موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥

وسط العواصف اثق بوعدك

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
الأب داني قريو السالسي - لبنان

الأب داني قريو السالسي - لبنان

 

خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يُلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الهَيْكَل. فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: "أَلا تَنْظُرونَ هذَا كُلَّهُ؟ أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض" وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَّيتُون، دَنَا مِنْهُ التَّلامِيذُ على ٱنْفِرَادٍ قَائِلين: "قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟" فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: "إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!" فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلين: "أَنَا هُوَ المَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين. وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هذَا. ولكِنْ لَيْسَتِ النِّهَايَةُ بَعْد! سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى، وهذَا كُلُّه أَوَّلُ المَخَاض. حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِّيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا. ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين. ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين. ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ. ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ المَلَكُوتِ هذا في المَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِّهَايَة. (متى 24، 1-14)

 

 

زمن الصليب حسب الطقس الماروني هو زمن نهيوي يركز على المسيح الممجد وانتظار مجيئه الثاني. واناجيل هذا الزمن جميعها تحمل ذات النبرة وذات الموضوع كلها لها بُعدٌ اخروي، تجعلنا نركز على نهاية العالم.

 

إنّ ما نسمعه اليوم من المسيح ليس خطابًا عاديًا؛ إنه حديث يقطر ألمًا، تختلط فيه نبرة الحزن بوقع التحذير. يروي لنا الرسول متى أنّ التلاميذ، حين بلغوا هيكل أورشليم، وقفوا مأخوذين ببهاءه، مسحورين بجمال بنائه وبديع زخرفته. لم يكن غريبًا ذلك الانبهار؛ فالمؤرخ يوسيفوس يصف رخامه المرصّع بالذهب الذي يلمع من بعيد كالشمس، وأعمدته المتوّجة، وجدرانه المزخرفة، وسقفه الفخم الذي كان يُعدّ إحدى عجائب الدنيا. كان الهيكل فخر الشعب العبري ورمز هويته بالاضافة إلى كل هذا هو مقر في وسط شعبه.

 

فالتلاميذ، وهم يتأملون هذه الروائع، تهللت وجوههم وقالوا بدهشة: "ما أعظم هذا الجمال! ما أروع هذه الأحجار وهذه التحف الثمينة! إنه كنز سماوي على الأرض!" لكن فجأة، وبلا تمهيد، يخترق المسيح نشوتهم بكلمة كالصاعقة: "أَلا تَنْظُرونَ هذَا كُلَّهُ؟ أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض".

 

لنتخيّل وقع هذه الكلمات عليهم! في لحظة ابتهاج، ينزل الخبر كطعنة قاتلة. بالنسبة لهم، كان الحديث عن زوال الهيكل أشبه بالحديث عن خراب كنيسة القيامة والمهد والفاتيكان معًا! فهيكل اورشليم بالنسبة لليهودي هو مقر سكنى الله. أي مركز اللإيمان ومنبعه! زواله يعني انهيار المرجعية، وضياع رمز حضور الله في وسطهم. لا بد أن الرعب اجتاح قلوبهم، إذ لم يفيقوا من جمال المنظر حتى باغتهم يسوع بنذيرٍ ثقيل.

 

ولم يقف عند هذا الحدّ، بل أضاف تحذيرات أشدّ: "وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هذَا. ولكِنْ لَيْسَتِ النِّهَايَةُ بَعْد! سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى، وهذَا كُلُّه أَوَّلُ المَخَاض".

 

 كيف لا ينهار القلب أمام كلامٍ مثل هذا؟! ما هذا السواد؟ ما هذا الشؤم؟ أين أنت يا الله؟ أتركتنا؟ وأي خطيئة اقترفنا لنستحق مثل هذا العقاب؟

 

وأنا شخصيًا، عند قراءتي هذه المقطوعة الإنجيلية، لم أستطع أن أخفي مشاعري. إذا إنتابني شعورٌ بالغضب، وشعرت بغصّة في صدري: لماذا يا رب؟ أما يكفينا ما نشاهده كل يوم على الشاشات وما نقرأه في الأخبار؟ أما يكفينا ما يفتك بالبشر من قتل ودمار وتهجير، من مؤامرات تُحاك في الخفاء لأجل مصالح دنيئة؟ واجندةٍ شريرة؟ والآن، نسمعك أنت أيضًا تكلّمنا بهذه النبرة القاتمة؟! لا يا رب… إننا لا نقوى على احتمال كل هذا!

 

ركعتُ أُناجي الربّ في خلوتي: "يا ربّ، ماذا تريد أن أقول للناس هذا الأحد؟ لهؤلاء المتألمون؟ ما الكلمة التي تواسيهم وتُعيد لهم رجاءهم؟"  هؤلاء الناس محاطون بجراح لا تُعدّ ولا تُحصى؛ وها أنت، يا إله العزاء، تُخاطبهم بكلامٍ قاسٍ حادٍ، مخيفٍ...!

 

وبينما كنت أغرق في هذا الجو من القلق والمرارة، وإذا بنورٍ خفيفٍ يتسلّل إلى داخلي، كخيط شمس يينفذ إلى فؤادي، فأضاء اللوحة الإنجيلية أمامي بمعانٍ لطالما غابت عنّي. لم يقصد المسيح أن يُرهبنا أو يفزعنا، بل كان يرغب أن يوقظ فينا وعيًا حقيقيًا بما يحيط بنا: حقيقة زمنٍ مُعقّد، وأحداثٍ موجعة، ووجوهٍ تهتزّ تحت وطأة الألم.

 

إن صور النبوة التي تسمعها الآذان - كنائس تُهدم، بيوت تُخرب، أسرٌ تتفرّق، ووجوهٌ صفراء يلتهمها الجوع - ليست لإذلالنا بل لتنبيهنا: هذا العالم مُفلتٌ، والقوى المظلمة تستغل الفراغ والضعف. لكن في قلب هذا التحذير ثمّة وعدٌ. فالكلمة ليست بكاءً بلا رجاء، بل دعوة صريحة للصبر والثبات: "ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ".  لم ولن يتركنا المسيح لوحدنا، بل يؤكّد أن العبور ممكن لمن يثبّت إيمانه رغم العواصف.

 

في وقت الأزمة، أو القلق أوالخوف يصعب على الإنسان أن يُفكّر بعقلانية، تُعتصر نفسه، وتتعثر خطواته. لذا يمدّ يده بحثًا عن مُعيل، عن قشةٍ يتمسك بها. والمخاطر هنا كبيرة، فكم من يدٍ حاولت التربّص بمخاوفنا لتستغلّنا، وكم من ابتسامةٍ زائفة تلبّست حيلة ومرامٍ شخصية!

 

كم من مرة قدَّم لنا من ظنناه مخلصًا نفسه كمنقذٍ، فإذا به ينهش ما بقي بنا، متلاعباً بآمالنا، زارع الانقسام بين الأهل والأصدقاء؟ كم من اعترافاتٍ صدرت من قلوبٍ مُتعبة انتهت إلى استغلال وابتزاز؟ وكم من وعودٍ بالنجدة تبيّن فيما بعد أنّها كانت قفزاتٍ على موجة مصلحة؟ لهذا يصرّ يسوع: "إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد! فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلين: "أَنَا هُوَ المَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين!" هذا تحذير أبوويّ وحكيم: لا تُسلّم قلبك لأيّ يد قبل أن تتحقق من نيتها. وكأن يسوع يسلم وصيته الأخيرة قائلاً: "انتبه من رفاق السوء، احذر ممَن حولك (اوعى يضحك عليك أحد!) لا تنسق وراء موضة العصر، وراء الشعارات المزيفة، لا تنبهر بأي شعلة فربما تكون نارها من قشٍ لاتلبث أن تزول".

 

إنَّ الرب يعلم جيداً أنَّ كثيراً من الناس يصابون بالغم والقلق من جراء أمورٍ شخصية وبسيطة، من حوادث يومية عرضية. كم من مرة فقدنا السلام من نَقد بسيط من قريبٍ لنا! كم من مرة ضربنا السلام عرض الحائط معلنين غضبنا لأنّ أحد والدينا عارض رأينا! كم من مرة انتابنا القلق لأن فلانا لم يسلم علي، أو عبسَ في وجهي! أو فلان الفلاني لم ينتبه الى تسريحة شعري، أو لم يقدر تعبي ودقة عملي! وكثيرٌ وكثيرٌ من هذه الأمور اليومية التي هي كافية لأن تعكر صفونا وتحط من عزيمتنا، فنشعر أنَّنا وحيدون مضطهدون، وتنهال دموعنا من عيوننا تاركين الباب مفتوحاً على مصراعيه لتغلغل اليأس والإحباط في نفوسنا.

 

يحكى أن الفضائل الإلهيّة الثلاث - الإيمان والمحبة والرجاء - كانت تسير معًا في نزهة هادئة. كان الإيمان رجلاً رصينًا، ثابِتًا، يخطو بثقة لا تتزلزل؛ وكانت المحبة زوجته الطيبة، ذات القلب الفسيح والعطاء الذي لا ينضب. وبينهما كانت الطفلة الصغيرة الرجاء، طفلةٌ مشعّةٌ بالحماسة، تصدح بالفضول، ترنو لأن تحتضن العالم كله.

 

كانت الرجاء تنمو لا في الطول، بل تنمو في الحيوية والنشاط:  كانت تمسك بيدي والديها وتقفز، تُسرع وتجذبهما من خلفها. ومن بعيد، يظن الناظر أن الإيمان والمحبة هما القائمان بالأمر، بينما في الحقيقة كانت الرجاء هي التي تقودهما، هي التي تسحبهما نحو غدٍ مملوءٍ بوعد. (Charles Pèguy 1873-1914)

 

في هذا التشبيه البسيط رؤية عميقة عن علاقتنا بالله: إلهنا لا يقطن أعالي السموات غير مبال بحالنا وينظر إلينا من فوق، بل هو الذي يسير معنا ويعضدنا ويهدا من روعنا.

 

أتذكّر امرأةً قبل بضع سنوات اكتُشف أن لديها ورم في الثدي؛ دخلها الخوف والقلق وبدأت تتساءل: "هل يستأصل؟ هل سينجح العلاج؟ ماذا سيفعل أطفالها بعد رحيلها؟" خلال أيامها العشر الأولى كانت القلق يمزّقها من الداخل وينهش بها. أما الزوج، فقد استهان بالأمر ظاهريًا وكان يكرر: "إنه أمرٌ بسيط، أنه عرضي" لكنه، في هذا الاستهانة، لم يعطها اليد التي كانت تحتاجها؛ تركها تواجه مصيرها وحدها.

 

وحين جاءت نتيجة الخزعة وأعلن الأطباء أنّ الورم خبيث، وأن العلاج الكيميائي هو الطريق الوحيد، حلّت بها صدمةٌ لم تكن أقل وحشة من الظلمة التي عاشتها. في تلك اللحظات الحرجة، لم تَجِد في العالم سوى خوفها وصدى الأسئلة.

 

يسوع ليس هكذا! لا يقف موقف المتفرّج. لا يتركنا نصارع وحدنا. هو يقترب، يحمل همومنا، يهمس لنا: "أنا معك!.. لن أتخلى عنك!... لن تفقد شعرة من رأسك بغير إذني". أي حبّ هذا؟! أي عناية تفوق العقل؟! حتى الشعرة الصغيرة التي لا نعدّها شيئًا، هي ثمينة في نظره!

 

لهذا يردّد لنا المسيح اليوم: "لا تفزعوا... لا تضطرب قلوبكم... ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر". إنّها ليست كلمات عزاء عابر، بل هي برنامج حياة. هذه اللوحة الإنجيلية هي بمثابة دليل عملٍ لمواجهة صعوبات الحياة.

 

فلنثق إذن أنّه معنا، يرافقنا في ليلنا كما في نهارنا، في لحظات الفرح كما في الألم. لن نترك القلق والغم يسرقان سلامنا، ولن نسمح لليأس أن يطفئ نورنا.


يا رب، زدنا إيمانًا لنثبت فيك وسط التجارب.

هبنا محبة حقيقية لا تعرف الرياء.

وازرع في قلوبنا رجاءً حيًّا لا يخيب، لكي نثبت فيك، أنت الحيّ المالك إلى أبد الدهور. آمين.