موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأحد السابع عشر (ج)
مُقدّمة
فن اللجاجة هو مضمون مقالنا في قرائتنا لنصي فيما بين العهديّن حيث أنّ هناك لجاجة بشريّة فارغة وهناك لجاجة تلمس قلب الله. ما الفرق بينهما؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذا الـمقال حيث أنّنا سنتفاجأ بإبراهيم ولأوّل مرة يُبادر البطريرك الأوّل في الحوار مع الله مُلحًا وبلجاجة لخلاص بني سدوم بسفر التكوين (18: 20- 32). هكذا سنتعرف على فن اللجاجة من خلال علاقة يسوع الحميمة بالله أبيه والّتي تتسم باللجاجة من خلال الإستمراريّة في علاقته به خاصة بحسب إنجيل لوقا (11: 1- 13) الّذي يعرض لنا صّلاة يسوع من جانب وتعليمه لتلاميذه الدخول في هذه العلاقة الحميمة كأبناء، من خلال صلاة الأبانا، من جانب آخر. نُشدد في مقالنا هذا الّذي يدعونا إلى هدف جديد وهو تعلّم فنّ اللجاجة في التواصل مع الله أبينا إذ نتواصل معه وندعوه بقلب وبدالة البنيّن.
1. صمود إبراهيم (تك 18: 20- 32)
من روعة الأدب السيّاقي بسفر التكويّن حيث يسمعنا الكاتب الـمونولوج الّذي يدور بين الله وذاته. أثناء أحداث سدوم الّتي تتسم بالخيانة والنكران للرّبّ لم تكن هناك أي علاقة بين الله وإنسان آخر سوى إبراهيم. وهنا يأتي تساؤل الله في المونولوج الخاص به قائلاً: «أَأَكتُمُ عن إِبْراهيمَ ما أَنا صانِعُه» (تك 18: 17). بعد العهد الّذي قطعه الله مع إبراهيم (راج تك 15: 1ت)، بدأت علاقة صادقة بين البشريّ والإلهيّ. ويدهشنا موقف إبراهيم الّذي بعد أن رافق بعض من رجال سدوم، يدرك إنّه لا يستطيع أنّ يفعل شيء أمام شرّ أهل سدوم فيصف الكاتب موقفه مُعلنًا: «بَقِيَ إِبْراهيمُ واقِفًا أَمامَ الرَّبّ» (تك 18: 22). في هذه اللحظة ولأوّل مرة يبادر إبراهيم في الحوار مع الرّبّ طارحًا أسئلته البلاغيّة قائلاً: «أَحَقًّا تُهلِك البارَّ مع الشِّرِّير؟ لعلَّه يُوجَدُ خَمْسونَ بارّاً في المدينة، أَحقًّا تُهلِكُها ولا تَصْفَحُ عَنها مِن أَجلِ الخَمْسينَ بارّاً الَّذينَ فيها؟ حاشَ لَكَ أَن تَصنَعَ مِثلَ هذا: أَن تُميتَ البارَّ مع الشِّرِّير، فيَكونُ البارُّ كالشِّرِّير. حاشَ لَكَ! أَدَيَّانُ الأَرضِ كُلِّها لا يَدينُ بِالعَدْل؟» (تك 18: 23- 25). أمام هذا السلوك الـمُتشفع لبني سدوم يعلن الديّان، بحسب وصف إبراهيم صديقه، قراره السخيّ قائلاً: «إِن وجَدتُ في سَدومَ خَمْسينَ بارًّا في المَدينة، فإِنِّي أَصْفَحُ عن المَكانِ كُلِّه مِن أَجْلِهم» (تك 18: 26). مدعويّن بالبقاء صامدين واقفين أمام الرّبّ كإبراهيم مُلحيّن بلجاجة عارضين طلباتنا أمام الرّبّ طالبين الخلاص والنجاة لآخرين.
يستمر إبراهيم مُلحًا، وبدون تراجع، بأسلوب تجاري مع الرّبّ طالبًا تخفيضات تدريجيّة حتى يصل العدد من خمسيّن شخص بارّ إلى عشرة أشخاص، والرّبّ يسمع ويشعر بما في قلب إبراهيم مُتماديًا بتخفيضات هائلة حتى وصل العدد لعشرة أشخاص (راج تك 18: 27- 32). يستمر إلحاح إبراهيم وتستمر موافقة الرّبّ على العدد الـمُخفض لأجل لجاجة إبراهيم الّذي يتضرع لشعب سدوم، وهو ليس بشعبه، طالبًا أقل عدد لتنجو الـمدينة بكاملها. صمود إبراهيم ولجاجته لدى الرّبّ، سبب قوي جعل الرّبّ يطيع رغبة إبراهيم الإنسان.
فن اللجاجة والإلحاح هي صفة كثيراً ما نقرأها ونسمعها في هذه الآونّة خاصة أمام التحديّات الصعبة. هذا الحدث أساسي حيث يقع بعد قطع الله العهد مع إبراهيم. يبقي الرّبّ صاغيًا وثابتًا على عهده مُتحاوراً بل طائعًا للعروض الـمختلفة الّتي يقترحها عليه إبراهيم، رجل العهد. تنازل الرّب وقبوله بتخفيض عدد الـمتبرريّن، لأنّه إلهنا فهو يعرف إننا نلّح وبلجاجة في طلباتنا إليه لأنّ إله العهد هو إلهنا وليس لدينا سواه لينجينا. يعرف إبراهيم هشاشته البشريّة قائلاً للرّبّ: «قد أَقدَمتُ على الكلامِ مع سَيِّدي، وأنا تُرابٌ ورَماد» (تك 18: 27)، ومع ذلك يتجرأ ويتحاور ولا يتراجع في طلبه متضرعًا لشعب سدوم. مدعويّن للتضرع بلجاجة أمام الرّبّ ولأجل الآخرين حتى ننال جميعًا الخلاص فنصير فيما هو للرّبّ.
2. لجاجة يسوع (لو 11: 1- 13)
على ضوء لجاجة وإلحاح إبراهيم أمام الرّبّ بسفر التكوين، نقرأ بحسب لوقا نوع غريب من اللجاجة الّذي يكشف عن علاقة حميمة وهي تنبع من قلب يسوع الابن نحو الله أبيه وأبينا. يسرد لوقا في إفتتاح هذا النص قائلاً: «وكانَ [يسوع] يُصلِّي في بَعضِ الأَماكِن» (لو 11: 1ب). لا نعرف جوهر صلّاة يسوع الابن وكلماته، بل نراه مع التلاميذ منعزلاً بمفرده في صمت. وللوهلة الأوّلى حينما إنتهي من فعل حبه البنويّ للآب إقترب منه تلاميذه طالبيّن منه أنّ يكشف لهم عن مغزى إنعزاله وصمته ووقوفه بمفرده أمام الآب قائلين: «يا ربّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ كَما عَلَّمَ يوحنَّا تَلاميذَه» (لو 11: 1ب). نعلم أنّ من العناصر اللّاهوتيّة الّتي يتميز بها لوقا الإنجيلي هي عنصر الصلّاة الّذي أبدع فيه دون عن باقي الإنجيلييّن. فهو يكشف عن يسوع الابن الّذي قبل أنّ يتخذ قراراته الحاسمة، يقضي ليلة كاملة في الصلّاة قبل أنّ يتخذ قراره. العلاقة الحميمة الّتي حافظ عليها يسوع مع الله الآب، هي السرّ حيث يكشف لنا مع التلاميذ في هذا النص كيف يمكننا أنّ نتحاور مع الله كأبناء بل يمكننا أنّ ندخل معه في حميميّة علاقة فريدة ونناديّه باسمه: «أَيُّها الآب» (لو 11: 2). نعلم أنّ الصيغة الّتي نصلي بها صلّاة الأبانا مُتخذة من النص بحسب إنجيل متّى (راج مت 6: 9- 15).
هذا النموذج هو الشكل العمليّ الّذي بثّه يسوع لتلاميذه ولنا من خلال مشاركته إيانّا أبيه السّماوي، فيصير أبانا أيضًا ونحن أبناءه! وهنا تأتي جوهريّة الصّلاة، في صيغتها القصيرة، الّتي يهدينا يسوع إياها بقوله: «إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ [...]» (لو 11: 2- 3). يشير لوقا لأهميّة أبّوة الله أبينا ويدفعنا للتمثل به كأبناء من خلال الله الآب الّذي يجمعنا في أبوته.
3. فن اللجاجة (لو 11: 5- 13)
بحسب اللّاهوت اللُوقاويّ وبتركيز الإنجيليّ على مضمون الصّلاة من قِبل يسوع، يستمر في تقديمه لمضمون الصّلاة واضعًا على لسان يسوع تعليمه حول الصلاة بلجاجة. تعليم يسوع من خلال المثل العمليّ عن الصديق الّذي يطلب بعض الأرغفة من صديقه في منتصف الليل قائلاً: «وإِن لم يَقُمْ ويُعطِه لِكونِه صَديقَه، فإِنَّه يَنهَضُ لِلَجاجَتِه، ويُعطيهِ كُلَّ ما يَحتاجُ إِلَيه» (لو 11: 8). نحتاج أن نلّح في طلباتنا للرّبّ دون أنّ نملّ خاصة الإحتياجات الروحيّة والسبب تنبيه يسوع لنا مباشرة إذ يقول من خلال صيغة الأمر: «اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم.لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له» (لو 11: 8-9). وبناء على هذا التعليم بعد أنّ علمنا يسوع الصّلاة الّتي يمكننا أن نتواصل من ابينا السماويّ مباشرة يُذكرنا بأننا أبناء مُعلنًا الفرق بين الأبوّة الجسديّة والأبوة السماويّة بهذا المثل: «فأَيُّ أَبٍ مِنكُم إِذا سأَلَه ابنُه سَمَكَةً أَعطاهُ بَدَلَ السَّمَكَةِ حَيَّة؟ أَو سَأَلَهُ بَيضَةً أَعطاهُ عَقرَباً؟ فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه» (لو 11: 11- 13).
يصل يسوع بهذا التدرج في تعليمه عن كشف وجه الله الآب الحقيقيّ أذ أمام طلباتنا يكشف عن أبوته ويسمع لنا وما علينا إلّا أن نلّح وبثقة في أنّ الله أبينا سيستجيب والسبب هو إننا نلجأ إليه بقلب الأبناء وهو يضغف أمامنا وسيستجيب من خلال هذه اللجاجة في صلتنا به كأبناء. مدعويّن أنّ نتعلم فن اللجاجة في تواصلنا بالله. الصّلاة هي حوار مع الله أبينا واثقيّن بأننا أبناء وبأنّه سيستجيب بالرغم من كلّ ما نمر به. تصير صلاتنا وقت اللجاجة الحقيقي فلا نتوقف ولا نتعب بل نستمر بثقة البنيّن في اللجاجة لله أبينا. لا ننسى أنّ اللجاجة فن خاص تعبر عن لغة الأبناء الحقيقييّن للآب السماويّ. الصّلاة بلجاجة تقوي علاقتنا بالآب وتخترق قلب الآب.
الخلّاصة
ناقشنا في مقالنا هذا فن اللجاجة الوارد من خلال لجاجة إبراهيم للرّبّ بسفر التكوين (18: 20- 32) حيث قرر أنّ يدخل في علاقة حميمة بالرّبّ وتضرع لأجل شعب سدوم. على هذا المنوال سمعنا صوت يسوع، بحسب لوقا (11: 1-13). بعد أن تأملناه وهو في قلب العلاقة بالله كابن بالطبيعة، أثناء صلاته، أي وقت لجاجته للآب. ثمّ علمنا يسوع كأخ بكر فن اللجاجة من خلال الـمثل والتعليم إذ علمنا كيف نتعلم فن اللجاجة للآب فقط من خلال توجهنا لله وندائنا له باسم "الآب"، أي نتعرف على هويتنا الحقيقيّة كأبناء. ومن خلال هذه العلاقة يمكننا أيضًا أن نطلب من الله أبينا ولجاجتنا لإحتياجاتنا الّتي نضعها أمام الآب هي بمثابة صوت الأبناء الّذي يطرق على باب قلب الله أبينا. نعم الله من الآن وصاعداً هو أبينا وليس الله الآب، فهو ينتمي لنا ونحن ننتمي له. هذا ما كشفه يسوع في تعليمه لنا اليّوم.
من خلال صوت إبراهيم وتضرعاته بلجاجة وإلحاح وصوت يسوع في تعليمه لنا اليّوم، يكشف عن أنّ اللجاجة ضرروريّة بل أساسيّة خاصة حينما تقوم بها لأجل الآخرين وليس لذاوتنا فقط. فلنلّح بقلب الأبناء والله سيستجيب بقلب الآب! دُمتم في لجاجة مستمرة لله أبينا ونمو في تعلّم فن اللجاجة كأبناء.