موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٣ مايو / أيار ٢٠٢٥

"السُكنى الإلهيّة" بين كاتبي سفر المزامير والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 66؛ يو 14: 23-29)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 66؛ يو 14: 23-29)

 

الأحدُ السادس من زمن القيامة الـمجيدة (ج)

 

مُقدّمة 

 

في هذا الأحد السادس بزّمن القيامة والّذي نحتفل فيه بإحدى ثمار الفصح في حياتنا ككنيسة وفي حياة البشريّة. ففي قرأتنا لنصيّ فيما بين العهديّن نتوقف بالتحديد أمام مضمون كتابي جديد وهو "السُكنى الإلهيّة" الّتي رافقت تاريخ البشريّة منذ عهده مع البطاركة. ففي نص العهد الأوّل من خلال كلمات الـمزمور 66 حيث يدعونا الكاتب بالإنتباه لهذه السُكنى من خلال بركة الرّبّ، فهو مصدر كلّ البركات، الّتي يمطرها علينا وهو يتنعم بسكناه بيننا. من وجوه هذا الحضور والسّكنى الإلهييّن هي البركة كوعد أوّل الّذي بسخاء الرّبّ الإله ضمّن إتمّام كلّ وعوده لنا. وعلى هذا الـمنوال مدعويّن لقراءة النص اليوحنّاوي (يو 14: 23- 29) بناء على الخلفيّة الطقسيّة لهذا الزّمن الليتورجيّ وهي قيامة يسوع الّذي كشف عن سُكنى الآب وحقّق كلّ وعوده فيه. يسوع هو الوجه الّذي كشف عن سُكنى الآب. الابن القائم هو الّذي يساعدنا لنفهم بأصّالة مفتاح كلا القرأتين على ضوء قيامته. نهدف من خلال هذا الـمقال بتذكيرنا السُكنى الإلهيّة، فنحن لسنا بمفردنا وعلينا إحياء البركات الّتي يغمرنا بها السيّد الرّبّ والتعرف على يده الإلهيّة الّتي نكتشف بها سُكناه فينا.

 

 

1. إستلهام الرحمة والبركة (مز  66 "67")

 

يستلهم كاتب السفر الحكميّ، وهو سفر الـمزامير، في هذا النشيد الرحمة والبركة الإلهييّن كشكل من أشكال سُكنى الله بيننا كبشر. لا يتردد الـمُتعبد بالـمزمور للرّبّ في طلبهما لكلّ البشريّة قائلاً: «لِيَرحَمْنا اللهُ وليبارِكْنا وليضِئ بِوَجهِه علَينا! [...] الأرضُ أَعطَت غلّتَها فليبارِكْنا اللهُ إلهُنا لِيُبارِكْنا الله ولتخشَه أقاصي الأرضِ جَميعُها!» (مز 66: 2. 7- 8). إستلهام البركة الّتي يغمرنا الرّبّ بها كخلائقه علامة تُذكرنا كبشر برغبة الله بالسُكنى معنا، وبوعده بالبركة منذ زمن إبراهيم (راج تك 12: 1-3). وهنا يُجدد الـمُرنم بالـمزمور بأنّ كلّ ما نحياه ليس لنا أيّ فضل ولا إستحقاق بل هو من فضل إتمّام هذه السُكنى الّتي تُحقّق الوعود الإلهيّة ببركة الرّبّ لنا بحياتنا. وفرحنا كشعوب اليّوم ليس بنجاح أعمالنا بقدر ما علينا أنّ نستمر في التسبيح والشكر للرّبّ الّذي لازال يباركنا وينعم علينا برحمته مباركًا حياتنا وأعمالنا. إذن الإستمرار بالإعتراف بروح الشكر للرّبّ وبأعماله هو ما يدعونا إليه هذا الـمزمور ليس طمعًا في بركاته ورحمته بل حبًا في كل إحسناته علينا. هذا الحبّ الّذي يعتبر الطريقة الّتي نعلن بها تعلّقنا بالرّبّ الساكن بيننا وتمسكنا به كإله ورّبّ حياتنا هو النقطة الّتي تساعدنا لقراءة كلمات يسوع بحسب يوحنّا في نص العهد الثاني فهو وجه الآب الّذي سكن بيننا (راج يو 1: 14).

 

 

2. السُكنى الإلهيّة (يو 14: 23- 29)

 

منذ الإصحاح الـ 13 إفتتح الإنجيليّ خطاب يسوع الوداعي لتلاميذه ويستمر هذا الخطاب حتى الإصحاح الـ 17، والّذي بنبرة حبّ نقرأ ونصغي لكلمات يسوع القائم والّذي نقرأ بعض من خطابه على ضوء سرّه الفصحيّ، إذ ترك ميراثه لنا كاشفًا عن جوهر تجسده وإعلان ما نعيشه الآن إذ يعلم بضعفنا وهشاشتنا لـما سنعيشه مستقبلاً، فتأتي كلماته كسلاح، موضحًا: «كُلَّ شيءٍ سأَلتُم بِاسْمي أَعمَلُه لِكَي يُمَجَّدَ الآبُ في الِابْنإِذا سَأَلتُموني شَيئاً بِاسمي، فإِنِّي أَعمَلُه» (يو 14: 13- 14). فلنطلب بدون خجل أنّ يتمجد الآب في حياتنا باسم يسوع، فتستمر أعماله الإعجازية فينا ولأجلنا وطاعة لكلمته برّوح الثقة في وعده الّذي سيتممه حتى وإنّ كان مستحيلاً علينا، إلّا إنّه مضمون وغير مستحيل لديه. وبهذه الرّوح البنويّة يهيئنا الابن لقبول السُكنى الإلهيّة فيّ وفيك.

 

يبدأ هذا المقطع الإنجيلي والمأخوذ، كما نوهنا، من خطاب وداع يسوع بحسب إنجيل يوحنّا، بتصريح من يسوع يعلن فيه عن وقت مستقبليّ، في هذا النص نعيش زمن ما قبل آلامه وقيامته (راج يو 14: 28- 29)، حيث سيصبح التلاميذ بمثابة الـمـُقام أي المكان الّذي سيلتقي فيه يسوع والآب. سوف يجعلون كلاً منا مكانًا لإقامتهما (كمنزل لهم) بشكل فرديّ. حيث لا نتحدث هنا عن التلاميذ كجماعة، وهذا هو الحال بالنسبة ليوحنّا ولكن نتحدث عن التلميذ الفرديّ. إذ سوف يقيما يسوع والآب مع كلّا منا كتلميذ بشكل فرديّ. إنّنا نفكر فينا ككنيسة، وكجماعة التلاميذ، باعتبارها مكان لحضور الله. ولكن يوحنا يتحدث إلينا، دون أنّ ينكر هذا الواقع، مُشيراً إلى البعد الشخصي للعلاقة بين التلميذ الفرديّ ويسوع.

 

إنّ سُكنى يسوع والآب مع تلميذ يسوع موصوفة بحسب تعبير الإنجيليّ بشكليّن الأوّل، مستخدمًا طريقة التعريف حيث يقول: «إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً [سُكنى]» (يو 14: 23). ثم يكررها ثانيّة مستخدمًا الطريقة النكرة قائلاً: «ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني» (يو 14: 24).

 

يؤكد الإنجيليّ من خلال سُكنى الإله في التلميذ، سيكون هناك وقت، مرة أخرى ليس في نهاية التاريخ ولكن داخل تاريخنا، حيث يمكن أنّ يتحقق تواصل جديد بين الله والبشريّة. إنّ هذه الإمكانيّة الجديدة للشركة وللسُكني تتمّ من خلال التعلّق بيسوع. ويعدد إنجيل يوحنا المراحل الّتي يمكن أنّ تقودنا إلى عيش حياة الشركة هنا والآن، وهذا هو الهدف الّذي هيأه الله للبشريّة منذ تأسيس العالم.

 

2.1. دعوتنا للحبّ (يو 14: 23- 24)

 

هناك بعض النقاط اللّاهوتيّة الّتي يشير علينا بها الإنجيلي من خلال الكلمات الّتي وضعها على لسان يسوع. ففي النقطة الأولى مدعو كلّا منا ليحبّ يسوع بشكل فردي: «إذا أَحَبَّني أَحَد» (يو 14: 23). إنّ هذا الإعلان الأوّل، من يسوع، يُخبرنا بأنّ كلّا منا يستطيع أنّ يعيش ما ينتظره من اكتمال تاريخه، على أساس تعلّقه بيسوع بحريّة تامة. وهو تعلّق لا يقتصر على كونه فرداً في مؤسسة كنسيّة، وكونه عضواً أساسيًا في جماعة يسوع، بل أكثر من ذلك بكثير، أي إنّه يلتزم ليعيش معه وفقاً لنفس منطق حياته ويعتنق مبادئه، فنصبح أنا وأنت سرّاً من أسرّار حبه لإنسانيّتنا في مجتمعنا. فالخطوة الأوّلى هي العلاقة الحميمة مع يسوع وهي قبول كلاً منا حبّه بشكل شخصي. وهذا يعني مشاركة كلّ مؤمن في رسالة وهدف حياة يسوع. الحبّ هنا ليس مجرد حقيقة عاطفية، بل يدل على التعلّق بشخص، والمعرفة العميقة، والرباط الّذي يربطنا به. إذن مدعويّن، بشكل شخصيّ أنّ نقبل إقامة الآب والابن بحياتنا بتبادلنا هذا الحبّ بشكل شخصيّ.

 

2.2. حفظ الكلمة (يو 14: 24)

 

بالنسبة للنقطة الثانيّة وهي تتمثل في الإستماع بإنتباه إلى كلمة الشخص الإلهي وهو الّذي نحبه: «ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي» (يو 14: 24). من الطبيعي أنّ تكون هذه الخطوة الثانيّة، حيث أنّ نستمع فقط إلى أولئك الّذين نحبهم وخاصة أولئك الّذين نشعر بإنّهم يحبوننا. بعد عبور الرّبّ بسرّه الفصحي، أدركنا كتلاميذ أنّ يسوع كشخص أحبّنا مجانّا لدرجة إنّه بذل حياته من أجل خلاصنا. فهو رحيم وأمين. إنّ سُكنى الإلهي في البشري من خلال التمسك بيسوع تتحقق من خلال الإستماع إلى كلمته وحفظها. ولهذا السبب لا يستطيع تلميذ يسوع إلا أنّ يستمر في الإصغاء لكلمة الله بكافة الأشكال الـمختلفة والّتي يتم التواصل بها وخاصة من خلال قراءة الكتب الـمقدسة.

 

في مسيرة إصغائنا مع الرّبّ والّذي لا يهدف إلى زيادة المعرفة العقلانيّة، بقدر الإحتياج لتقويّة علاقة وحياة الشركة بالرّبّ والّتي هي بمثابة شرط أساسيّ في علاقة حقيقية بين الإلهيّ والبشريّ. ولهذا السبب فإنّ إستخدام الإنجيليّ لفعل يحفظ له الكثير من الأهميّة الكبرى من إستخدام فعل يراقب بحسب اللّاهوت اليوحناوي.

 

2.3. رضا الآب (يو 14: 25)

 

وفي النقطة اللّاهوتيّة الثالثة نلاحظ أنّ مسيرة كلاً منا الرّوحيّة تعتمد على تبادل حبّه لله الآب ترتبط بـمَن منا يتمكن من حبّ الابن والإستماع إليه. ولكن هذا لا يعني أنّ حبّ الله لأي منا مرتبط فقط بمراعاة وصاياه الإلهيّة، وليست حتى مشروطة بحبّه للآخر. بل نتحدث عن الحب ّكما نتحدث عن رضا الآب بإبنه يسوع وقت إعتماده بنهر الإردن. فالّذي يلتصق منا بالمسيح ويستمع إلى كلمته يصبح مُشاركاً حقيقيًا في حدث معموديّة يسوع الّذي أعلن الآب فيها مسرته بابنه (راج مر 1:11). إنّ رضا الآب عن يسوع ابنه عند قبوله رسالته الـمسيّانيّة هو بمثابة إعلانًا ظاهراً لوجه الإنسان وفقاً لخطة الله الأصلية. وهكذا يصبح الإنسان الّذي يتعلق بشكل شخصي بيسوع ويحفظ كلمته مشاركاً تجربته ينال رضا الآب عنه ويفرح لأنّه يرى على وجهه وجه الابن وتحقيق خطته الأصليّة للبشريّة بشكل جماعيّ، وتحقيق الدعوة الأصلية لكلّ بشريّ بشكل شخصي. وبهذا المنظلق يختتم يسوع في هذا الـمقطع كلامه قائلاً: «والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ [...] لان الآبَ أَعظَمُ مِنِّي» (يو 14: 24. 29). فكما كان يسوع كلمة الآب الـمتجسدة والـمنطوقة عاملاً بكلّ ما أوصاه الآب، هكذا مدعويّن أن نصير أبناء لله في يسوع الابن بحبّه أي بنوال رضاه.

 

 

الخلّاصة

 

تناولنا في موضوع مقالنا اليّوم عنوانًا جديداً وهو "السُكنى الإلهيّة". حيث تعمقنا كمرحلة أوّلى في سُكنى الرّبّ وسط شعبه بالقدم من خلال كلمات الـمزمور الـ 66 الّذي كشف عن بركات الرّبّ لشعبه كعلامة لهذا الحضور الإلهي في التاريخ البشري. وبناء على هذه السُكنى الإلهيّة العتيقة والّتي تلمس قلب تاريخنا البشريّ حتى الآن، ناقشنا في مرحلة أخرى الوجه الّذي خرج من الآب ليكشف عن هذه السُكنى بشكل مُكمل لخطته الإلهيّة، وهو يسوع في التاريخ. حيث بكلمات كاتب الإنجيل الرابع (14: 23- 29) كشف لنا يسوع عن كلمات مفتاح جوهريّة وهي علاقة التعلق بالابن الّذي كشف عن سُكنى أبيه، ثم حفظ الكلمة لأنّها تجعل تواصل بين دور الآب الساكن بيننا والابن الّذي تجسد حبًا وطاعة في الآب.  كلّ هذا يجعلنا نتمتع برضا الآب لأننا على خطى الابن نسير برّوح شكر بنويّة لإختيارنا موضع لسُكنى الآب والابن معًا بسبب إدراكنا بأنّ رضا الآب عن يسوع هو بداية عن رضاه لنا أيضًا. مدعوين بالتعمق في العلاقة الشخصية والحميمة بالآب، فأينما تواصلنا بالآب تواصلنا بالابن وبالرّوح القدس في ذات الوقت. دُمنا موضع لُسكنى الآب دائماً.