موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٩ يوليو / تموز ٢٠٢٥

"إفساح المجال للرّبّ" بين كاتبي سفر الجامعة والإنجيل الثالث

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (جا 1: 2. 2: 21- 23؛ لو 12: 13- 21)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (جا 1: 2. 2: 21- 23؛ لو 12: 13- 21)

 

الأحد الثامن عشر (ج)

 

مُقدّمة

 

سنلتقي في سلسلتنا الكتابيّة بموضوع شائك وقد نتسأل كيف يمكننا كمسيحيين أنّ نقرأ نصوص هذا الأسبوع؟ فهناك بعض الغموض أم صعوبة الفهم لبعض التعاليم لإدارة الممتلكات الماديّة. مع ذلك، ورغم حضور هذا الموضوع، إلا أنه ليس المنظور الوحيد لهذه النصوص. في الواقع، مدعوين لقراءة نصيّ العهديّن سواء بسفر الجامعة (1: 2. 2: 21- 23) والّذي يشير للجديد بالنسبة للغنى سواء أمام البشريّ أم الغنى أمام الله! أما بالنسبة للنص الإنجيلي بحسب اللّاهوت اللُوقاوي والّذي يتحدث في أكثر من نص عن موضع الغنى إذ يناقشه في هذا النص (لو 12: 13- 21) بمنظور أوسع قليلاً. سنكتشف أنّ دعوة يسوع لنا ليحذرنا من الجشع تحمل دائمًا قيمة لاهوتيّة بالدرجة الأولى. أي أنّها تتعلق بنظرتنا إلى الله وعلاقتنا به. وبالطبع، هناك أيضًا تعاليم حول كيفية التصرف في علاقتنا بالممتلكات الماديّة، لكن هذه العلاقة في جوهرها تنبع من علاقتنا بالله. في الإيمان المسيحي، هذا هو الحال دائمًا، وعلينا أنّ نتعلمه من النصوص المقدسة فيما بين العهدين. هدف مقالنا هذا أن نكتشف الجديد عن سلوكنا تجاه الـمال إذ لا يأتي أوّلاً ثم العلاقة مع الله، بل تأتي العلاقة مع الله أولاً، ثم يأتي الالتزام بالحياة الّذي ينبع منها. هذا جانب مهم غالبًا ما ننساه أو نتناساه في زحام الحياة.

 

 

1. سمو في العلاقة بالله (جا 1: 2. 2: 21- 23)

 

يفتتح كاتب سفر الجامعة هذا النص بإشارته الشهيرة البطلان إذ يقول: «باطلُ الأَباطيل، يَقولُ الجامِعة باطلُ الأَباطيل كلّ شيَءٍ باطِل» (جا 1: 2). في هذا المقطع الحكميّ بسفر الجامعة الّذي يُنسب للملك سليمان، نجد فكراً حكيماً مشيراً إلى العلاقة بالخيرات وإلى سعي الإنسان لامتلاكها. يمكننا القول، بأن في فترة الـملك سليمان إزاد الإزدهار والتقدّم للشعب اليهودي بسبب إختيار الله له من جانب وبسبب مشاركة البشريين كداود وسليمان في إتمام مخطط الرّبّ. في هذا النص يحذر الـملك شعبه الّذي يتمتع بفضل إلهي إلى الانتباه من الـماديات مشيراً إلى بطلان وزوال كلّ شيء عدا الله والعلاقة به. نعم البطلان والنهاية من المنظور بشري لهو مُحبط إلّا إنّه الحقيقة. حتى من خلال التجربة البشرية البحتة، يمكن للمرء أنّ يكتسب منظوراً حكيماً في العلاقة بالخيرات الـماديّة بفضل عمل وجهد الإنسان الّذي له علاقة بالله. سيتمكن الإنسان من إتمام المخطط الإلهي وبدونه لن ينال شيء. حيث يدعونا الحكيم اليّوم إلى البحث عما وراء الـماديّات، لأنه في العلاقة بالرّبّ سننال حياة جديدة بتشديده: «لا خَيْرَ لِلإِنسانِ إِلاَّ أَن يَأكُلَ وَيشرَبَ وُيذيقَ نَفسَه الهَناءَ بتَعَبِهفإِنِّي رَأَيتُ أَنَّ هذا أًيضاً مِن يَدِ الله فَمَن تُرى يَأكُلُ وَيشرَبُ إِلاَّ مِن يَدِه؟ إِنَّ اللهَ يُؤتي الإِنْسانَ الصَّالِحَ أَمامَه حِكمَةً وعِلمًا وفَرَحًا وُيؤتي الخاطِئ عَناءَ الجَمعْ والاِدِّخار حتَّى يُعطِيَ كُلَّ شيَءٍ لمن هو صالِح أَمامَ الله» (جا 2: 24- 26). فالرّبّ يعطينا كلّ شيء ولا أهميّة لها بل الباقي هو الله بسموه وعظمته فقط إذن علينا بالسعي إلى التعمق في العلاقة به والانتماء له.

 

 

2. الرعايّة الإلهيّة (لو 12: 1- 12)

 

أشار يسوع قبل تعليمه بمثل الغني الجاهل إلى بعض الصور الّتي تكشف عن انفتاحه على تأمل الطبيعة وجمال الخليقة. حيث يدعونا يسوع مع السامعين له للتوقف بالتأمل أمام الصورة الأوّلى وهي الغربان الّتي رغم إنّها لا تعمل تجد طعامها، بل يؤكد أنّ الله ذاته هو مَن يُطعمها. يلخص يسوع هذه الصور بأنّ الإنسان (أنا وأنت) أثمن من طيور السماء! ثم يدعونا من جديد إلى صورة ثانية وهي تأمل زنابق الحقل. لقد ألبسها الله أثوابًا رائعة، حتى سليمان - الملك الغني والحكيم بامتياز - لم يكن ليفخر بمثل هذه الثياب الرائعة. إذا كان الله يُلبس زنابق الحقل هكذا، فكم بالحريّ نحن أبنائه!  بهاتين الصورتين المأخوذتين من عالم الطبيعة، أراد يسوع أنّ يدعونا مع تلاميذه إلى علاقتنا بالله، وأنّ نثق بأنّ حياتنا محميّة به وبحضوره. الـملكوت الإلهي هو ما يجب علينا كتلاميذ السعي إليه؛ كل شيء آخر، سوى الـملكوت، سيأتي لاحقًا، وسيُعطينا إياه الله ذاته. بذكر يسوع هذه الأمور، لا يؤكد بتبشيرنا بمواقف روحانيّة بحتة ولا يُلغي يسوع قيمة الجهد والعمل والالتزام الشخصي لتحقيق الأهداف الّتي نرغب فيها. ما يريد يسوع تأكيده هو ضرورة عدم الحياة وكأن الله غير موجود، وعدم الحياة بأنانيّة ومرجعيّة ذاتية. يؤكد يسوع أن قيمة حياة الإنسان، مهما فعل، لا تكمن في إنجازاته ونجاحاته، بل في قيمة أعظم بكثير يضمنها الله فقط وليس نحن.

 

 

3. الـميراث غايّة أم وسيلة؟ (لو 12: 13)

 

الغنى، من الـموضوعات الّتي لها سمة خاصة لدى الإنجيلي لوقا حيث يضع في الـمركز فقر يسوع منذ تجسده (لو 1- 2) بل يسمعنا تعلّيم يسوع ورأيه الصريح في الغنى الـمادي. من خلال مثل الغني الجاهل الّذي يضعه لوقا الإنجيلي على لسان يسوع هو الـمثل الّذي يرغب الإنجيلي أنّ يرتكز من خلاله على مفهومه اللّاهوتي الّذي يشير إلى قيمة ومفهوم الغنى أمام البشر مقارنة بالغنى أمام الله. إذ يضع أمامنا الإنجيلي فكر رجل بشري، وهو رجُلٌ مِنَ الجَمْع، ويُمثلنا جميعًا في تساؤله ليسوع قائلاً: «يا مُعَلِّم، مُرْ أَخي بِأَن يُقاسِمَني الميراث» (لو 12: 13). الـميراث هو بمثابة الغنى الـمادي الّذي لم يتعب فيه الإنسان هو ما يتوارثه عن أبائه وأجداده ويناله بعد انتهاء حياتهم الأرضيّة دون أدنى تعب كما أشار كاتب سفر الجامعة بالعهد الأوّل منا ذكرنا سابقًا. وهنا يتوقف يسوع ليعلن تعليم إلهي جديد من خلال الـمثل وهو الّذي يكشف فيه برسالة تحذيريّة عن عدم الوقوع في فخ الطمع والغنى البشري. مشيراً إلى أنّ الغنى الحقيقي لا يعتمد على مصادر ماديّة بقدر ما يعتمد على نيّة الإنسان في الغنى أمام الرّبّ وليس أمام البشر. يأتينا تعليم يسوع سواء لسائله أم للجمع الغفير الحاضر أمامه وبينهم تلاميذه يشير إلى مجتمعاتنا الحاليّة إذ يوجه يسوع رسالته التحذيريّة من الوقوع في فخ الغنى الزائف! مشيراُ إلى جوهريّة قبول نعمة الله لفهم هذا النص. من المهم أن نضع في اعتبارنا أن لوقا، بصفته مُعلّمًا جيدًا، يُطوّر دائمًا خطابًا شاملًا ومُفصّلًا عند كتابته. لذا، لفهم أي مقطع، من الضروري أنّ يكون لدينا منظور واسع. يُمكننا توسيع نطاق نظرتنا إلى ما يلي هذا المقطع لفهم الرسالة التي يُعزّزها الإنجيلي. يليّ هذا الـمقطع خطابًا ليسوع مقطعًا تحت عنوان قبول نعمة الله. في هذا الخطاب، يدعو يسوع تلاميذه إلى عدم القلق بشأن حياتهم وطعامهم وملابسهم، لأن حياة الإنسان أثمن من الطعام والملابس (راج لو ١٢: ٢٣). لذلك يدعونا يسوع تحديدًا إلى اعتبار الممتلكات المادية كالميراث أو غيره أدوات لا يُمكن اعتبارها غايات أبدًا.

 

 

4. إفساح الـمجال للرّبّ (لو 12: 15)

 

تأتي على مسامعنا كلمات يسوع والّتي هي بمثابة قلب تعليمه من خلال هذا الـمثل بقوله: «تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ» (لو 12: 15). من السهل أن نفهم كيف، في ضوء هذا النص (لو ١٢: ٢٢-٣٢)، يكتسب قوة جديدة. إن الطمّع الذي يُحذَّرنا منه يسوع ليس مجرد مشكلة أخلاقية، بل هو في المقام الأوّل قضيّة لّاهوتية والأنثروبولوجية. الطمع في علاقة المرء بالممتلكات والثروات ليس أمرًا غير أخلاقي فحسب، بل هو المشكلة الأوّلى والأعمق، والّتي تعتمد عليها المشكلة الثانية دون أنّ تُلغى، هي الشعور بالاكتفاء الذاتي. يشير الاكتفاء الذاتي بأن الله لا مكان له ولملكوته في حياة من يُعميهم الجشع والطمع. يؤكد تعليم يسوع بهذا الـمثل محدوديّة الحياة البشريّة، مُستحضرةً صورةً حكيمةً تُعيدنا إلى النص الّذي فسرناه باعلى من سفر الجامعة، عاجلًا أم آجلًا، لا بد أنّ يُعاني الإنسان من محدوديّة حياته البشريّة. في الحياة، قد يحدث هذا بطرقٍ عديدة كالمرض والفقر والفشل. سيُعاني الجميع، حتى الأكثر حظًا، من محدوديةٍ مُطلقةٍ في الموت، مما سيُجبرهم على ترك ممتلكاتهم.

 

إنّ الغنى كقيد بشريّ هو الّذي يدفع بنا إلى الاعتقاد بإمكانيتنا بالتغلب عليه، فقد يكشف الغنى لنا اليّوم بأنّه لا يمكننا أن نستبعد الله من حياتنا. ليس التأكيد على الحاجة إلى الله هو ما يحرمنا من الحرية الكاملة، بل إنّ التأكيد على قيمتنا يتجاوز بكثير مجرد الملابس والطعام والشراب ... إلخ، ليست الضرورة هي الّتي تخنق الإنسان. الله لا يريدنا أنّ نحبه ونسعى إليه لمجرد الضرورة. فعند الله، كلّا منا، رجلّا وامرأة، أثمن من طيور السماء وزنابق الحقل. فنحن محبوبين من الله بغض النظر عن ثروتنا أو مكانتا الاجتماعية أو مواهبنا الفكريّة والمهنيّة. يمكننا القول إنّ هذا الـمثل الإنجيليّ لا يدين الأغنياء وثرواتهم، بل يعلن عن قيمة الرجل والمرأة في نظر الله قيمة جوهرية لا يمكن لأحد أن يسلبها أو ينسبها. يمكننا الآن أن نفهم بشكل أفضل قول يسوع بأنّ: «حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ» (لو ١٢: ١٥). والآن نفهمها تمامًا تُصبح مسألة الخيرات مسألة أخلاقية. في الواقع، حينما نكتشف قيمة الإنسان في نظر الله، ومحدوديته، ومحبته لكلّ إنسان سنُدرك عبثيّة استخدام الخيرات الّتي تتجاهل كل هذا.

 

 

الخلّاصة

 

سواء الحكيم بسفر الجامعة (1: 2. 2: 21-23) سواء تعلّيم يسوع بهذا المثل (لو 12: 13-21) كلا النصييّن يدعونا إلى إفساح المجال لله. إن حل شرّ الطمع لدى المؤمن ليس بالكرم والسخاء، بل بإفساح المجال لله في حياته، لملكوت الله الذي يُبشر به يسوع. من هنا يأتي الاهتمام بإخوتنا ويأتي أيضًا من إفساح المجال لأنفسنا. قد يبدو الأمر متناقضًا، لكن بأخذ عظمتنا على محمل الجد، يُمكننا إنقاذ أنفسنا من سيطرة الأشياء ومن اللامبالاة تجاه الآخرين.

 

مدعووّن للتعرف على إفساح المجال لله في حياتنا، مَن يعرف كيف يُفسح المجال لذاته، سيتمكن حينئذٍ من إفساح المجال للآخرين ولمشاركة خيراته ويتحرر من جهله في الطمع والجشع بل سنتعرف على أنّ قيمة حياتنا ليست مُهددة، بل محميّة من قِبل الآخرين ومن قِبل الله. دُمتم في الاغتناء بالرّبّ تاركين مجالاً ليعمل فينا وليس للماديّات، فبحياتنا ليست فيما نمتلكه بقدر ما هي في علاقتنا بالله الّذي ينظر لنا بعين الآب.