موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٥ يونيو / حزيران ٢٠٢٥
البابا لاون للإكليريكيين: أنتم مدعوّون لكي تحبّوا بقلب المسيح!

فاتيكان نيوز :

 

في قلب بازيليك القديس بطرس، وفي أجواء روحية مهيبة، وجّه البابا لاون الرابع عشر كلمة مؤثرة للإكليريكيين الذين يشاركون في يوبيلهم في إطار احتفالات يوبيل الرجاء، مستحضرًا دفء الدعوة الكهنوتية في زمن محفوف بالتحديات، ومؤكداً أنّ قلب المسيح هو المرجع والمحور لمسيرة التنشئة الكهنوتيّة.

 

 

وفيما يلي نص الكلمة:

 

 

أشكركم لأنكم تغذُّون شعلة الرجاء في حياة الكنيسة! أنتم اليوم لستم حجّاجًا فقط، بل شهود رجاء أيضًا: فأنتم تشهدون بذلك لي وللجميع، لأنكم التزمتم في مغامرة الدعوة الكهنوتية الآسرة في زمن ليس سهلاً. لقد قبلتم الدعوة لكي تصبحوا مُبَشِّرين ودعاء وأقوياء بالكلمة التي تخلّص، وخدامًا لكنيسة منفتحة، تخرج وتنطلق برسالة. أنتم تقولون "نعم" للمسيح الذي يدعوكم، بتواضع وشجاعة؛ وهذه الـ"هأنذا" التي توجهونها إليه، تنبت في حياة الكنيسة وتتغذى من المسيرة الضرورية للتمييز والتنشئة.

 

يدعوكم يسوع أولاً لكي تعيشوا خبرة صداقة معه ومع رفاق الدرب؛ وهي خبرة كُتب لها أن تنمو بشكل دائم حتى بعد السيامة، وتشمل جميع جوانب الحياة. في الواقع، لا يوجد شيء فيكم يجب أن يُستبعَد، بل يجب أن يُقبل ويُتَحوَّل في منطق حبة الحنطة، لكي تصبحوا أشخاصًا وكهنة سعداء، "جسورًا" لا عوائق أمام اللقاء مع المسيح لجميع الذين يقتربون منكم. نعم، ينبغي له أن ينمو، ولنا أن ننقص، لكي نكون رعاة بحسب قلبه.

 

وفيما يخص قلب يسوع المسيح، كيف لا نتذكّر الرسالة العامة “Dilexit nos” التي منحنا إياها البابا فرنسيس الحبيب؟ في هذا الزمن الذي تعيشونه –زمن التنشئة والتمييز– من المهم أن نوجّه الانتباه إلى المحور، إلى "محرّك" مسيرتكم كلها: القلب! إن الإكليريكية، أيًا كانت صيغتها، ينبغي أن تكون مدرسة للعواطف والمشاعر. واليوم، بشكل خاص، في سياق اجتماعي وثقافي مطبوع بالصراع والنرجسية، نحن بحاجة إلى أن نتعلم أن نحب، وأن نحب على مثال يسوع. كما أحبّ المسيح بقلبٍ بشري، أنتم مدعوّون لكي تحبّوا بقلب المسيح! ولكن لكي نتعلَّم هذا الفنّ، علينا أن نعمل على أعماق ذواتنا، حيث يجعلنا الله نسمع صوته، ومن حيث تنطلق القرارات الأعمق؛ ولكنّه أيضًا مكان التوترات والصراعات، الذي يجب أن يتحوّل، لكي تفوح إنسانيتكم كلها بشذا الإنجيل. وبالتالي، فالعمل الأول يجب أن يكون في الداخل.

 

تذكّروا جيدًا دعوة القديس أوغسطينوس إلى العودة إلى القلب، لأننا هناك نجد آثار الله. إنّ النزول إلى أعماق القلب يمكنه أن يثير فينا الخوف أحيانًا، لأننا نجد فيه جراحًا أيضًا. لا تخافوا من أن تعتنوا بها، اسمحوا للآخرين بأن يساعدوكم، لأنه من تلك الجراح بالتحديد ستولد القدرة على مرافقة المتألمين. فبدون حياة داخلية، لا توجد حتى حياة روحية، لأن الله يُخاطبنا هناك، في القلب.

ويندرج ضمن هذا العمل الداخلي أيضًا التمرين على التمييز بين حركات القلب: ليس فقط العواطف السريعة والفورية التي تميّز روح الشباب، وإنما وبشكل خاص مشاعركم العميقة، التي تساعدكم على اكتشاف وجهة حياتكم. إذا تعلمتم أن تعرفوا قلوبكم، ستصبحون أكثر صدقًا، ولن تحتاجوا إلى ارتداء الأقنعة. والدرب المميّز الذي يقود إلى الداخل هو الصلاة: ففي زمن نشهد فيه ترابطًا مفرطًا، يصبح من الصعب أن نعيش خبرة الصمت والعزلة. ولكن بدون اللقاء مع الله، لن نستطيع أن نعرف أنفسنا حقًا.

 

لذلك أدعوكم لكي تطلبوا الروح القدس باستمرار، لكي يشكّل فيكم قلبًا مطيعًا، قادرًا على إدراك حضور الله، حتى من خلال أصوات الطبيعة والفنّ، والشعر والأدب والموسيقى، وكذلك من خلال العلوم الإنسانية. وفي التزامكم الجاد بالدراسة اللاهوتية، احرصوا أيضًا على الإصغاء بعقل وقلب منفتحين إلى أصوات الثقافة، مثل التحديات المعاصرة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي. وبشكل خاص، كما كان يفعل يسوع، تعلموا أن تُصغوا إلى صرخة الصغار، والفقراء، والمظلومين، التي غالبًا ما تكون صامتة، وإلى صرخات الكثيرين، ولاسيما الشباب، الذين يبحثون عن معنى لحياتهم.

 

إذا اعتنيتم بقلوبكم، من خلال لحظات يومية من الصمت، والتأمل، والصلاة، ستتعلّمون فن التمييز. وهذا أيضًا عمل مهم: تعلّم التمييز. في سن الشباب، نحمل في داخلنا الكثير من الرغبات، والأحلام، والطموحات. وغالبًا ما يكون القلب مزدحمًا، وقد نشعر بالحيرة. لكن، على مثال مريم العذراء، يجب أن تصبح حياتنا الداخلية قادرة على أن تحفظ وتتأمل. قادرة على synballein – كما كتب الإنجيلي لوقا (٢، ١٩. ٥١): أن تجمع الأجزاء المتناثرة. احذروا السطحية، واجمعوا شتات حياتكم في الصلاة والتأمل، واسألوا أنفسكم: ماذا يعلّمني ما أعيشه؟ ما الذي يقوله حول مسيرتي؟ إلى أين يقودني الرب؟

أيها الأعزاء، ليكن لكم قلب وديع ومتواضع مثل قلب يسوع. وعلى مثال الرسول بولس تبنّوا مشاعر المسيح، لكي تتقدّموا في النضج الإنساني، ولا سيّما على الصعيد العاطفي والعلائقي. من المهم منذ زمن الإكليريكية، أن تُركّزوا جيّدًا على النضوج الإنساني، وترفضوا جميع أشكال المظاهر والنفاق. وإذ تحدقون النظر إلى يسوع، عليكم أن تتعلّموا أن تعطوا اسمًا وصوتًا للحزن، والخوف، والقلق، والغضب، وأن تضعوا كل ذلك في العلاقة مع الله. فالأزمات، والقيود، والضعف، ليست أمورًا يجب إخفاؤها، بل هي مناسبات نعمة وخبرة فصحية.

 

في عالم يسوده غالبًا الجحود والعطش إلى السلطة، وحيث يبدو أحيانًا أن منطق الإقصاء هو الغالب، أنتم مدعوّون لكي تشهدوا لامتنان المسيح ومجانيّته، لفرحه وابتهاجه، ولحنان قلبه ورحمته. وكذلك لكي تمارسوا أسلوب الاستقبال والقرب، والخدمة السخيّة غير المشروطة، فتسمحوا للروح القدس أن "يمسح" إنسانيتكم حتى قبل السيامة.

إنّ قلب المسيح ينبض بشفقة واسعة: هو السامريّ الصالح للبشرية، ويقول لنا: "اذهب فاعمل أنت أيضا مثل ذلك". وهذه الشفقة تدفعه لكي يكسر للجموع خبز الكلمة والمشاركة، في إشارة إلى فعل العشاء الأخير والصليب، حين قدّم ذاته طعامًا لنا، ويقول لنا: "أعطوهم أنتم ليأكلوا"، أي اجعلوا من حياتكم عطية محبّة.

 

أيها الإكليريكيون الأحبّاء، إن حكمة أمّنا الكنيسة، بمساعدة الروح القدس، تسعى على مرّ الزمن إلى إيجاد أفضل الأساليب لتنشئة الكهنة، بحسب احتياجات الأماكن المختلفة. وفي هذا الجهد، ما هو دوركم؟ دوركم هو ألا ترضوا بالحلول الوسطى، وألا تكتفوا بالقليل، وألا تكونوا مجرّد متلقّين سلبيين، بل أن تكونوا شغوفين بالحياة الكهنوتية، وأن تعيشوا الحاضر وتنظروا إلى المستقبل بقلب نبويّ. آمل أن يُساعد هذا اللقاء كلّ واحد منكم على تعميق الحوار الشخصي مع الرب، والذي فيه تطلبون منه أن تتشبّهوا أكثر فأكثر بمشاعر قلبه. ذلك القلب الذي ينبض بالمحبة لكم وللبشرية كلها. مسيرة مباركة! أرافقكم ببركتي.

أيها الإكليريكيون الأحبّاء، يسرّني أن أكون معكم هذا الصباح بمناسبة يوبيلكم، برفقة الكهنة الذين يرافقونكم في مسيرة التنشئة التي تقومون بها. أنتم آتون من كنائس مختلفة حول العالم ولديكم خبرات حياة متنوّعة، ولكننا في الربّ نشكّل جميعًا جسدًا واحدًا. في الواقع، هناك رجاء واحد دُعيتم إليه، هو رجاء دعوتكم. واليوم، على قبر الرسول بطرس، وبرفقتي أنا خليفته، تجدّدون بإجلال إيمان معموديّتكم. إنّ هذا الإيمان هو الجذر الذي تنبت منه الـ "هأنذا" التي ستقولونها بفرح في يوم سيامتكم الكهنوتيّة. فليُتمِّم الله عمله هذا الذي بدأه فيكم.

 

لنصلِّ: أيّها الآب، يا من في هذه السنة اليوبيلية تفتح لكنيستك درب الخلاص، تقبّل مقاصدنا الصالحة، واستجب رغبتنا في أن نحوّل حياتنا إليك، لكي نصبح شهودًا حقيقيّين للإنجيل. قُد خطواتنا بنعمة الروح القدس، نحو الرجاء السعيد بلقاء وجهك في أورشليم السماوية، حيث سيبلغ ملكوتك ملأه وكماله، وكلّ شيء سيتحقق في المسيح ابنك. الذي يحيا ويملك معك ومع الروح القدس إلى دهر الدهرين. آمين.