موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بعد أن تأملنا في سرّ الله خلال زمن الصوم، وبعد أن احتفلنا به في أيام عيد القيامة، يأتينا هذا الأحد بفرصة ثمينة لنرفع نظرنا ونغوص في عمق الحياة الإلهية نفسها، حياة ذاك الإله الذي شاء أن يطبع في إنسانيتنا ختم محبّته الثالوثية.
في أعقاب العنصرة، تدعونا عيد الثالوث الأقدس لا إلى تأمل حدث من أحداث تاريخ الخلاص، بل إلى السجود أمام مجد الله نفسه، ’’الإله الواحد في ثلاثة أقانيم‘‘.
لقد حدثتنا الكتب المقدسة منذ الأزمنة الغابرة عن إله لا يحب العزلة، ففي ’’بدء الخليقة‘‘ ’’الرَّبُّ خَلَقَني أُولى طُرُقِه قَبلَ أَعمالِه مُنذُ البَدْء. مِنَ الأَزَلِ أُقِمتُ مِنَ الأَوَّلِ مِن قَبلِ أَن كانَتِ الأَرْض‘‘(ام 8، 22-23). كانت الحكمة معه، حضور غامض لكنه شديد الوقع، حتى بدا وكأنه شخص حيّ قائم بذاته. ’’وكنتُ عِندَه طِفْلًا وكُنتُ في نَعيمٍ يَومًا فَيَومًا، أَلعَبُ أَمامَه في كُلِّ حين‘‘ (ام 8، 30).
لقد كشف الله عن نفسه لا ككائن ساكن ومنعزل، بل كشركة حياة وتبادل عطاء منذ الأزل.
لكن فقط في ملء الزمان، عندما دخل الابن في تاريخ العالم، أمكن لنا أن نفهم عمق هذا السر، لا كمجرد حقيقة إيمانية، بل كمفتاح ضروري لفهم سرّ حياتنا البشرية نفسها. ففي تجسّد المسيح، يتجلّى الله كأب يهب كل ما لديه وكل ما هو عليه لابنه بالروح القدس، في رباط من الحب الأبدي الذي لا يفنى.
هذا ما يؤكّده يسوع نفسه في الإنجيل حين يقول: ’’كلّ ما للآب هو لي‘‘ (يو 16، 15).
فإن كان الله ثالوثاً، وإن كانت طبيعته هي كينونة في علاقات عجيبة، فكيف بنا نحن، المخلوقين على صورته ومثاله، إلا أن نبحث عن معنى وجودنا داخل هذا الفضاء العلائقي الذي نحياه؟ كيف لا، و’’مَحَبَّةَ الله أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا‘‘. (روم 5، 5)؟
صحيح أن علاقاتنا هي غالباً المستنقع الذي تغوص فيه خطانا: علاقات أفسدتها الأنانية، مزّقتها الخيانة، وأنهكتها اللامبالاة، لكننا لا نستطيع التخلّي عن مسؤوليتنا الأولى كبشر: أن نحيا على صورة الله الثالوث.
فالرب يسوع يُعلن لتلاميذه أن دخولنا في نعمة الحياة الإلهية لا يكون إلا عبر الروح: ’’مَتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدَكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكَلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث‘‘ (يو 16، 13).
هذه الكلمات لا تعني أن هبة الروح في العنصرة تضمن لنا طريقاً سهلاً أو امتيازاً خاصاً في مسيرة الحياة الشاقة. بل إنّ عمل الروح هو ’’غمرٌ‘‘ لنا في عمق علاقات المحبة التي في الله، حتى تُشفى علاقاتنا وتُردّ إلى سَعَتها الحقيقية، فتصبح قادرة على العطاء الكامل، في أفق الرحمة والمغفرة.
في عيد الثالوث الأقدس، ننظر برجاء جديد إلى نسيج علاقاتنا، متأمّلين في حقيقة أننا مخلوقون لشركة، كما أن الله هو شركة.
ورغم هشاشتنا، فإن شركة الآب والابن والروح القدس ليست فقط مثالاً لنا، بل قوة تسندنا، وتحوّلنا إلى بشر قادرين على الحب، والغفران، والعطاء.
قال القديس أوغسطينوس: ’’حين تحب، فأنت تعكس الثالوث، لأنك تحب (المُحب)، شخص آخر (المحبوب)، وهناك محبة تربطكما (الروح). فالثالوث هو المحبة في كمالها‘‘.
فرغم ما قد يعتري علاقتنا من جراح وأخطاء وانكسارات، إلا أننا مدعوون إلى الرجاء، إلى الإيمان بأن هناك دوماً إمكانيات جديدة للشفاء، وفرصاً حقيقية لاستعادة الخيوط التي بدأنا ننسج بها علاقاتنا. لأننا اليوم ’’حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح‘‘ (روم 5، 1).
وفي هزائمنا، لا ينبغي أن نفقد الرجاء في أن نُفهَم من جديد، ونُغفر لنا من جديد.
إنّ شركة الآب والابن والروح القدس تُضيء طريقنا، وتحوّلنا لنصير قادرين على أن نُحب، ونتقبّل الحب، ونصير نحن أنفسنا حباً. وهذا هو ’’الحقّ كلّه‘‘ (يو 16، 13) وحياة العالم.