوفير برامجَ توعيةٍ للوالدين حولَ أساليبِ التربية الحديثة.

 

تطويرُ التعليم: تحديثُ المناهجِ لتلائم متطلّباتِ العصر، وتطويرُ مهارات المعلمين، ودمجُ التكنولوجيا بشكلٍ فعّالٍ ومسؤول.

 

تعزيزُ دور المجتمع: نشرُ الوعي بقيَم المواطنة الصالحة الفاعلة، تشجيعُ المبادرات الشبابية، ومراقبةُ المحتوى الإعلامي.

 

غرسُ القيم الأخلاقية والدينية: العودةُ إلى القيم الأساسية التي تبني شخصيةً قويةً ومتحمِّلةً للمسؤولية.

 

تنميةُ المهارات الحياتية: تعليمُ الشباب كيفيةَ التفكيرِ النقدي، التكيف، حلَّ المشكلات، إدارة العواطف، والتواصل الفعال.

 

الموازنةُ بين الانفتاحِ والحماية: توجيهُ الأجيالِ للاستفادة من إيجابيات العصر الحديث، معَ تحصينِهم من سلبياته.

إنَّ تنشئةَ الأجيالِ مسؤوليةٌ مشتركة تتطلّبُ تضافر جهود جميع الأطراف، لضمان بناء مجتمعٍ متماسك، سليم، مزدهر ومستقبلٍ مشرق.

 

ننتقل من التنشئة إلى المنظومة التعليمية.

 

4. المنظومة التعليمية Educational System)) هي إطار شامل ومتكامل يضمُّ جميع العناصر والمكوّنات التي تتفاعل معًا لتحقيقِ أهداف التعليم والتعلم في مجتمع أو بلد معين. إنها ليست مجردَ مدارسٍ وفصولٍ دراسية، بل هي شبكةٌ معقدة من المؤسسات، السياسات، الموارد البشرية، والمناهج، التي تعمل بتناغمٍ لتنمية قدرات الأفراد وتزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة للحياة والعمل والمساهمة في بناء المجتمع.

 

عناصر المنظومة التعليمية الأساسية:

 

تتكوّن المنظومة التعليمية من عدة عناصر مترابطة، أهمُّها:

المتعلم (الطالب): هو المحور الأساسيّ للعملية التعليمية. تركّزُ المنظومة الحديثة على تلبية احتياجاته الفردية، تنمية قُدراته، وتعزيز مشاركته ودافعيته للتعلم.

 

المعلم (المربي): هو الركيزةُ الأساسية لنجاح أيّ منظومةٍ تعليمية. يتولّى المعلم مسؤولية نقل المعرفة، توجيه الطلاب، وتوفير بيئةٍ تعليميةٍ محفِّزة. يتطلب تطويرُ المنظومة التعليمية الاهتمامَ بتأهيل المعلمين، تدريبهم المستمر، وتوفير الدعم الماديّ والمعنوي اللازم لهم.

 

المنهج التعليمي (المحتوى الدراسي): يشمَلُ الأهداف التعليمية، المعارف، المهارات، والقيَم التي تسعى المنظومة لغرسها في المتعلمين. يجب أن يكون المنهج مرنًا، شاملًا، ومواكبًا للتطورات العلمية والتقنية واحتياجات سوق العمل.

 

بيئةُ التعلّم (المؤسسات التعليمية): تشمل المدارس، الجامعات، المعاهد، والمراكز التدريبية. يجب أن توفّر بيئةً آمنة، محفِّزة، ومجهَّزةً بالموارد التعليمية اللازمة (فصولٌ دراسية، مختبرات، مكتبات، تقنيات حديثة).

 

الإدارة والتخطيط: تشمل الوزارات والهيئات التعليمية المسؤولة عن وضع السياسات، التشريعات، الخطط الاستراتيجية، والإشراف على تنفيذها لضمان سير العملية التعليمية بكفاءة وفعالية.

 

أولياءُ الأمور والمجتمع: يلعبون دورًا حيويًا في دعم العملية التعليمية من خلال المشاركة في حياة أبنائهم التعليمية، والتفاعلِ مع المدارس، وتوفير بيئة منزلية داعمة للتعلم.

 

التقييم والتقويم: هي عملياتٌ مستمرة لقياس مدى تحقيق الأهداف التعليمية، وتقييم أداء الطلاب، المعلمين، والمؤسسات التعليمية، وتحديد نقاط القوة والضُّعف لغرض التحسين المستمر.

 

التمويل والموارد: توفير الموارد المالية والبشرية والمادية اللازمة لتشغيلِ المنظومة التعليمية وتطويرها.

 

التكنولوجيا التعليمية: دمجُ التقنياتِ الحديثة في العملية التعليمية لتعزيز أساليب التدريس، وتسهيل الوصول إلى المعرفة، وتوفير فرص تعلّم مبتكرة.

 

 

أهداف المنظومة التعليمية:

 

تهدِف المنظومةُ التعليمية إلى تحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، منها:

تنميةُ الأفراد: بناءُ شخصياتٍ متكاملة، قادرةٍ على التفكير النقدي، حلّ المشكلات، والإبداع.

 

إعدادُ الكفاءات: تزويدُ سوق العمل بالمهارات والكفاءات اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

 

تعزيزُ الهوية الثقافية: غرسُ القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية في نفوس المتعلمين، وتعزيزُ الانتماء الوطني.

 

تنميةُ البحثِ العلمي: تشجيعُ الابتكار والبحث العلمي والمساهمة في إنتاج المعرفة.

 

المواطنة الصالحة: إعدادُ أفرادٍ واعينَ بحقوقهم وواجباتهم، قادرين على المشاركة الفعّالة في المجتمع.

 

التعلّمُ مدى الحياة: غرسُ حبِّ التعلّم المستمر والرغبة في اكتساب المعرفة والمهارات طوال الحياة.

 

 

تحدّيات تواجه المنظومة التعليمية:

 

تواجه المنظوماتُ التعليمية حولَ العالمِ العديدَ من التحديات، أبرزُها:

 

الفجوةُ بين مخرجات التعليم وسوق العمل: عدمُ توافقِ مهاراتِ الخريجينَ معَ متطلباتِ سوق العمل المتغيرة.

 

التمويل غير الكافي: نقص الميزانيات المخصّصة للتعليم، ما يؤثّر على جودة البنية التحتية، وتدريب المعلمين، وتوفير الموارد.

 

جودةُ المعلمين: الحاجةُ إلى تطويرٍ مستمر لكفاءات المعلمين وتأهيلهم لمواجهة التحديات الحديثة.

 

عدمُ المساواةِ في الوصول إلى التعليم: تفاوتُ الفرصِ التعليمية بين المناطق الحضرية والريفية، وبين الفئات الاجتماعية المختلفة.

 

التقنيات الحديثة: تحدي مواكبةِ التطورات التكنولوجية المتسارعة ودمجِها بفاعلية في العملية التعليمية.

 

الكثافة الصفية: زيادة أعداد الطلاب في الفصول الدراسية، ما يؤثّر على جودة التعليم الفردي.

 

مقاومة التغيير: صعوبةُ تطبيق الإصلاحات والتطوير بسبب مقاومة بعض الأطراف المعنيّة، كما يحدث في محاولة تحديث المناهج.

 

الصراعات والكوارث: في بعض المناطق، تؤثر الصراعات والكوارث الطبيعية بشكل كبير على توفر التعليم واستمراريته، ما يُجبر الطلاب على التعلم عن بعد أو حتى التوقف الكامل عن الدراسة.

 

 

تطوير المنظومة التعليمية:

 

يتطلب تطويرُ المنظومةِ التعليمية نهجًا شموليًا ومستمرًا، يشمل:

 

تطويرَ المناهج: تحديث المناهج لتكونَ أكثرَ مرونة، وتراعي المهارات المستقبلية (القرن 21)، وتركّزُ على الفَهم والتطبيق، بدلاً من الحفظ.

 

تأهيل المعلمين وتدريبهم: الاستثمار في تدريب المعلمين على أحدث أساليب التدريس، استخدام التكنولوجيا، وإدارة الصفوف المتنوعة.

 

الاستفادة من التكنولوجيا: دمج التعليم الإلكتروني، المنصاتِ الرقمية، والذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية.

 

تعزيز الشراكة: بناءُ شراكاتٍ قوية بين المدرسة، الأسرة، المجتمع، وسوق العمل.

 

التركيز على المهارات: الانتقالُ من التعليم القائم على التلقين والحفظ، إلى التعليم القائم على تنمية المهاراتِ الحياتية، التفكير النقدي، والإبداع.

 

التقييمُ المستمر: تطويرُ آلياتِ تقييمٍ شاملة لقياس مدى تقدّم الطلاب والنظام التعليمي ككل.

 

توفيرُ بيئاتٍ تعليمية جاذبة: تحديثُ البنيةِ التحتية للمدارس وتجهيزها بالموارد اللازمة.

 

باختصار، المنظومةُ التعليمية هي قلبُ أي مجتمع يسعى للتقدم والازدهار، وتطويرُها المستمرّ يضمن بناء أجيالٍ قادرة على مواجهة تحدّيات المستقبل والمساهمة بفعّالية في التنمية الشاملة.

 

ولا يسعفني الوقت لأتوقّف على ما ورد في "وثيقة الأخوّة الإنسانية" عن دور القيم الإنسانية في تنشئة الأجيال على العيش المشترك، تاركًا الموضوع لعنايتكم، لما له من أهمية.

 

ويسرّني أن أنهي مداخلتي بالإشارة إلى "الميثاق العالمي للتعليم"، الذي هو التحالف الذي دعا إليه البابا الراحل فرنسيس حول التعليم. ودعا من خلاله إلى سبع التزامات:


1. وضعُ الإنسانِ في صميم كلّ برنامج تعليمي

 

2. الاستماعُ إلى أصوات الأطفال والشباب

 

3. تشجيعُ المشاركة الكاملة للفتيات والشابات في التعليم

 

4. ترسيخُ الأسْرة كمكان التعليم الأوّل والأساسي

 

5. تثقيفُ أنفسنا بشأن الانفتاح على الفئاتِ الأكثرَ ضعفًا وتهميشًا

 

6. إيجادُ طرقٍ جديدة لفَهم الاقتصاد والسياسة والنموّ والتقدم

 

7. حمايةُ بيتنا المشترك ورعايتُه

 

لكم من الله الرحمة والبركات، ومني أطيب السلام.