موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
"عيد العنصرة" زمن القيامة الـمجيدة (ج)
مُقدّمة
تمنح قراءاتنا الكتابيّة الإسبوعيّة، فيما بين العهديّن من خلال بعض من آيات مزمور 103، وبعض من الآيات بحسب إنجيل يوحنّا (14: 15- 26)، تجديد لإيماننا للعيش بحداثة وبرّوح متجددة ما نعيشه في هذه الأيام. وها نحن نحتفل في هذا الأسبوع بــ "عيد العنصرة" الّذي هو بمثابة الخطوة الثانيّة، بعد إحتفالنا الأسبوع الـماضي بعيد صعود الرّبّ كخطوة أوّلى، كإكتمال وإتمّام قيامة الرّبّ من بين الأموات. لكن ماذا يعني هذا التعبير "إكتمال قيامة الرّبّ"؟ من الـمؤكد أنّ اكتمال عيد الفصح هو في نعمة الرّوح القدس، الّذي هو نعمة النعم الإلهيّة. ولكننا مدعوين اليّوم للبحث عن إجابة لبعض التساؤلات مثل: نوعيّة العلاقة بين نعمة الرّوح وسرّ الآم وموت يسوع وقيامته. وأيضًا ماذا يعني لنا اليوم أنّ عيد الفصح قد تحقق في عطية الرّوح؟ قراءاتنا الـمختارة اليّوم والمأخوذة من الليتورجية الأسبوعيّة ستقودنا لإكتشاف بعض الإجابات والـميزات لأهميّة الرّوح القدس الـمركزيّة في إيماننا الـمسيحي.
تفكيرنا في عيد العنصرة كإحتفال بإتمام عيد الفصح بإعتباره إحتفالًا مخصصًا للرّوح القدس هو منظور غريب، فالليتورجية لا تحتفل بالأفكار أو الأشخاص، بل بالأحداث الخلّاصيّة الّتي يعمل فيها إلهنا الثالوثيّ ويجعل نفسه حاضرًا في التاريخ. تكشف إحتفالاتنا في الثلاثيّة المقدسة وفي زمن القيامة عن إكتمال الحضور الإلهيّ في عيد العنصرة. قراءتنا بهذا الـمقال أغنى بكثير، حيث تفتح لنا آفاقًا واسعة، قادرة على إلقاء ضوء جديد على حياتنا، وعلى حياة الكنيسة والإنسانيّة. سنناقش كيف أنّ العنصرة هي نعمة إكتمال الفصح الّتي تمسّنَا لأنّها تكشف بلوغ يسوع إكتمال عبوره وسرّه الخلاصيّ لبشريتنا. هذا الـمنظور يأخذنا إلى تاريخ شعب إسرائيل، الّذي يحتفل بعد خمسين يومًا من عيد الفصح بعيد الأسابيع لمنح الشريعة من الرّبّ وإعلان الأنبياء الّذين إنتظروا وقت إتمام حلول الرّوح القدس على كل بشر (راج يؤ 3: 1؛ أع 2: 1ت).
1. الرّوح وتجديد وجه الأرض (مز 103 "104")
من أعظم صور علاقة الإنسان بالله هي الحمد والتسبيح للرّبّ. بهذا السلوك الّذي ينمّ عن إعتراف كاتب سفر الـمزامير والّذي يمثلنا جميعًا هو التسبيح لإلهنا قائلاً: »بارِكي الرَّبَّ يا نَفْسي أَيّها الرَّبُّ إِلهي لقد عَظُمتَ جِدًّا تَسَربَلتَ البَهاءَ والجَلال أَنتَ الـمُلتَحِفُ بِالنُّورِ كرِداء الباسِطُ السَّماءَ كالسِّتارة البانِي عُلّيَاتِه على المِياه الجاعِلُ الغَمَامَ مَركَبَةً لَه السَّائِرُ على أَجنِحَةِ الرِّياح« (مز 103: 1- 3). تشمل الصور الّتي تظهر أعمال رّوح الله بحسب وصف كاتب سفر الـمزامير التسربل بالبهاء، الإلتحاف بالنّور، الباسط السماء كالستارة، والغمام مركبته. كل هذه الإستعارات الّتي تصف قدرة الرّبّ الإله، تكشف عن بدء عمله منذ القِدم بقوّة رّوحه القدوس كالبلّسم الأوّل للعمل في العالم بتجديد وجه الأرض. لذا مدعويّن لتسبيح الرّبّ في أعماله العجائبية الّتي تفوق كل عقل.
يستمر الكاتب بوصف دقيق لعمل الله من خلال رّوحه القدوس بعالمنا مُعلنًا:» تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض. لِيَكُنْ مَجدُ الرَّبِّ لِلأبد لِيَفرَحِ الرَّبُّ بأَعْمالِه« (مز 103: 30- 31). الرّوح الّذي يرسله الله هو الّذي يعطي وجهًا متجدداً لأرضنا وهذا بسبب رغبة الله في تجديدنا كخلائق تحيا بفضل عمل الرّوح القدس وليس بأي فضل بشري. فإذ لم يوجد الرّوح لا حياة متجددة لبشريتنا بل يعم الجفاف واليبس وهو ما لا يريده الله. مدعوين أنّ ندعو الرّوح ليجددنا ما بدأه من زرع بعمل الرّوح الله فينا بحسب مخططه. وهذا ما يستمر بحسب قرائتنا حيث توقفنا أمام الرّوح الّذي يجدد وجه الأرض ولكنه يكتمل في شخص يسوع كالبلّسم النهائي للرّوح.
2. العنصرة هي إكتمال الفصح (يو 14: 15-16. 23-26)
يعلن يسوع بحسب إنجيل يوحنّا، لتلاميذه أنّ الرّوح لا يستطيع أنّ يأتي إليهم حتى يذهب هو. يعلمنا الإنجيلي لاحقًا بقول يسوع: »غَيرَ أَنِّي أَقولُ لَكُمُ الحَقّ: إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ الـمُؤيِّد» (يو 16: 7). أنّ نعمة الرّوح مُرتبطة بفصح يسوع، بموته وقيامته. قبل هذا الحدث، لا يمكننا نوّال الرّوح كتلاميذه، ولا يمكن تحقيق تلك النعمة الّتي كانت تنتظر تحقيق وعود الله. أنّ الرّوح القدس له علاقة برسالة يسوع الفدائيّة من خلال سرّ عبوره الفصحيّ بشكل خاص. يصير الرّوح القدس هو قلب العلاقة الجديدة بين يسوع وبيننا بعد أحداث موته وقيامته. وهذه العلاقة الجديدة هي أيضًا الشرط لشركتنا مع الله الآب من خلال يسوع. لذا يكشف اللّأهوت اليوحنّاوي على أنّ مُهمة الرّوح القدس تجانا كتلاميذه ستكون بالكامل بالإشارة إلى تعليم يسوع، فهو سيعلمنا كلّ شيء ويُذكرنا بكل ما علّمه إيانا يسوع. يشير يسوع في موضع آخر بحسب يوحنّا بأنّ الرّوح القدس سيرشدنا نحن تلاميذه إلى الحقّ كله (راج يو 16: 13)، ولكننا نعلم أنّ "الحقّ" في الإنجيل الرابع هو يسوع نفسه (راج يو 14: 7). ولذلك يمكننا التأكيد بأنّ مُهمة الرّوح القدس الجوهريّة هي إرشادنا إلى ملء يسوع، أي أنّ يقودنا إلى الإلتزام الكامل بمعلمنا وإلهنا، ويذكرنا بكلماته بل بسرّه الخلّاصيّ. لذا بعد الرّوح لن ننتظر آخر والسبب هو طلب يسوع من الآب لأجلنا: »وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد« (يو 14: 15- 16). إذن الرّوح هو بمثابة إكتمال وختم الأعياد الفصحيّة.
3. بَلّسَمُ الرّوحُ القُدسْ (يو 14: 23-26)
أخبرنا قبلاً يوحنّا الإنجيليّ بأنّ الرّوح القدس لا يفعل شيئًا بشكل مستقل بلّ أنّ كلّ أفعاله مرتبطة بيسوع (راج يو 16: 13-14). أنّ عمل الرّوح القدس تجاه التلاميذ، نحن اليّوم، الّذين يُعطى لهم، ينعكس بالكامل على يسوع. فهو يجعلنا تلاميذًا حقيقيين، ويكتب كلمات الـمعلّم في قلوبنا، بل يرسم وجهه فينا. ومن هذه الحقيقة نفهم قوة العلاقة بين الرّوح القدس ويسوع فهو بمثابة حضور جديد ليسوع بين تلاميذه فالرّوح هو الـ "مقام" أي مكان الّذي يسكن بالقرب منا وفينا، لم يعد حضوراً خارجيًا بعد بل حضوراً داخليًا:» إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً« (يو 14: 23). وهنا نقدم لكم صورة البلّسم، كدور جوهري للرّوح القدس باطنيّا، فهو الّذي يعطي مرونة وجمال للوجه البشريّ، ولكن حينما يلمس بلّسم الرّوح قلوبنا يضيف حيويّة وشباب بل نضارة روحيّة تجعلنا نُحيي وجه الـمسيح فينا.
بفضل عطيّة الرّوح القدس، يمكن لفصح يسوع أنّ يجد إكتماله في حياتنا كتلاميذ له، وللأبد، متى تركنا مجالاً له كبلّسم يغمرنا ويترك أثره الطيب فينا. هذا هو الهدف الحقيقي لأعيادنا الفصحيّة. ولهذا السبب يمكننا القول أيضًا بأنّ عيد العنصرة هو بمثالة بلّسم الرّوح القدس الّذي نلناه بأسرار الـمعموديّة والتثبيت واليّوم يتجدد كإحتفال بإكتمال عيد الفصح. وليس فقط لأنّ عطية الرّوح القدس في الكتاب المقدس تمثل العطيّة المنتظرة لوقت التحقيق، بل لأنّ هذا التحقيق يتلخص في جعلنا تلاميذ قادريّن على جعل فصح يسوع خاصتنا وجوهريّ في وجودنا الـملموس بشريًا.
من جانب آخر تكشف لنا قراءات النص اليوحنّاوي الإتجاهات الّتي يتم فيها التحقيق الفصح من خلال بلّسم الرّوح القدس كإمكانيات جديدة يمكن أنّ يولدها فقط الرّوح القدس فينا كتلاميذ ليسوع. من المؤكد أنّ تتويج وإكتمال أعيادنا الفصحيّة بنعمة الرّوح القدس، الّذي هو عطية الله بإمتياز. يساعدنا لنستجيب عن وجه العلاقة بين عطية الرّوح وسرّ الآم وموت يسوع وقيامته وكيفيّة تحقيق الفصح في عطية الرّوح القدس لنا. هذا ما نكتشفه من خلال قول يسوع بحسب إنجيل يوحنّا القائل: »قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم ولكِنَّ الـمُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم« (يو 14: 25- 26). يحدثنا يسوع عن عطية الرّوح القدس في إشارة إلى فصحه وشخصه. أولاً، يُعطينا الآب الرّوح القدس بعد فصح الابن. في ذات النص الـمأخوذ من نفس خطاب الوداع، بحسب يوحنّا، أعلن يسوع عن الجديد: «يا أَبتِ [...] يا أَبتِ البارّ«. (يو 17: 1. 25).
الجديد يتعلق في علاقتنا نحن مع الله كآب، حيث شدّد الإنجيليّ على فعل الرّوح بالإشارة إلى المسيح الابن. بالإضافة إلى ذلك فأنّ عمل الرّوح يخلق أيضًا جديدًا في العلاقة مع الله. لكن هذا الجديد لا يختلف عن العلاقة بين المسيح والرّوح القدس ونحن كـمؤمنين. في الواقع، من يُعطى له الرّوح يُدعى ابنًا، كما أنّ المسيح هو الابن. كما أشرنا قبلاً بأنّ الآب ويسوع سوف "يجعلان مقامهما" مع التلميذ أي أنا وأنت. الجديد هو أنّ أنّ ننادي الله أبًا لنا أيضًا باسم يسوع الابن بالطبيعة، الّذي يتعرفه الآب على شفاهنا بفضل عمل الرّوح القدس فينا الّذي يجعل صورة ابنه مطبوعة فينا بعمل الرّوح. بالتالي، فهي علاقة جديدة مع الله كأبناء في الابن (راج يو 15). يبطل هذا الكشف الجديد كل صورة مُشوهة عن الله. ومن هذا النص تظهر أصدق صورة للصّلاة المسيحية، وهي الصّلاة إلى الآب، من خلال المسيح، في الرّوح!
الخلّاصة
تناولنا بمقالنا اليّوم، نصين حيث بالعهد الأوّل من خلال بعض آيات الـمزمور 103 رأينا كيف كان عمل الرّوح منذ البدء بصور كثيرة كالغمام، التّي تُسربل بالبهاء الحضور الإلهي بل ويجدد وجه أرضنا البشريّة فيمنحها نضارة وحضور الله يسود عليها بقوّة روحه فينا. وإكتمالاً لهذا المنطق تعمقنا في بعض من آيات بحسب يوحنّا (14: 14- 15؛ 23- 26) حيث رأينا كيف أنّ الرّوح القدس الّذي نلناه منذ معموديتنا في العنصرة كإكتمال للفصح يصبح الختم الأبدي لحبّ الله الآب لبشريتنا فيضيف بلّسمه النهائي بلمسة الرّوح الّذي يجدد عمل يسوع الخلاصيّ بباطن كلّ مَن يؤمن به. دُمتم في تعاون مع رّوح الله في الـمسيح مُتمم الخلاص وليكن الرّوح مَقامًا وبلّسمًا أبديًا يُنعش نضارة الحضور الإلهيّ بباطننا، كنساء ورجال، فينا للأبد. عيد عنصرة مبارك