موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
عيد الثالوث الأقدس (ج)
مُقدّمة
دائما ما نبدأ صلاتنا كمؤمنين في أي صلوات سواء طقسيّة أم تقويّة بــ "اسم الآب والابن والرّوح القدس" ونختتم بـ "المجد للآب والابن والرّوح القدس" هذا يعني أنّ قلب صلاتنا هو وجه خاص فقط في إيماننا الـمسيحيّ وهو الوجه الثّالوثيّ. سنتناول في مناقشتنا بمقالنا هذا من العهد الأوّل مقطع من سفر الأمثال (8: 22- 31) الّذي سنرى كيف أنّ هناك شاهدة عيّان تروي لنا عن وجه الله الواحد قبل الخلق حيث كانت موجودة. النص الثاني بحسب يوحنّا (16: 12-15) كيف أنّ يسوع في خطابه الوداعي يكشف عن علاقته الجوهريّة بالآب وبالرّوح القدسمن حيث ما يوحدهم وما يجعل بينهم فرادة خاصة بكلّ أقنوم. مدعوين أنّ نبحث عن هذا الوجه الثالوثي من خلال كلمات كاتب السفر الحكميّ وكلمات يسوع بحسب يوحنّا.
1. الحكمة شاهدة عيّان (أم 8: 22- 31)
الحكمة، هي تلك الشاهدة الّتي كانت مع الله كـ "شاهد عيّان" عندما خلق العالم، يتم وصفها على إنّها سيّدة تعيّ بحالة الكون منذ أنّ وُلِدت، بل وهي الّتي عاينت كلّ أعمال الله منذ البدء. ففي هذا الـمقطع الحكمي نسمع صوتها بحسب سرد الكاتب قائلاً:
هكذا تقول الحكمة الإلهيّة: "الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طرقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء مِنَ الأَزَلِ أُقمتُ مِنَ الأوَلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض. وُلدتُ حين لم تَكُنِ الغِمار واليَنابيعُ الغَزيرَةُ المِياه قَبلَ أَن غُرِسَتِ الجِبال وقَبلَ التِّلالِ وُلدتُ إذ لم يَكُنْ قد صَنعَ الأَرْض والحُقولَ وأَوَّلَ عَناصِرِ العالَم.
حينَ ثبّتَ السَّمَواتِ، كُنتُ هُناك
وحينَ رَسَمَ دائِرَةً على وَجهِ الغَمْر،
حينَ جَمَّدَ الغُيومَ في العَلاء
وحَبَسَ يَنابيعَ الغَمْر حينَ َوضَعَ لِلبَحرِ حَدَّه - فالمِياهُ لا تَتَعدَّى أَمرَه-
وحينَ رَسَمَ أُسسُ الأَرْض
كنتُ عِندَه طِفْلاً كنتُ في نَعيم يَومًا فيَومًا- أَلعَبُ أَمامَه في كُلَ حين أَلعَبُ على وَجهِ أَرضِه ونعيمي مع بَني البَشَر". (أم 8: 22- 31).
بهذا الوصف الّذي تكشفه كلمات السيّدة الحكمة وهي كشاهدة عيّان تكشف ما لم يراه أحد إذ هي أولى المخلوقات وهي الّتي رأت الأرض خربة بعد إذ لم يكن الرّبّ بدأ في مسيرة خلقه وبثّ العالم بكلمته شكلاً وألوانًا ونظامًا. تأكيد السيدة الحكمة بأنّ وجودها هو منذ الأزل أي إنّها كانت بجوار الله حينما أراد أنّ يخلق عالمنا بكلمته فصارت الحكمة هي الصديقة الّـتي تشهد اليّوم لكلّ إمرأة ورجل ليشارك في الحياة الّتي مصدرها هو الله.
تتناول الكثير من الأفعال الـمبنيّة للمجهول وهي تشير بذلك لدور الله فهو الفاعل. الله الثالوث الّذي نحتفل به في هذا الأسبوع من خلال الـنصييّن الكتابيّن منح الحياة للحكمة وهي اليّوم الّتي تعلن دوره الجوهري كمصدر وكأساس ليس للعالم بل ولها أيضًا. من الضروري التنبه بأنّ الحكمة الصغيرة بمجرد ولادتها من فكر وقلب الله، بدأت تنمو وفي إطار نموها دققت بنظرها إذّ أنّ العالم لم يكن بعد خُلق من كلمة الله. ولكن حينما بدأ الرّبّ بكلمته الإلهيّة يؤسس العالم ويعطيه من ذاته، كانت الحكمة كمراقب إذ ترى كيف أسس وثبت ورسم وخطط، ... إلخ. ففي الوقت الّذي لم يكن هناك شاهداً على عمل الله أثناء خلق العالم، كانت هناك الحكمة بمثابة شاهدة عيّان وهي تروي الآن الأحداث الّتي مرّت بها وعاشتها في هذا الحضور الثالوثي.
نحن نتحدث عن شهادة الحكمة الّتي تحمل نغمات الاحتفال بالخلق الإلهي، بسخاء. فهذه الأعمال العجائبية الّتي تميز الله الثالوثي هي الّتي تضمن الحياة، نعم، ولكن الحياة في اكتمالها، الحياة في وفرتها وإفراطها، في جمالها. حياة تعاش بحكمة، ولا تكتفي بما هو ضروري للبقاء. فالحكمة الّتي كانت تلعب كطفلة صغيرة على وجه الأرض تعلن لنا وجه الله الثالوثي الّذي منح لها البقاء وأعطي العالم الحياة بقوة كلمته الخلّاقة.
2. كشف الأقنوم الثاني (يو 16: 12- 15)
على منوال السيّدة الحكمة الّتي كشفت عن وجه الله قبل إنشاء العالم، يأتينا في هذه الآيات القليلة من خطاب يسوع الوداعي، بحسب إنجيل يوحنّا، حيث يكشف في لّاهوته عن علاقة الأقانيم الثلاث وفرادتها أيضًا. وهنا يسود صوت يسوع الابن مستمراً في خطابه كاشفًا عن وجه الله "الآب" ووجه "الرّوح القدس" وهنا بفضل تجسد يسوع وإعلان وجه في تاريختا البشري. وهنا تتضح قدرة الأقنوم الثاني "الابن" على إستمراريّة الخلاص الإلهي الّذي بدأ في عمل الله الآب الخلّاق ووصل لذروته في خلاص يسوع الابن. ولم تنتهي مسيرة حب الله الثالوثيّ لعالمنا بل إستمر يسوع في أنّ يكشف علانيّة، وهو الأقنوم الثاني عن علاقة الإتحاد الّتي تُميز الحبّ الثالوثيّ فصوت يسوع يخاطبنا نحن اليّوم كتلاميذ له من خلال دور وعمل الرّوح القدس وهو الأقنوم الثالث الّذي إحتفلنا به الأسبوع الـماضي في عيد العنصرة كختام للزمن الفصحيّ.
نخطأ حينما نعتقد بأنّ الله، في سرّه الثالوثي، يُعقد حياتنا من خلال هذا الوجه الثّالوثّي فهو بلا شك يتطلب إيمانًا كبيراً. إنّ الّذين يتوقعون منا إلهًا مُطمئنًا ومُسالمًا، ويحلّ الـمشاكل، لا يمكنهم إلّا أنّ يشعروا بخيبة الأمل أمام إله المسيح يسوع. حيث أنّه منذ البداية، نجد وجه إلهنا بالكتب الـمقدّسة، ثالوثّ حيث إنّه بدلاً من أنّ يقوم بحلّ المشاكل ومواجهتها نجده يخلقها لذاته. يضع إلهنا ذاته على المحك معنا نحن خلائقه، ويختار الـمُغامرة بالعلاقة مع البشريّة، الّتي تكشف على الفور عن حذرها منه وعدم رغبتها في الإستماع إلى صوته. إنه إله يختار شعبًا صغيرًا وغير مهم على الساحة الدولية ليعقد عهداً معه حتى يكون علامة على حضوره بين جميع شعوب الأرض. فهو إله يأخذ على عاتقه هشاشتنا سواء في كلماتنا أم في أجسادنا ليكشف عن ذاته ويتواصل معنا كبشريّة تنتمي له. وبطبيعة الحال، فإن إلهًا مثله، بحسب معتقداتنا الأرضيّة، ليس هو الإله الّذي يجعل حياتنا أسهل. إنّه إله يسوع الّذي كشف عن نفسه كالثالوث وكشركة.
ولكن كشف إلهنا، للوهلة الأوّلى، إذا فكرنا فيه بعناية فهو إعلان هائل عن التقليد اليهوديّ -المسيحيّ. هذا الثّالوث الإلهيّ الّذي لا يمكن وصفه بصور ثابتة؛ هذا الإله الذي لا يمكن تمثيله إلّا بالحركة والتطور كتدفق الماء، أو هبوب الريح الخفيفة، أو ألسنة النار المشتعلة... إلهنا يحررنا من الثقل الّذي لا يطاق لأنه إله لا يمكننا أنّ نمتلكه بالكامل وعلى الفور. إن الثالوث الإلهي لا يسمح بأنّ يتم الإمساك به مرة واحدة وإلى الأبد، بل يسمح بأنّ نُحَبه ونلتقي به ونعرفه كما نعرف ونحبّ ونواجه الأشخاص من حولنا.
لذا يشير يسوع، في هذا الآيات بشكل واضح وفي ذات الوقت بالتحديد عما بدأه الله الآب وإستمر في سرّ فداء يسوع الّذي سيستمر بعمل الرّوح القدس. هنا يكشف يسوع عن هذا الوجه الثالوثي الّذي يخترق عالمنا قائلاً:
«لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه. جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي ولِذلكَ قُلتُ لَكم إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه» (يو 16: 12- 15).
في هذا المقطع بحسب إنجيل يوحنّا، يتم وصف الجانب الإيمانيّ الـمسيحيّ من خلال دور الرّوح القدس. عندما ترك يسوع تلاميذه في الأيام الأخيرة من حياته، لم يعطهم دستوراً يتبعونه أو قانونًا دقيقًا للحقيقة ليؤمنوا به أو قواعد بتمسكوا بها، لكنه ترك لهم الرّوح ليرشدهم عبر التاريخ إلى الحقيقة كاملة.
3. يسوع هو العامل الـمشترك (يو 16: 12- 15)
حتى في مقطع الإنجيل، يعترف يسوع نفسه بأنّ تلاميذه غير قادرين على المعرفة الكاملة لشخصه، ورسالته، وهويته كابن الله وكاشف عن وجه وهويّة الآب. ولعله من الجيد والضروري أنّ يكون الأمر كذلك! من خلال كشف يسوع أوّلا عن دور الرّوح القدس الّذي يستكمل مسيرة الكشف الإلهي ببشريتنا هو إعلان عن هذه العلاقة بين الروّح القدس ويسوع كأقانيم مصدرهم واحد وهو الألوهيّة وهدفهم البشريّة. إنّ الرّوح الّذي أُعطي للتلاميذ ولنا هو الّذي سيرشدنا إلى الحقيقة كلها، لأننا لن نستطيع أنّ نمتلكها منذ البدء. يتعلق الأمر بتحديّ أي أنّ رؤية لله تسعى إلى تقليصه إلى صنم أصم وأبكم.
إن وجه الله الثالوث هو بالتأكيد ليس بالأمر السهل إلّا إنّه ليس بهذه الدرجة من التعقيد! لكن قبل كل شيء الوجه الثالوثي هو بمثابة "إنجيل" أي خبر سّار. يمكننا أنّ نتعرف تدريجياً على الله وهو نفسه يعترف بجهدنا ويدعمنا في مسيرة حياتنا البشريّة. مدعوين ليكون وجه الله الثالوث دعوة دائمة للتساؤل حول إيماننا، الّذي يكون في بعض الأحيان ثابتًا للغاية ومطمئنًا للغاية. لا ينبغي أنّ يكون الثالوث بالنسبة لنا مجرد مادة إيمانية يصعب فهمها، بل عنصرًا يحول إيماننا باستمرار، ويحركه، ويجعله ديناميكيًا وخلاقًا، ويدفعه إلى أبعد من ذلك ليكون متاحًا لعمل الرّوح. دون أنّ نجعل الثالوث مجرد لغز غامض، يتعين علينا أنّ ندرك قدرته المذهلة على تحريكنا.
4. الإيمان بالوجه الثالوثيّ (يو 16: 12-15)
إنّ الإيمان بوجود إله ثالوث يعني معرفة أننا لا يمكن أنّ نكون راضين أبدًا عما نعتقد أننا نعرفه أو نمتلكه، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي لنا أنّ نتظاهر بامتلاك كل شيء على الفور، لأنّ هذا لن يكون الله. من المؤكد أنّ الثالوث يجعل حياتنا مسيرة ذات بحث مستمر بمعنى يكشف لنا عن وجه الله الّذي من الصعب إمتلاكه، ولكن من الأسهل أنّ نحبه ونلتقي به من خلال إيماننا به آب وابن ورّوح قدس. قد نعتقد إنّه من الصعب عقليًا أنّ نفهم كيف لله الواحد أنّ يكشف عن وجه ثالوثي، إذ كلاً منهم له دوره في علاقته بنا كبشر. فالآب خاصته هي الخلق، والابن عمله هو الخلاص، والرّوح القدس هو تيار الحبّ الّذي يجدد وينشط فينا كل ما منحه الآب وكشف عنه الابن ويبثّ فينا الرّوح هذا الحبّ الّذي غمر الثالوث الـمقدس.
الخلاصة
ناقشنا بمقالنا هذا شهادة السيدة الحكمة الّتي كشفت عن ذاتها كشاهدة عيّان بحسب كلمات كاتب سفر الأمثال بالعهد الأوّل (راج أم 8: 22- 31). نجحت هذه السيّدة في أنّ تبث لنا كيف كان وجه الأرض قبل تجلجل الصوت الإلهي في الخلق، إذ كانت موجودة، وإكتشفت وجه الله الواحد. وبالعهد الثاني بحسب يوحنّا (16: 12-15) تركت صدى كلمات يسوع عن أهميّة وفرادة دور كلاً من الأقانيم الثلاث الّتي كشفت عن دور الله الّذي لا يخفي شيئا عن الابن، لذا يعلن لنا الابن أنّ الآب يكشف له كل الأسرار وكل ما له من جانب وأنّ الرّوح سيستمر في الـمرافقة لكلّ مَن يؤمن برسالة يسوع الخلاصيّة الّـي أساسها هي الحبّ ولا غير. لذا مدعوين فقط من خلال الإيمان بالله الآب والابن والرّوح القدس أنّ نجدد مسيرتنا الإيمانيّة بجوهر إيماننا وهو الثالوث الـمقدس. دُمتم في شركة وإنسجام بإلهنا الثالوثي الّذي يرغب في الكشف عن وجه الثالوثيّ لكلّاً منا.