موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
سياق مقطع الإنجيل الذي نتأمّل فيه اليوم (لوقا 10: 1-12، 17-20) يتعلّق بمسيرة يسوع نحو أورشليم. ففي بعض الآيات التي تسبق هذا النص، يُخبرنا الإنجيلي لوقا أن يسوع اتخذ قرارًا حاسمًا بالتوجّه إلى أورشليم (لوقا 9: 51)، وأوفد على الفور بعض تلاميذه أمامه ليُمهّدوا الطريق لمروره من قرية إلى أخرى (لوقا 9: 52). وكان قد ذكر سابقًا، في الفصل نفسه، أول إرسال للاثني عشر (لوقا 9: 1-6)، ما يُشير إلى أن هذا الحدث يحتل مكانة بارزة في فكر لوقا اللاهوتي.
ونبدأ تأمّلنا من الآية الأولى من الفصل العاشر، حيث نقرأ: "وبَعدَ ذٰلِكَ، أَقامَ الرَّبُّ ٱثنَينِ وسبعينَ تِلميذًا آخَرين، وأَرسَلَهمُ ٱثنَينِ ٱثنَينِ يَتَقَدَّمونَه إِلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه" (لوقا 10: 1).
في هذا النص، يوضح يسوع بشكل جلي أن تلاميذه مدعوون للانطلاق أمامه، ليُعلنوا اقتراب مجيئه (إِلى كُلِّ مَدينَةٍ أَو مَكانٍ أَوشَكَ هو أَن يَذهَبَ إِلَيه). وبالتالي، فإن الغاية الوحيدة من إرسال الاثنين والسبعين هي التبشير بقرب مجيء الرب. هذه هي جوهر الرسالة، والبشرى السارة التي يُراد أن تبلغ الجميع: أن الربّ آتٍ، وأن مجيئه وشيك.
هذا هو جوهر الرسالة في مقطع اليوم. فمهمة الكنيسة ضرورية، لا لأنها تُنتج شيئًا، أو لأنها تملك ما تقدّمه، أو لأنها قادرة على حلّ المشاكل البشرية. بل لأنها مدعوّة للذهاب إلى كل مكان لتبشر أن الربّ آتٍ. ويجب أن يتم هذا التبشير بأسلوب فريد وخاص، لأن الكنيسة، فقط من خلال هذا الأسلوب، تستطيع أن تكون علامة حيّة، وعربونًا لما هو آتٍ. فليست الأفعال بحد ذاتها هي الأهم، بل الرسالة التي تحملها: مجيء المسيح إلى العالم، وحضوره الفعلي فيه. ما يشدّد عليه يسوع في تعليمه هو الطريقة التي تُعلَن بها. وهذا ما يتوقّف عنده يسوع في حديثه مع التلاميذ.
من هذا الأسلوب، نستخلص بعض السمات:
أول سمة من سمات هذا الأسلوب في التبشير هي الوداعة: فالتلاميذ يُرسَلون كحملان وسط الذئاب "اِذْهَبوا! فهاءَنَذا أُرسِلُكم كَالحُملانِ بَينَ الذِّئاب" (لوقا 10: 3). إنهم أحرارًا من وهم أن الشرّ يُغلب بالسيطرة والهيمنة.
كما أنهم محرّرون من كل شكل من أشكال السلطة والفرض، حتى عندما يتعلّق الأمر بسلامهم: "وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فقولوا أَوَّلًا: السَّلامُ على هٰذا البَيت" (لوقا 10: 5). فسلامهم يُمنَح للجميع، دون شروط. وإن لم يُستقبل، لا يدينون، لا يتّهمون، ولا يقابلون الرفض بالعداوة، بل يحتفظون بسلامهم في قلوبهم: "فإِن كانَ فيهِ ٱبنُ سَلام، فسَلامُكُم يَحِلُّ بِه، وإِلَّا عادَ إِلَيكُم" (لوقا 10: 6). وهكذا لا يضيع السلام، ليقدّموه مجددًا في البيت التالي.
ثم يُرسَل التلاميذ اثنين اثنين "وأَرسَلَهمُ ٱثنَينِ ٱثنَينِ" (لوقا 10: 1). فالمهمة ليست عملاً فرديًا، بل هي دائمًا فعل جماعي أخوي. لأن الخلاص الذي يريد الربّ أن يقدّمه للعالم، يبدأ بتحرير الإنسان من أنانيته وانغلاقه على ذاته. ينطلق الإنسان مع أخيه، لأن طريق الخلاص يمرّ بالعلاقات وباللقاء وبالصداقة. ففي الأخوّة يتعلم الإنسان ألا يعيش انطلاقًا من ذاته بعد الآن.
وأخيرًا، تتّسم مهمة التلاميذ بفرح عميق "ورَجَعَ التَّلامِذَةُ الِاثنانِ والسَّبعونَ وقالوا فَرِحين" (لوقا 10: 17). إنه فرح فريد من نوعه، لأنه لا يستند إلى نتائج المهمة، بل ينبع من معاينتهم لانتصار الخير على الشرّ بأعينهم: "يا ربّ، حتَّى الشَّياطينُ تَخضَعُ لَنا بِٱسمِكَ" (لوقا 10: 17).
يُقِرّ يسوع بهذا "النجاح" الذي حقّقه تلاميذه في مهمّتهم، لكنه لا يتوقّف عنده، بل يدعوهم للذهاب أبعد من ذلك. فهو لا يريد أن يرتكز فرحهم على ما أنجزوه، ولا على مقدار الخير الذي فعلوه، لأنهم إن فعلوا ذلك، سيتملّكون ما ليس لهم، أي العمل الذي أنجزه الروح من خلالهم: "تَخضَعُ لَنا بِٱسمِكَ".
يذكّرهم يسوع بأن فرحهم الحقيقي يجب أن ينطلق من شيء أعمق بكثير: من عطية حبّ اختبروه شخصيًا، لأن لكل منهم اسم فريد: "ٱفرَحوا بِأَنَّ أَسماءَكُم مَكْتوبَةٌ في السَّمٰوات" (لوقا 10: 20). إنه حبّ لا يزول، كما لا يزول ما كُتب في السماء، لدى الله. حبّ راسخ، أمين وأبدي، كما أن الآب الذي في السماوات أمين وثابت إلى الأبد. وعليه، يجب أن تتحوّل رسالة التلاميذ إلى شهادة حيّة، إلى فرح مختلف.
فإن التلاميذ ليسوا أبطال هذه الرسالة. فالبطل الحقيقي هو النعمة، محبة الله المجانية والخالصة، التي تُمنح دون استحقاق. وعلى الكنيسة إذًا، أن تركّز على أمر جوهري واحد: إعلان حضور يسوع ومجيئه. ويجب أن تقوم بذلك بروح منفتحة ومتحرّرة من كل قيد أو معيار بشري، حتى يتمكّن كل إنسان، في كل زمان، من استقبال الربّ بحرّية.