موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٦ مايو / أيار ٢٠٢٥
حين يُظلِمُ الأُفُق، نحيى بالرجاء: حج المراهقين من فلسطين إلى المدينة الخالدة

بقلم الأب فراس عبدربه :

 

ما بين 24 و31 نيسان 2025، نظمت الأمانة العامة للشبيبة المسيحية في فلسطين (شبيبة موطن يسوع) حجًا بمناسبة يوبيل الرجاء، إلى مدينة روما، لفئة المراهقين. وقد شعرتُ لدى عودتنا بأهمية ترك أثرٍ مدوّن لهذا الحج الفريد. فقد أحب البابا فرنسيس، رحمه الله، أن يدعو الله بإله المفاجآت: "الرّبّ يسوع يحبّ أن يفعل هذا - الرّبّ يسوع هو إله المفاجئات والعجائب بالمفاجآت"، كما قال يومًا.

 

لقد كان هذا الحج، منذ بدايته وحتى نهايته، سلسلة من المفاجآت: تعقيدات إدارية، موت قداسة البابا غير المتوقع، وعلى أثره تأجيل إعلان قداسة الشاب كارلو أكوتيس، وقد كانت المشاركة في هذا الحدث بالذات، هي الأساس لتنظيم هذا الحج للمراهقين! وهناك، في روما، مفاجآت كثيرة ولقاءات غير متوقعة جعلت صوتنا كمسيحيين فلسطينين، يصل إلى أبعد بكثير من التوقعات! قد أفكر يوماً برواية هذه الحوادث بالتفصيل، إذا ما حان الوقت.

 

وإلى جانب هذه "المفاجآت العامة"، أنا متأكد بل وأعلم بأن مفاجآت أخرى حدثت على مستوى الحياة الشخصية لكل فرد، في عمق قلبه، في الحجرة الداخلية حيث يلتقي الإنسان مع ذاته ومع الله تعالى.

 

إلى جانب الأب لويس سلمان، المرشد الروحي للأمانة العامة في فلسطين، شارك في تنظيم هذا الحج، السيد أندريه حداد، من الناصرة، مدينة العائلة المقدسة، بالتنسيق مع محسنين أسخياء في ايطاليا، وخاصة الأب اليسوعي ماسّيمو. طلبنا منه، ومن سائر الشباب والشابات، مشاركتنا في أمر ما يتعلق بهذه الرحلة، لمس قلبهم. وقد أجاب أندريه، قائلاً: "عندما بدأنا التخطيط للرحلة، قلنا ببساطة: إذا كانت هذه مشيئة الرب، فإن كل شيء سيتم وفقاً لتدبيره. أما نحن فعلينا أن نعمل ما علينا بصفاء نيّة، ولمجد الله. فقد قال يسوع: ‘اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تُزاد لكم’ (متى 6:33). أما أنا فقد اختبرت شخصيًا هذه النعمة، سواء خلال فترة التحضير أو خلال السفر نفسه. وقد باركنا الرب بركة لم نكن نتوقعها، وأتم هو لنا البرنامج على أكمل وجه. وهكذا فإنني أشهد من كل قلبي بأن: من يعمل لمجد الله ولخلاص النفوس، فإن الله سيغمره بفيض نِعَمِهِ، وسيعطيه كل ما يحتاج إليه".

  

حين يُظلِمُ الأفق، نحيى بالرجاء

 

في هذه الحقبة من تاريخ شعبنا وكنيستنا في الأرض المقدسة، يسود شعور عام بأن آمال سنوات في تحقيق السلام العادل والمستدام، والتمتع بعيشة كريمة على تراب أرضنا، قد أضحت سراباً. وأن مستقبل وجودنا وتحقيق أحلامنا في الأرض التي فيها بدأ كل شيء، قد أخذَ ينهار كقصر مصنوع من الورق! إنه سلطان الظلام، الذي يبث في الجميع مشاعر من الرعب والكراهية واليأس والإحباط العميقين. إنها الحقبة التي جائت تأكد لنا ما كنا نخشاه دوماً: أن لا أحد يكترث في النهاية بنا، سوى قلّة قليلة، ليس بيدها للأسف حيلة... من ناحية بشرية.

 

ولكن، إله الأحياء، القادر على أن يخرج من الموت حياة جديدة، إله المفاجآت، قد أتاح لنا أن نرى أملاً جديداً يُبرعم، بقوة الإيمان والرجاء! ومن حيث لا ندري، منحنا الله، وباستمرار، علامات كثيرة على حضوره لكي يعود ويقول لنا من جديد: "لا تخافوا، إني قد غلبت العالم". إن أمانة الله هذه، هي التي تجعلنا "نرجوا على غير رجاء"، رغم تقلبات الأشخاص والظروف.

 

ما هي هذه العلامات؟ هي كثيرة، وأهمها تعاطف معظم الشعوب مع الشعب الفلسطيني! فالإنسانية لا تزال بخير، وليس كل البشر ذئاب لإخوتهم البشر. إنها الأخوة الشاملة التي دافع عنها البابا فرنسيس. سرنا في شوارع روما، حاملين بكل فخر صليبنا وكذلك علم أمتنا الجريحة، إيماننا وكذلك مأساتنا، فرحنا ولكن أيضاً حزننا، ورجائنا رغم مخاوفنا. وقد رأت الجموع القادمة إلى روما هذا، فحيّتنا! صرخت معنا إلى الله طالبة من أجلنا وأجلهم العدل والسلام، وبكت معنا على عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الأبرياء الذين سقطوا قتلى في غزة والضفة الغربية بسبب الكراهية التي لا تفسير لها سوى سلطان الشرّ في أنقى صوره! أخذنا من هذا التعاطف قوة جديدة، عدنا بها لننقلها إلى شعبنا الصامد رغم الحياة اليومية المستحيلة تحت الاحتلال والظلم والدمار الشامل والتهديد الوجودي الذي يلوح في الأفق، بينما العالم (رؤساء هذا العالم) ينظرون، ويبرّرون ثم يديرون وجوههم كي لا يفعلوا ما هم يعلمون أن عليهم فعله.

 

عن هذا الرجاء، عبر الشاب المراهق لويس، من بيت لحم، مدينة الميلاد، قائلاً: "حقاً لقد كانت الرحلة إلى روما والفاتيكان نعمة كبيرة في حياتي. شعرت خلالها بوجود الله في قلبي أكثر من أي وقت مضى، ومن خلال زيارة الكنائس الكثيرة، والصلاة، والقداديس، وكلام الكهنة، تغيّر فينا شي من الداخل. شعرت بأن الربّ بعث لي برسالة حب وتأكيد على أنه معنا دائماً، وأنه يعمل بطرق ما كنّا لنتوقعها. تعلّمنا الكثير، ليس فقط من الناحية الدينية، ولكن أيضاً من الناحية التاريخية والثقافية. اندمجنا مع الشبيبة الإيطالية، وتكلمنا عن السلام، عن فلسطين، عن القضيّة، عن المحبّة، وشعرت بأن صوتنا قد وصل (...) شعرت أنني في عائلتي الثانية".

المراهقة كمساحة للقداسة: من هو مثلُكَ الأعلى؟

 

لا شك بأن اللقاء مع "مثال حي للقداسة" يفوق في بلاغته كل العظات والتعاليم الممكنة حول الدعوة إلى القداسة. فالإنسان المعاصر يصغي إلى الشهود أكثر من إصغاءه للمعلمين، على حد تعبير البابا بولس السادس.

 

ما قدمته الكنيسة هذا العام للمسيحيين في سن المراهقة، هو وبكل بساطة، مثال حي على القداسة التي تحاكي واقعهم اليوم. طفل من جيلهم، عاش في عصرهم، عصر ما بعد الحداثة، ولعب بألعابهم، وتعرض لمغريات الحياة نفسها، لكنه نجح في الوصول إلى هدف حياته المسيحية. وهو يقول لهم: "أترون، الأمر ليس مستحيلاً!". القداسة ليست من الماضي، القداسة ليست "أوتوبية"... القداسة تناسب كل عصر وكل فئة عمرية.

 

من ناحيته، أضاف الشاب رام، من قرية الزبابدة، قائلاً: "عندما شاهدت الطوباوي كارلو أكوتيس، وهو وَلَدٌ من نفس عمري، أعلنته الكنيسة قديساً، أدركتُ أنني أنا أيضاً أستطيع أن أصبح قديساً مثله. كذلك شعرت بالمحبة الأبوية والأخوية من المسؤولين".

 

أمَا عيسى، من بيت ساحور، مدينة الرعاة، فقد أردف قائلاً: " أن نرى كارلو القديس، الذي مات كولد في جيلنا، قد غير تفكيرنا، وعندما تعمقنا فيه، حين رأينا جسده غير المتحلل حتى اليوم، صار نظرنا موجهاً نحو القداسة".

 

أما ألبير، من قرية برقين، فقد أضاف قائلاً: "تعرفنا على قديسين كُثُر، من بينهم كارلو اكوتس، جعلني هذا الشاب أشعر أن الله قد منحني قوة كي أتغيّر وكي أتقرّب منه اكثر (...) شعرت أيضاً أنني جزء من عائلة واحدة، نمزح فيها ونمرح معاً بألفةٍ كبيرة، رغم قصر المدّة".

من منظور ضيق للكنيسة إلى نظرة شمولية: لستم وحدكم!

 

في الأرض المقدسة، المسيحيون هم من سكان البلاد الأصليين، لكنهم، لأسباب كثيرة من بينها الأسباب الإقتصادية والسياسية، قد تقلّصوا إلى نسبة لا تتجاوز الواحد بالمائة من التعداد الكلي للسكان. ولكن، إلى جانب حضور مؤسسات الكنيسة، فإن حضور المسيحيين في المجتمع المحلي حضور يصنع الفرق حيثما كانوا. أما التجربة الرئيسية التي يتعرضون لها اليوم فهي الشعور بأنهم أقلية ضعيفة، وأن الحل يكمن في الهجرة.

 

لذلك، فإن مثل هذه اللقاءات مع مؤمنين آخرين على مستوى الكنيسة الجامعة، وكذلك مع حجاج الأرض المقدسة الذين نتمنى أن يعودوا ليملؤوا الأماكن المقدسة ويقدمو دعمهم المعنوي والمادي لإخوتهم الذين يعيشون حول أقدس الأماكن المسيحية؛ هذه اللقاءات تذكر مسيحيي فلسطين أنهم ليسو متروكين، وليسو أقلية ضعيفة، بل جزء من شعب الله، يعيش هنا ويحمل رسالة هنا تتميّز عن رسالة كافة مسيحيي العالم، وهي رسالة محوريّة من أجل كافة مسيحيي العالم، ومن أجل كافة شعوب المنطقة.

 

روت لنا سييل، التي تعيش في المدينة المقدسة مع والدها أندريه، خبرتها قائلة: "بينما كنت واقفة في ساحة الفاتيكان، وسط الآلاف من الشبان والشابات، شعرت بأن الربّ يقول لي: أنتِ لستِ وحدك! كنيستي كبيرة ولها قلب قادر على احتضان الجميع (...) لقد هيأ لنا الرب مكاناً نرتاح فيه ونعيش فيه اُخوّة حقيقية".

سر الموت: بداية حياة أبدية

 

الموت هو واقع شبه يومي في فلسطين. فكلفة الشخص البشري هنا تبدو متدنية! وكأن هناك "تدرّجاً" في قيمة الشخص البشري، تحدده الجنسية أو الإنتماء الديني أو العرقي. ومع ذلك، يبقى الموت سرّاً رهيباً. يبقى الموت أشد عدو للبشر قسوة. وحتى وهم خارج فلسطين، أدرك هؤلاء المراهقون بأن من الموت لا يوجد مفرّ. فإضافة إلى وفاة قداسة البابا فرنسيس، فقدت احدى الفتيات المشاركات معنى جدّتها أثناء تواجدها في ايطاليا.

 

وفي هذه الخبرة، شاركتنا هالة، من بيرزيت، لاحقاً قائلة: "حدثت في عائلتي حالة وفاة خلال الرحلة، لكني شعرت أن الله أرادني أن أكون هناك في هذا الوقت نفسه كي أصلي لمن فقدت، وقد فعلت ذلك في كل كنيسة دخلتها كي يكون لها مكان مع يسوع، ومن خلال أشخاص تحدثوا إلي في حزني، شعرت أن الله  قد سلمني رسالة".

 

 

الرجاء لا يخيب: فرح متجدد وأفق فصحي جديد!

 

لقد كان هذا الحج في الحقيقة "حج رجاء"! حج قيامة لحياة جديدة وأفق جديد ناله هؤلاء الشباب والشابات، وقد عادوا به من جديد إلى بلدهم وأرضهم وعائلاتهم ومدارسهم ورعاياهم وأصدقائهم، كمن يحمل النور إلى مكان مظلم، ورسالتهم الآن هي ولا شك وصية يسوع: "أنتم نور العالم"!