موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في مسيرة الإيمان، كثيرًا ما تتحول المحن إلى منارات للنعمة، وتصبح الأوقات العصيبة فرصًا للنمو الروحي. ففي الأيام التي تلت استشهاد القديس إسطفانوس، تشتت المؤمنون بسبب الاضطهاد، لكن هذا التشتت لم يكن نهاية، بل بداية لانتشار البشارة. كما ورد في سفر أعمال الرسل: "وأَمَّا الَّذينَ تَشَتَّتوا بِسَبَبِ الضِّيقِ الَّذي وَقَعَ بِشَأْنِ إِسطِفانُس، فإِنَّهُمُ ٱنتَقَلوا إِلى فِينيقيةَ وقُبرُسَ وأَنطاكية، لا يُكَلِّمونَ أَحَدًا بِكَلِمَةِ اللهِ إِلَّا اليَهود" (أعمال 11: 19).
ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على اليهود، بل بدأ بعض المؤمنين من قبرص وقيرينيه يبشرون اليونانيين أيضًا، معلنين البشارة بالرب يسوع. ’’وكانت يَدُ الرَّبِّ معَهم فآمَن منهُم عَدَدٌ كثير فَٱهتَدَوا إِلى الرَّبّ‘‘ (أعمال 11: 21).
هذا التوسع المفاجئ في الرسالة لم يكن مجرد نتيجة للظروف، بل كان جزءًا من التدبير الإلهي الخلاصي. فكما قال ترتليانوس: ’’دماء الشهداء هي بذور المسيحيين‘‘. فالاضطهاد الذي كان يُراد به إخماد الإيمان، أصبح وسيلة لنموه وانتشاره.
فسلطان الله فوق كل الظروف وهو قادر على تحويل الألم الضيق إلى فرصة ورجاء، والمعاناة إلى وسيلة لتحقيق مشروعه الخلاصية.
’’ وفي أَنطاكِيةَ دُعيَ التَّلاميذُ أَوَّلَ مَرَّةٍ مَسيحِيِّين‘‘ (أع 11: 26). في مدينة أنطاكية، حيث التقت الثقافة الشرقية بالغربية، وُلد اسمٌ جديد لأولئك الذين تبعوا المسيح يسوع: "مسيحيون". لم يكن هذا اللقب مجرد تسمية، بل كان إعلانًا عن هوية جديدة، عن ولادة جماعة تشهد للرب القائم، لا بالكلام فقط، بل بالحياة والموت، بالحب والتضحية.
بعد أن اجتاز التلاميذ أزمة الألم وانهيار التوقعات، وتذوقوا مرارة الحزن والخوف، واعتكفوا خلف أبواب مغلقة من الحيرة والارتباك، أضاءت نار الروح القدس أعماقهم، وأيقظت فيهم شجاعة الشهادة وبهاء الرجاء. لم يعودوا مجرد أتباع لمعلم رحل، بل أصبحوا الجسد الحي للقائم من بين الأموات، يشفّون بوجودهم عن وجهه، وينقلون بصمتهم صدى كلمته، ويعيشون في حضرة العالم حياة البنوة لله والأخوّة الصادقة بين البشر.
يقول القديس أوغسطينوس: "لقد ظهر الرب لتلاميذه بعد قيامته وحيّاهم قائلًا: السلام لكم. هذا هو السلام الحقيقي وتحية الخلاص. إذ التحية تأخذ اسمها من الخلاص، وأي شيء أفضل من أن الخلاص ذاته (المسيح) يحيي البشرية‘‘.
إن تسميتهم ’’مسيحيين‘‘ لم تكن مجرّد لقب عابر، بل كانت لحظة فاصلة في التاريخ الروحي للبشرية، وخطوة وعي جديدة في ضمير الجماعة الأولى. فهذه التسمية لم تأتِ من الداخل فقط، بل عرفهم العالم من خلالها: قومٌ يسكنهم المسيح، ويتكلم عنهم الإنجيل، ويتنفسون بالروح الذي أقامه من الموت.
منذ تلك اللحظة، أدرك التلاميذ أن اتباعهم للمسيح ليس تقليدًا ولا انتماءً اجتماعيًا ، ليس مجرد طقس خارجي يميزهم أو تكرارٍ لأفعال معلّم رحل، بل صار اندماجاً سرياً في سر العلاقة بين الآب والابن. فالمسيحي، في جوهره، هو ذاك الذي يسمع الصوت، ويُعرف من قِبل المسيح، ويتبعه بمحبة وثقة، كما قال الرب: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، وهي تتبعني" (يو 10: 27).
ويضيف القديس أوغسطينوس: ’’وهكذا دخل الإيمان قلوبهم عن طريق الحواس لكي يكرز بهذا الإيمان فيما بعد للعالم أجمع‘‘، فجميع الذين لم يروا ولم يلمسوا المسيح أصبحوا يرونه فيهم، فآمنوا من دون تردد. ’’ وكانت يَدُ الرَّبِّ معَهم فآمَن منهُم عَدَدٌ كثير فَٱهتَدَوا إِلى الرَّبّ‘‘(اع 11، 21).
هكذا يصبح حضور المسيحي شهادة حية، وصوته صدى لصوت الراعي، وحياته دعوة مفتوحة للقاء مع القائم من بين الأموات، الذي ما زال يدعو كل خروف باسمه ليمنحه حياة وفيرة.