موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٥ مايو / أيار ٢٠٢٥

قراءة في كلمة البابا لاون الرابع عشر إلى المشاركين في يوبيل الكنائس الشرقية

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - إيطاليا
لقاء البابا لاون الرابع عشر مع المشاركين في يوبيل الكنائس الشرقية، 14 أيّار2025

لقاء البابا لاون الرابع عشر مع المشاركين في يوبيل الكنائس الشرقية، 14 أيّار2025

 

في مستهلّ حبريته، وجّه البابا لاون الرابع عشر خطابًا مؤثّرًا إلى مؤمني الكنائس الشرقية، مستهلاً إياه بالتحية الفصحية الإيمانية: ’’المسيح قام! حقًا قام!‘‘ هذه الكلمات، المتجذّرة في التراث الروحي للشرق المسيحي، ليست مجرد تحية تقليدية، او موسمية، بل إعلان جوهري عن الإيمان والرجاء المسيحيين، خاصة في زمن القيامة.

 

أعرب البابا عن سعادته بلقاء المؤمنين الشرقيين في روما، معتبرًا هذا اللقاء من أوائل مبادراته البابوية، ما يعكس التقدير العميق الذي يكنّه للكنائس الشرقية. وأشار إلى تنوّع أصولهم، وتاريخهم المجيد، والمعاناة التي تكبّدتها جماعاتهم، مؤكدًا أن الكنيسة الجامعة تعترف بقيمة هذا التراث وتقدّره.

 

استشهد البابا بكلمات سلفه، البابا فرنسيس، الذي وصف الكنائس الشرقية بأنها ’’كنائس يجب أن نُحبَّها‘‘، لما تحمله من تقاليد روحية غنية بالحكمة، ولها الكثير لتقوله عن الحياة المسيحية، والمسكونية، والليتورجيا. مستذكراً تنوع أصول الحاضرين، وما تحمله من غنى تقليدي وتاريخي وروحي.  لم يكن مجرد افتتاح مجاملة، بل إقراراً بأن الشرق المسيحي ليس مجرد جزء من الكنيسة الجامعة، بل هو أحد أعمدتها الأصيلة، وإن تباينت الطقوس وتعددت التقاليد، فإن الجذور واحدة، والمسيح رأس الجميع.

 

كما أشار إلى رسالة البابا لاوُن الثالث عشر "كرامة الشرقيين" (Orientalium dignitas) الصادرة عام 1894، والتي أكدت على أهمية الحفاظ على تنوّع الليتورجيات والنظم والقواعد الشرقية، معتبرًا أن هذا التنوع يعود بمجد ونفع كبير على الكنيسة الجامعة.

 

أعرب البابا عن قلقه من التحديات التي تواجهها الجماعات الشرقية في الشتات، حيث يُجبر العديد منهم على الفرار من أراضيهم الأصلية بسبب الحروب والاضطهادات، ما يهدد بفقدان هويتهم الدينية بالإضافة إلى أوطانهم. وأكد أن الكنيسة الكاثوليكية ملتزمة بالحفاظ على هذا التراث الثمين، ودعم الجماعات الشرقية في الحفاظ على تقاليدهم وهويتهم الروحية. ثم لفت قداسته النظر إلى الآلام الجسيمة التي كابدتها الكنائس الشرقية: من الاضطهادات القاسية، إلى الحروب المدمّرة، إلى الشتات القسري، حتى صار العديد من أبناء هذه الكنائس في بلدان الاغتراب يواجهون خطرًا مضاعفًا: فقدان الأرض والهوية معًا. وفي هذه العبارة دعوة مبطنة للعالم الغربي أن يستفيق من لامبالاته، وأن يدرك أن تهجير المسيحيين الشرقيين ليس مجرد قضية إنسانية، بل خسارة غنى ليتورجي ولاهوتي ونسكي للكنيسة جمعاء.

 

في هذا السياق، دعا البابا إلى تعزيز الوعي بين المؤمنين اللاتين بأهمية الكنائس الشرقية، والعمل على إقامة مقاطعات كنسية شرقية حيثما كان ذلك ممكنًا أو مناسبًا. وطلب من دائرة الكنائس الشرقية مساعدته في تحديد المبادئ والمعايير التي يمكن من خلالها للرعاة اللاتين دعم الكاثوليك الشرقيين في الشتات، لضمان بقاء تقاليدهم حية، ولإغناء البيئة التي يعيشون فيها بفضل خصوصياتهم.

 

ثم شدد الحبر الأعظم على واجب الحفاظ على هذا التراث الفريد لا سيما في أرض الشتات، حيث يتهدد الاندماج الثقافي غير المتوازن تقاليد الكنائس الشرقية بالذوبان. وهنا تظهر رؤية البابا النبوية، إذ لا يكتفي برثاء الواقع، بل يقدم حلاً عمليًا:

- ضرورة تأسيس مقاطعات كنسية شرقية في الغرب،

- تثقيف الغرب اللاتيني بروح الكنائس الشرقية وطقوسها، 

- وطلب مبادئ توجيهية واضحة من الدوائر المختصة، كي لا تبقى هذه الدعوة حبرًا على ورق بل تحدد المبادئ والمعايير والخطوط العريضة لدعم ملموس للمسيحي الشرق في اراضي الشتات.

 

كما قال القديس إيريناوس: ’’حيثما تكون الكنيسة، هناك روح الله؛ وحيثما يكون روح الله، هناك الكنيسة وكل نعمة‘‘. 

 

وهذا يُظهر أهمية الحفاظ على التنوع الليتورجي والروحي كأوجه لنعمة واحدة.

 

وفي جوهر هذا كله، كان تأكيده أن الكنيسة الغربية بحاجة حيوية إلى الشرق. وهنا يلامس البابا رؤية لاهوتية عميقة، فليست الكنيسة الشرقية فقط في حاجة إلى الحماية، بل الكنيسة الجامعة تفتقر اليوم إلى بعضٍ من روحانية الشرق، تلك الروحانية التي:

 

- تقدّس الصمت وتقدّر الأسرار، 

- تُشرك الإنسان بجسده وروحه في العبادة، 

- تكرم التوبة والصوم كوسائل تطهير، 

- تبكي على الخطايا لا يأسًا بل رجاءً، 

- وتعيش الليتورجيا كمشاركة في السماء على الأرض.

 

فقد قال القديس أثناسيوس: ’’الكنيسة الجامعة لا تتنفس إلا برئتَين: الشرق والغرب‘‘   في تأكيد لاهوتي عميق على أن غياب أحد الطرفين يختل به توازن الكنيسة.

 

وهذا ما أكده البابا القديس يوحنا بولس الثاني، فقد قال في رسالته Orientale Lumen: ’’إن كنائس الشرق هي كنائس الشهداء، وهي تقدم لنا اليوم شهادة حية للإيمان الثابت وسط الألم‘‘.

 

ثم سلط البابا لاون الرابع عشر الضوء على عمق الروحانية الشرقية، معتبرًا أن روحانيّاتها، المتأصلة في الزمن والمرنة في الحاضر، هي دواء شافٍ للكنيسة والإنسانية. ليست مجرد أنظمة طقسية أو تقاليد عبادة، بل هي خبرة حيّة تعالج آلام القلب الإنساني، وتضمد جراح الروح، وتغمرها برجاء الفصح.

 

- البؤس البشري والرحمة الإلهية

 

يشير البابا إلى أن الروحانية الشرقية لا تتجاهل مأساوية الواقع البشري، بل تتعامل معه بواقعية مفعمة بالإيمان، حيث يمتزج إدراك البؤس البشري العميق بـ"الاندهاش" أمام رحمة الله الغامرة. وهذا هو الدواء الحقيقي: أن نقرّ بضعفنا، لا لنسقط في اليأس، بل لنرتفع بنعمة الله.

 

كما يقول القديس بولس:  «لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي» (2 كور 12: 10).

 

- الشفاء والقداسة والرفع

يُذكّر البابا بأن دعوة الإنسان ليست أن يبقى في الضعف، بل أن يقبل النعمة التي تشفيه، وتقدّسه، وترفعه إلى الأعالي. هذه ليست فلسفة نظرية، بل خبرة فصحية، أي قيامة متجسدة في حياة الإنسان.

 

لذا يشجع البابا على الشكر والتسبيح غير المنقطعين، اقتداءً بالقديسين الشرقيين. فيقتبس من القديس أفرام السرياني، أحد أعظم آباء المشرق، الذي صاغ لاهوته بلغة الشعر والدموع، قائلاً: «المجد لك، يا من جعلت من صليبك جسرًا فوق الموت،  المجد لك، يا من لبست جسد الإنسان الفاني،  وحوّلته إلى ينبوع حياة لكلّ الفانين».

 

هذا النص ليس مجرّد شعر ديني، بل هو لاهوت حيّ: فالصليب ليس نهاية، بل جسر يعبر به الإنسان إلى الحياة. والجسد البشري، المتناهي، يصبح وعاءً للحياة الإلهية.

 

- رجاء لا ينهزم

 

ويذكّر البابا بعطيّة جوهرية علينا أن نطلبها: أن نعرف أن نرى حقيقة الفصح في كل صعوبة في الحياة، أي أن نؤمن أن القيامة ليست فقط حدثًا ماضويًا، بل قوة حاضرة تتغلغل في ظلمات العالم وتحوّلها إلى فجر جديد.

 

ويختم البابا هذا القسم بكلمة عميقة للقديس إسحق السرياني، أحد أعمدة الروحانية النسكية في الشرق، قائلاً: ’’إنّ أكبر خطيئة هي ألّا نؤمن بقوّة القيامة‘‘. هذه العبارة تلخّص المأساة الحقيقية: أن نفقد الرجاء، أن نيأس من إمكانية التحوّل والشفاء، بينما القيامة تدعونا إلى نقيض ذلك تمامًا: أن نؤمن بأن الله قادر أن يقيم الحياة من بين رماد الألم.

 

في ضوء هذا المقطع، يمكن القول: الكنائس الشرقية ليست فقط حارسة لليتورجيا القديمة، بل شاهدة حيّة على قيامة المسيح في قلب عالمٍ مجروح. وهي مدعوّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تواصل إعلان الفصح لا بالكلام فقط، بل بالرجاء الذي لا يموت، وبالمحبة التي تتحدى اليأس، وبالدموع التي تتحول إلى نور.

 

وكما قال القديس يوحنا الدمشقي: ’’المسيح قام من بين الأموات، فبالموت داس الموت، ووهب الحياة للذين في القبور‘‘.

 

ثم تساءل البابا: ’’من أكثر منكم يمكن أن يغني كلمات الرجاء في هاوية العنف؟‘‘ مشيرًا إلى أن الكنائس الشرقية، التي وصفها البابا فرنسيس بأنها ’’كنائس استشهاد‘‘، تعرف عن كثب أهوال الحرب والاضطهاد. من الأرض المقدسة إلى أوكرانيا، ومن لبنان إلى سورية، ومن الشرق الأوسط إلى تيغراي والقوقاز، كم من العنف والمآسي التي شهدتها هذه المناطق! ورغم كل هذا، يبرز نداء المسيح: ’’السلام معكم! أودعكم السلام، أعطيكم سلامي. ليس كما يعطيه العالم، أنا أعطيكم أنا‘‘. كان يكرر القديس باسيليوس الكبير: ’’السلام هو اسم الله، وأعظم هدية يمكن أن تُمنح للإنسان‘‘.

 

وأكد البابا لاون الرابع عشر التزامه ببذل كل جهد ممكن لنشر هذا السلام، مشددًا على أن الكرسي الرسولي مستعد للقاء الأعداء والنظر في أعين بعضهم البعض، لإعادة الأمل والكرامة إلى الشعوب. ودعا قادة الشعوب إلى الحوار والتفاوض، مؤكدًا أن الحرب ليست حتمية، وأن الأسلحة يجب أن تصمت لأنها لا تحل المشاكل بل تزيدها. وأشار إلى أن التاريخ سيتذكر من يزرعون السلام، لا من يحصدون الضحايا، وأن الآخرين ليسوا أعداء بل هم بشر يجب أن نتحدث معهم. فقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم: ’’لا شيء يُرضي الله مثل السلام، ولا شيء يُرضي الشيطان مثل النزاع‘‘.

 

ثم عبّر البابا لاون الرابع عشر عن تقديره العميق للتراث الروحي الغني الذي تحمله الكنائس الشرقية، مؤكّدًا على أهميته في إثراء الكنيسة الجامعة. وأشار إلى أن الروحانيات الشرقية، بما تحمله من توازن بين الإدراك العميق للبؤس البشري والدهشة أمام الرحمة الإلهية، تُعدّ بمثابة دواء روحي يُعين المؤمنين على تجاوز اليأس والتمسك برجاء القيامة.

وهذا ماعبر عنه القديس أغسطينوس بقوله: ’’السلام هو هدوء النظام، والنظام هو ترتيب الأشياء في مكانها الصحيح‘‘.

 

تحدّث البابا عن أهمية استحضار يقين الفصح في كل مخاض يمرّ به الإنسان، مشدّدًا على أن الكنائس الشرقية، التي عانت من ويلات الحروب والاضطهاد، قادرة على أن تكون صوتًا للرجاء في عالم يمزقه العنف. وأشار إلى أن هذه الكنائس، تمتلك شهادة حية يمكن أن تُلهم العالم بأسره.

 

وفي هذا السياق، دعا البابا إلى السلام والمصالحة، مؤكدًا أن الكرسي الرسولي مستعد للقيام بكل جهد ممكن لتحقيق ذلك. وأشار إلى أن الحرب ليست حتمية، وأن الأسلحة يجب أن تصمت، لأن التاريخ سيخلّد من يزرعون السلام، لا من يحصدون الضحايا. ودعا قادة الشعوب إلى الحوار والتفاوض، مؤكدًا أن الآخرين ليسوا أعداء، بل بشر يجب أن نتحدث معهم.

 

واختتم البابا خطابه بالتأكيد على أن الكنيسة بحاجة إلى الكنائس الشرقية، مشيرًا إلى أن إسهامها في استعادة الحسّ بالسر، والتصوف، والتوبة، والصوم، والبكاء من أجل خطايا الفرد والبشرية، هو أمر لا غنى عنه في عالمنا اليوم.

 

خطاب البابا لاون الثالث عشر هو صرخة نبويّة ونداء كنسيّ موجه إلى ضمير الكنيسة الجامعة، بأن لا تنسى الشرق الذي أعطاها القديسين، الليتورجيات، الرهبنة، والتقوى العميقة. إنه دعوة كي نصون هذا الكنز، لا بصفته تراثًا ماضيًا، بل كنبض حيّ يجب أن يستمر في بناء جسد المسيح الحيّ.

 

إن العبارة الختامية التي يوجّه فيها البابا الشكر والبركة ويطلب الصلاة، ليست مجرد مجاملة رسمية، بل هي تعبير لاهوتي وإنساني عميق عن روح الخدمة التي تميّز الحبر الأعظم.

 

’’أشكركم على ذلك، وأُبارككم من كلّ قلبي، وأطلب منكم أن تصلّوا من أجل الكنيسة، وأن ترفعوا صلوات شفاعتكم القديرة، من أجل خدمتي. شكرًا!‘‘

 

هذه العبارة، ببساطتها وعمقها، تلخّص روح الخدمة الإنجيلية: فالقائد في الكنيسة ليس سيّدًا بل خادمًا محتاجًا إلى الصلاة. وهي دعوة مفتوحة لكل واحد منا أن يتحمّل مسؤوليته في حياة الكنيسة لا بالكلام، بل بالصلاة والشركة الحيّة. وهذا ماقاله القديس أمبروسيوس:  ’’الكنيسة تقوم بالصلاة، وتنتصر بالصلاة، وتستمر بالصلاة‘‘.

 

فلنأخذ هذه الدعوة على محمل الجدّ، ولنجعل من صلاتنا اليومية حجارة حيّة تبني كنيسة الرجاء، المحبّة، والوحدة.