موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أحدُ "صعود الرّبّ" من زمن القيامة الـمجيدة (ج)
مُقدّمة
في مقالنا اليّوم سنناقش نصي فيما بين العهديّن يحاوران قلوبنا وبلأحرى إيماننا حول سرّ الصعود الإلهي. حيث يدعونا هذا العيد الّذي نحتفل به ككنيسة الرّبّ بعد أربعين يومًا من عيد القيامة، إلى قبول تجربة واقع آخر يشكل جزءًا لا يتجزأ من سرّ قيامة المسيح. أنّ هذا السرّ الفصحي الّذي احتفلنا ونحتفل به بمختلف جوانبه بظهورات القائم العديدة، خلال هذا الزمن الفصحي، كما رأيناه في مقالاتنا الست السابقة، ليس حدثاً يخص زمن القيامة فقط، بل نحتفل به في هذا الزّمن الليتورجيّ حتى يصبح حقاً محور حياتنا كلها كتلاميذ للرّبّ.
إنّ كلّ جانب من جوانب سرّ قيامة الرّبّ الّذي تمكنا من تذوقه وتجربته خلال هذا الزّمن هو ثمرة قيامة يسوع الّتي يجب أنّ نميزها طوال حياتنا، وهي تصير نعمة ومسئولية معًا. من خلال عيد صعود الرّبّ نصل في مسيرتنا الرّوحيّة للتقدم في زمن الفصح حيث يعتبر إحتفالنا بهذا العيد دافع يحثنا أكثر إلى النقاش في موضوع حياة القائم في زمن غيابه الجسديّ. نعم، غيابه، لأنّ مفهوم حضور الرّبّ من الآن وصاعداً لن يكون مباشر مما قد لا يجعلنا ندرك حداثة حضوره في الغياب، مما يتسبب في إختفاء توترنا تجاه لقاء رّبّ الكون الّذي ينتظرنا في أفق تاريخ البشرية كملك الكون والّذي سنحتفل به في نهاية الزّمن الليتورجيّ بالسنة الطقسيّة. لهذا السبب إنّ نجد في بعض الكنائس رسومًا لصعود الرّبّ على الواجهة المقابلة، وفي مؤخرة الكنيسة، رسمًا لمجئ الرّبّ الأخير (parusia). وهكذا فانّنا كجماعة كنسيّة نجتمع في تلك المساحة نعلم بأننا نعيش في الزّمن الحاضر الّذي يقع بين هذيّن الحدثّين (راج عب 9: 28).
في قرأتنا بمقال هذا الأسبوع والّذي يتمحور حول الصعود كفتح أذهاننا من قِبل الرّبّ الملك، نجد أنّ نص العهد الأوّل وهو الـمزمور 46 والنص اللُوقاوي بالعهد الثاني يساعدانا على فهم معنى الإحتفال بجوهر سرّ الصعود اليّوم، حيث يرافقنا القائم ويأتي مُتممًا لسرّه وفاتحًا إيانّا على سرّه الـملكيّ.
1. صعود الـملك (مز 46 "47")
يدعو كاتب سفر الـمزامير مع الجماعة اليهوديّة بل مع كلّ الشعوب، ومنهم نحن اليّوم، بالتهليل من خلال التصفيق والتأمل في أعمال الرّبّ العجائبيّة قائلاً: «صَفِّقي بِالأيدي يا جَميعَ الشُعوب إِهتِفي للهِ بِصَوتِ التَّهْليل فانّ الرَّبَّ عَليّ رَهيب على جَميعِ الأَرضِ مَلِكٌ عَظيم» (مز 46: 2- 3). تحملنا هذه الدعوة للإعتراف بعظمة الرّبّ الّذي حرر شعبه من خلال صعوده مع شعبه وهي تعتبر الخطوة الأوّلى ليفتح أذهاننا في الكتب الـمقدسة لنعرف حقيقة إلهنا: «صَعِدَ اللهُ بِالهُتاف الرَّبُّ بِصَوتِ البوق. إِعزِفوا لِإِلهِنا اْعزِفوا إِعزِفوا لِمَلِكِنا اْعزِفوا فان اللهَ مَلِكُ الأرضِ كُلِّها. إِعزِفوا لَه بِمَهارة. اللهُ على الأمَمِ مَلَك اللهُ على عَرشِ قُدْسِه جَلَس» (مز 46: 6- 8). يكرر الكاتب إستمرارنا في التهليل بالعزف من طرفنا لإلهنا لأنّ صعوده الـملكيّ له سّمة خاصة ليس فقط على شعبه بل على كلّ الشعوب. وهنا تتضح فرادة إله بني إسرائيل وهو الجالس على العرش. هذه هي الإستعارة الّتي يُقرب بها الكاتب حضور الرّبّ وسطنا ليس كإله بعيد عن شعبه بل هو الجالس على عرشه وسط شعبه لذلك نجتمع حوله مع كلّ شعوب للإعتراف بملوكيته وهناك نفاجأ، أمام الملك الـمتعالي بأنّه: «إِجتَمعَ أَشرافُ الشُّعوب: هم شَعبُ إِلهِ ابراهيم لِأَنَّ للهِ تُروسَ الأَرضِ وهو الـمُتَعالي جِداً» (مز 46: 10). أمام هذا الحضور السّامي، والّذي مهدنا لنقترب مع لوقا الإنجيلي الّذي يروي حدث إتمام هذا الصعود الـملكيّ من خلال حدث صعود يسوع أمام أعين تلاميذه فهل يغيب الـمعلّم عن تلاميذه؟
2. الإتمّام بالصعود (لو 24: 44- 46)
بحسب ما مهدنا به كاتب سفر الـمزامير (46) في كلماته عن الصعود الـملكيّ للرّبّ معنا كشعب يرافقنا ليفتح أذهاننا، وهذا ما يضعه الإنجيلي في إفتتاحيته لنص صعود الرّبّ على لسان يسوع القائل لتلاميذه ولنا: «ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والـمَزامير» (لو 24: 44). لذا نقرأ بحسب الليتورجيّة، من كلّ عام، حدث الصعود بحسب إنجيل لوقا (24: 44- 53). حيث ينفرد لوقا في لّاهوته فقط دون عن باقي الإنجيليين الثلاث بإدماج حدث صعود الرّبّ في سرّ يسوع الفصحي. بينما الإنجيليّين الآخرين يكتفون بآلام وموت وقيامة الرّبّ، إلّا أنّ لوقا يضيف في إنجيله حدث الصعود كجزء أساسي من سرّ يسوع الفصحي وهو ما يفتتح به كتابه الثاني وهو سفر أعمال الرسل. وبهذه الخاصيّة اللّاهوتيّة وهي الإتحام والتحقيق نجد الإنجيليّ يختتم ويفتتح معًا سرّ الكنيسة في هذه الصورة الـمهيّبة الّتي يروي فيها اللقاء الـمباشر بين يسوع وأحبائه. ولكن القائم يذكرنا بما أعلنه قبل موته وبأنّ سرّه الفصحيّ هو إتمّام للكتب العبريّة والّتي نطلق عليها كتب العهد الأوّل في إيماننا الـمسيحيّ. إذن كل ما تشير إلهي كتب العهد الأوّل نجد يسوع يُتممها منذ تجسده وحتى صعوده.
3. "فَتحَ أَذْهانَهم" (لو 24: 45)
في كلمات يسوع الأخيرة لتلاميذه، يشير الإنجيليّ إلى هدف القائم من كلّ ما أعلنه من أقوال بالـماضي وما عاشه من أفعال وتعاليم مع تلاميذه بشكل واضح. يستخدم فعل "فتح"، حيث أنّ القائم يقوم بفتح الكتب على أذهاننا من جانب ويفتح أذهاننا على الكتب من الجانب الآخر. في هذه الـمرحلة الأخيرة والّتي يمتزج فيها اللافهم واللإنسجام بين قلب وعقل التلاميذ حيث يأتي القائم مرافقًا إياهم مشيراً إلى وقت يتطلب تحرير تلاميذه من عبء يُثقل قلوبهم وهو هشاشة الإيمان فيروي الإنجيليّ: «حينَئِذٍ فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب» (لو 24: 45).
الإنغلاق على فهم الرّبّ بصورة غير حقيقيّة، هي صعوبة التلاميذ، وهي صعوبتنا اليّوم، حيث نحتاج للذاكرة النشيطة وليست فقط بالعقل، فكريًا، بل بالقلب، إيمانيًا. هذه الذاكرة هي الّتي تربط أحداث حياتنا ويقودها عمل الرّبّ بأزمنة حياتنا من الـماضي بالحاضر لتتقدم نحو الـمستقبل برفقة الرّبّ. يستخدم لوقا تعبير "فتح الذهن" (راج لو 24: 27) وهو بمثابة تعبير لوقاويّ خاص، حيث يذكرنا القائم بسرّ حبّه وهو أكبر عمل أعجازي يشفينا من عمى التلاميذ وعمانا الباطني. وهذا هو آخر أعمال القائم الإعجازيّة إستنارة قلوبنا وتنوير بصائرتنا (راج لو 9: 45؛ 18: 34). يشير تعبير فتح الذهن إلى إزالة الختم الأخير الّذي يحرم التلاميذ من فهم حقيقة وهويّة القائم. وهنا يأتي القائم ليزيل القناع الأخير من خلال معرفة دور الثالوث ودورنا كما سنكتشف لاحقًا.
يتطلب فتح الذهن على الكتب الـمقدسة والّتي تصير بدورها شرح لـموت وقيامة الرّبّ كمحور الإعلان والتجلي الإلهي حيث نسمع صوت القائم مُعلناً: «كُتِبَ انّ الـمَسيح يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم. وأَنتُم شُهودٌ على هذه الأُمور. وإِنِّي أُرسِلُ إِلَيكم ما وَعَدَ بهِ أَبي. فَامكُثوا أَنتُم في المَدينَة إِلى أَن تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى» (لو 24: 46- 49). قوي هذا الكشف الأخير الّذي يعلنه يسوع بشكل صريح لتلاميذه ولنا اليّوم، حيث يكشف الدور الثالوثيّ الأساسي (الآب والابن والرّوح القدس كقوّة إلهيّة) وأيضًا دورنا نحن كشهود عن الإتمّام! من خلال نعمة الـملبس: "تُلبَسوا قُوَّةً مِنَ العُلى".
تترك كلمات يسوع صداها إذ تشير بدرونا الّذي يرتكز على دورنا التبشيري متى قبلنا إعلان يسوع وهو أنّ نصير شهوداً له بالرغمن من هشاشة إيماننا. نتعجب! نعم، فالرّبّ يختارنا بالرغم من ضعفنا فنحن نشهد ليس بقوّة منا بل من خلال فقرنا يستخدمه ليكشف عن ذاته فينا ومن خلالنا. مَن يؤمن باسمه، الأسم في الكتاب الـمقدس يشير للشخص بكينونته الشاملة. ففي إسمه ليس فقط خلاصنا، بل شهادتنا وإيماننا أيضًا.
كلمات يسوع، تترك عزاء وتصير كالبلسم اليّوم، إذ تدعونا لنفرغ ذاوتنا ليملأنا القائم بقوّة الرّوح القدس الّذي يتفاعل وتستمر القوّة بباطننا من عمل الابن لعمل الرّوح تحت قيادة الله الآب، ليعمل بنا لخير "كلّ الشعوب".
4. الصعود الـملكيّ (لو 24: 50- 52)
نلاحظ في هذه الآيات اللوقاويّة الأخيرة للإنجيل (24: 50- 53) بأنّ نغمة الإنجيلي تتغير بشكل جذريّ مشيراً إلى أفعال الصاعد إلى السماء بهذه التعبيرات: «ثُمَّ خَرَجَ بِهم إِلى القُرْبِ مِن بَيتَ عَنْيا، ورَفَعَ يَدَيهِ فبارَكَهم. وبَينَما هو يُبارِكُهم اِنفَصَلَ عَنهم ورُفِعَ إِلى السَّماءِ. فسَجَدوا له، ثُمَّ رَجَعوا إِلى أُورَشَليم وهُم في فَرَحٍ عَظيم. وكانوا يُلازِمونَ الهَيكَلَ يُبارِكونَ الله» (لو 24: 50-53). يدخلنا الإنجيلي في جزء ينفرد به وهو بركة الصاعد الّتي تصير سبب لبركتنا حيث ننطلق مع التلاميذه في بركة الله. وهذا يعني أنّه يكشف لنا ما يتعلق بالإيمان بيسوع وفصحه. وهو يريد الآن إستخلاص النتائج على حياتنا كمؤمنيّن قارئين لبشارته. يسوع الصاعد بشكل ملكيّ يرفع يده ويباركنا بشكل نجمع كلّ بشريتنا المتألمة ويحررنا من كل عائق حاملاً إيانا إلى الخروج معه لنتعلم كيف تصير حياتنا بركة وأساها هو أن نتعلم أن نبارك الرّبّ الّذي أعطانا يسوع ابنه وسيلبسنا بعد قليل من الأيام بقوّة رّوحه القدوّسة.
الخلّاصة
ناقشنا بمقالنا هذا من خلال أحد الـمزامير بالعهد الأوّل (مز 46)، حيث حللنا قوّة صعود الرّبّ بالـماضي إذ أظهر قوته وتحريره لشعبه الّذي صار نّور لكلّ الشعوب. فهذا الصعود الـملكي يدعونا للإنطلاق بالتهليل والفرح وهو ما ختم به لوقا هذا النص بالعهد الثاني (لو 24: 44- 53) حيث بارك التلاميذ الرّبّ علامة على فرحتهم وتهليلهم بيسوع الّذي صعد بشكل ملكيّ أمام أعينهم على الجبل. ولكن أثار إندهاشنا لوقا حينما أشار إلى فتح أذهان الصاعد لتلاميذه إذ أنّ إنغلاق قلوبهم لم يساعدهم على فهم سرّه الإلهي. لذا خصص لوقا هذه الآيات الأخيرة ليرافقنا في مسيرة تحرير أخيرة من قبل يسوع لتلاميذه، كاشفًا لهم قوّة تنتظرهم كنعمة حبّ الآب الّـتي إنطلقت من الـماضي بتاتريخنا البشريّ ووصلت لذروتها بإتمّام يسوع لسرّه الفصحيّ من آلام، موت، قيامة وصعود بحسب اللّاهوت اللُوقاوي وها هي تنفتح على قوّة الرّوح المجانيّة الّتي سيمنحنا إياها الآب. مدعوين لقبول رفقة يسوع الّذي يأتي ويفتح أذهاننا ليحررنا من عمى باطنيّ حتى نكتشف هذا الـملك الّذي يصعد اليّوم ليستمر بفتح أذهاننا ويعمل بباطننا ويزيد إيماننا به. دُمتم في إيمان بالرّبّ الـملك الجالس عن يميّن الآب.