موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لمناسبة يوبيل الحكام، استقبل البابا لاون الرابع عشر، السبت 21 حزيران، عددًا كبيرًا من البرلمانيين وممثلي السلطات، ومن بينهم رئيسة وزراء إيطاليا ورئيس مجلس النواب الإيطالي ورئيسة والأمين العام للاتحاد البرلماني الدولي، إلى جانب عدد من ممثلي المؤسسات الأكاديمية والقادة الدينيين.
وخلال ترحيبه بالجميع أعرب عن سعادته للتمكن من إجراء هذا اللقاء خلال الاحتفال بيوبيل الحكام ولمناسبة مؤتمر للاتحاد البرلماني الدولي يُعقد في روما حول الحوار بين الأديان. ثم تطرّق إلى تعريف البابا بيوس الحادي عشر السياسة بأسمى أشكال المحبة، وقال إن نظرنا إلى ما تقدمه الحياة السياسيّة من خدمة للمجتمع وللخير العام فبالإمكان اعتبارها فعل محبة مسيحية والتي ليست أبدًا نظرية بل هي دائمًا علامة وشهادة ملموسة لاهتمام الله الدائم بخير العائلة البشريّة، حسبما كتب البابا فرنسيس في الرسالة العامة Fratelli Tutti.
ولفت إلى أنّه يريد من هذا المنطلق أن يتقاسم مع ضيوفه ثلاثة أفكار يعتبرها هامة في السياق الثقافي الحالي. وتحّدث أولاً عن مسؤوليّة السياسيين والحكام عن تعزيز خير الجماعة، الخير العام، وحمايته بعيدًا عن أية مصالح وذلك بشكل خاص من خلال الدفاع عن الضعفاء والمهمشين. وهذا يعني على سبيل المثال العمل من أجل تجاوز التفاوت غير المقبول بين الثراء الكبير المتمركز في أيادي قلة من جهة وفقراء العالم من جهة أخرى، حسبما ذكر البابا لاوُن الثالث عشر في الرسالة العامةRerum Novarum .
وأضاف الحبر الأعظم أن من يعيشون في أوضاع صعبة يصرخون كي تُسمَع أصواتهم لكنهم غالبًا ما لا يجدون آذانا صاغية، وأكد أن هذا الخلل يخلق ظلما مستمرا يقود إلى العنف ثم إلى مأساة الحرب أيضا عاجلاً أو آجلاً، بينما يمكن في المقابل لسياسات تعزز التوزيع المتساوي للموارد أن تقدم خدمة حقيقية للتناغم والسلام على الصعيدين المحلي والدولي.
أما النقطة الثانية فكانت الحريّة الدينيّة والحوار بين الأديان، وهي قضية تزداد أهميتها في الفترة الأخيرة.
وقال: إنّ الحياة السياسية يمكنها أن تحقق الكثير من خلال توفير الظروف من أجل حرية دينية حقيقية ولقاء بَناء يطبعه الاحترام بين الجماعات الدينية المختلفة. وشدد قداسته على أن الإيمان بالله، وما ينبثق عن هذا من قيم إيجابية، يشكل موردًا كبيرًا للخير والحق في حياة الأشخاص والجماعات. وذكّر هنا بحديث القديس أغسطينوس عن ضرورة الانتقال من محبة ذاتية أنانية وقصيرة النظر إلى محبة إلهية، أي محبة حرة وسخية أساسها الله تقود إلى هبة الذات. وهذا الانتقال حسبما يرى القديس أغسطينوس لا غنى عنه من أجل بناء مجتمعٍ المحبة هي قانونه الأساسي.
وتابع أنه وكي تكون هناك مرجعية في النشاط السياسي ولعدم استبعاد المتسامي في عمليات اتخاذ القرارات، سيكون مفيدا البحث عن عنصر يوحد الجميع. وأضاف أن مرجعية أساسية هي القانون الطبيعي الذي لم تكتبه أيادي البشر بل يُعتبر صالحا في كل الأزمنة والأماكن. وذكَّر البابا بما كتب شيشرون في كتابه "الجمهورية" حول القانون الطبيعي الذي يدعونا إلى عمل ما هو صحيح والذي يبعدنا بمحظوراته عن الشر. وهذا القانون الطبيعي الذي يشمل الجميع ويسمو على المعتقدات القابلة للنقاش يشكل بوصلة لتوجيهنا في التشريع وفي الأفعال، وخاصة فيما يتعلق بالمواضيع الأخلاقية الحساسة والملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى المرتبطة بالحياة الشخصية. وذكّر قداسته بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948 والذي يمكنه أن يساهم بشكل كبير في وضع الإنسان، بكرامته التي لا يمكن المساس بها، في أساس التطلع إلى الحقيقة ولإعادة الكرامة إلى مَن لا يشعرون بأنهم يلقون احتراما لصميم أعماقهم وما تمليه عليهم ضمائرهم.
وفي النقطة الثالثة، تحدّث عن تحدٍ كبير يواجهه مستوى ما بلغنا من تحضر والأهداف التي على الساسة والحكام بلوغها، التحدي المتمثل في الذكاء الاصطناعي. وقال إنّ هذا التطور سيكون بالتأكيد مفيدًا بشكل كبير للمجتمع ولكن شرط ألا يهدّد استخدامه هوية وكرامة الشخص البشري وحرياته الأساسية. وشدّد على ضرورة عدم نسيان أن الذكاء الاصطناعي هو أداة لصالح خير الكائنات البشرية لا للحط من الإنسان أو حل محله. بالتالي، تحدّث عن تحدٍ كبير يستدعي منا انتباهًا كبيرًا وبُعد نظر، وذلك كي نبلغ في المشاهد الجديدة أيضًا أساليب حياة سليمة وعادلة وقويمة، وخاصة من أجل خير الأجيال الشابة.
وفي هذا السياق، شدّد على أن حياة الأشخاص لها قيمة أعظم من أية خوارزميات، وأضاف أن العلاقات الاجتماعية تتطلب فسحة للتطوير تسمو بكثير على أية نماذج محدودة يمكن لآلة بلا روح أن تُعدها مسبقًا. كما علينا ألا ننسى أن الذكاء الاصطناعي وإن كان قادرًا على تخزين ملايين من البيانات والإجابة على أسئلة كثيرة خلال ثوان، فهو يظل مزوَّدا بذاكرة جامدة لا يمكن بأي شكل مقارنتها بذاكرة الإنسان التي هي مبدِعة وديناميكية ومولِّدة، قادرة على الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في بحث حي ومثمر عن المعنى بكل ما يتضمن هذا من تبعات أخلاقية ووجوديّة.
ثم أكد على أنه لا يمكن للسياسة أن تتجاهل مثل هذا التحدي.
وفي ختام كلمته، ذكّر بحديث البابا يوحنا بولس الثاني عن القديس توماس مور كشاهد للقادة السياسيين. فقد كان هذا القديس أمينًا لمسؤلياته المدنية وخادمًا جيّدًا للدولة بفضل إيمانه تحديدًا والذي قاده إلى النظر إلى السياسة لا كمهنة بل كرسالة من أجل نشر الحقيقة والخير.
وأوضح بأنّ القديس توماس مور قد وضع نشاطه العام في خدمة الأشخاص وخاصة الضعفاء والفقراء، مشيرًا إلى أنّ الشجاعة التي أبداها القديس باستعداده للتضحية بحياته بدلاً من خيانة الحقيقة قد جعلته لنا نحن أيضًا اليوم، شهيدًا للحرية ولسيادة الضمير.
وختم بالقول: فليكن مَثله مصدر إلهام وقيادة لكلٍّ منكم.