موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥

مَن هو العبد الأمين الحكيم؟

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - لبنان
الأب داني قريو السالسي - لبنان

الأب داني قريو السالسي - لبنان

 

قالَ الربُّ يَسوع: «مَنْ هُوَ العَبْدُ الأَمِينُ الحَكِيْمُ الَّذي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلى أَهْلِ بَيتِهِ، لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ في حِينِهِ؟ طُوبَى لِذلِكَ العَبْدِ الَّذي يَجِيءُ سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَاعِلاً هكَذَا! أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيْمُهُ عَلى جَمِيعِ مُمْتَلَكَاتِهِ. ولكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ العَبْدُ الشِّرِّيرُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي! وبَدَأَ يَضْرِبُ رِفَاقَهُ، ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ مَعَ السِّكِّيرِين، يَجِيءُ سَيِّدُ ذلِكَ العَبْدِ في يَومٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُهَا، فَيَفْصِلُهُ، ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ المُرَائِين. هُنَاكَ يَكُونُ البُكَاءُ وصَرِيفُ الأَسْنَان. (متّى 51-45:24).

 

في هذا الزمن المقدس، زمن الصليب، تدعونا الكنيسة للتأمل في مسيرة حياتنا نحو الأبدية. نحن نسير نحو الملكوت السماوي، نحو شركة الفرح التي لا تغرب. فالكنيسة تضعنا في ختام مسيرة السنة الطقسية كي نبدأ بداية جديدة، بداية الحياة الجديدة في المسيح يسوع. إنّها حياة انتظار دائم، انتظار اللقاء، انتظار الفرح الأبدي، انتظار الشركة الإلهية. وطوبى لمن ينتظر الرب كـ »العَبْدُ الأَمِينُ الحَكِيْمُ«، الذي يظلّ ساهراً على الرسالة التي أؤتمن عليها، ولا يملّ من الخدمة في غياب سيده.

 

 

أولاً: مَن هو العبد؟

 

في العقلية الكتابية، لا تعني كلمة »عبد« ما تفهمه لغتنا العربية اليوم. ففي العربية، العبد هو المملوك، المسلوب الحرية، الخاضع لسيده خضوع الذلّ.

 

أما في الفكر الكتابي، ولاسيما في السريانية، فكلمة «عَوبودو» (ܥܒܘܕܐ) تعني: العابد، الساجد، الخاضع لله والمدرك عظمو محبته فلأنسان. العبد هنا ليس مهاناً، بل إنسان يعي أنه مخلوق أمام الخالق. وهكذا ندرك أن الدعوة إلى أن نكون «عبيد الله» ليست عبوديةَ قهر، بل عبادة وديةَ ملؤها الحب. فالرب، على عكس أسياد هذا العالم، لا يستعبد الإنسان، بل يحرّره؛ لا يستغلّه، بل يخلّصه؛ لا يسلبه ارادته، بل يمنحه الحياة والكرامة. ملكوت الله هو ملكوت محبة وسلام، ومن يدخل إليه لا يفقد حريته، بل يجد معناها الحقيقي.

 

 

ثانيًا: العبد الأمين

 

يقول الكتاب: »فَخَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ عَلَى صُورَتِهِ، عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَه، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُم» (تك 1، 27). لقد أوكل الله إلينا صورته، وجعلنا أمناء على هذه الوديعة الإلهية. أن نكون أمناء يعني أن نحافظ على هذه الصورة نقية، تشعّ من خلالها ملامح الله فينا. من يكون أمينًا على هذه العطية، يقدّس ذاته ويشع سلاماً، لأن الأمانة طريق القداسة. الأمانة ليست مجرّد التزام خارجي، بل حبّ داخلي يربطنا بالله ويجعلنا شهودًا له في العالم.

 

 

ثالثًا: العبد الأمين الحكيم

 

الحكمة في المفهوم الإنجيلي ليست كثرة المعرفة، بل صفاء البصيرة. الإنسان الحكيم هو من يرى الأمور بعيني الله، ويميز الصالح من الرديء، والمهم من التافه، والدائم من الوقتي، والحق من الباطل.

 

يقول الرسول بولس: »فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا» (في 2، 5)، ويضيف أيضًا: "وَلا تَتَشَبَّهُوا بِهذِهِ الدُّنْيَا، بَلْ تَحَوَّلُوا بِتَجَدُّدِ عُقُولِكُمْ لِتَتَبَيَّنُوا مَا هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ، أَي مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَرْضِيٌّ وَكَامِل» (رو 12، 2).

 

الحكيم إذًا هو من يجدد فكره كل يوم على ضوء كلمة الله. أي من يتغذى من الكلمة ويتقدس بالأسرار، لأن الكلمة تنير عقله، والأسرار تغذي حياته. من يتطعم من جسد المسيح ودمه، تزهر حياته بثمر الروح، وتفيض محبة وسلامًا.

 

حين تغيب الحكمة والأمانة

 

يقول الإنجيل:  » ولكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ العَبْدُ الشِّرِّيرُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي، وَبَدَأَ يَضْرِبُ رِفَاقَهُ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ السِّكِّيرِين«. هنا تبدأ المأساة: حين ينسى الإنسان أنه خادم، ويظنّ نفسه سيدًا؛ حين يضع ذاته في المركز وينسى الله؛ حين يفقد نظرته إلى الأبدية ويغرق في اللحظة الزائلة.

 

لكنّ الرب يأتي «في ساعة لا ننتظرها» ليذكّرنا أننا لسنا أصحاب البيت، بل وكلاؤه.

 

دعوة إلى الأمانة بحكمة حتى النهاية

 

نحن «عبيد الله»، «سفراء المسيح» كما يقول الرسول بولس: «إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا» (2كو 5، 20). أمانتنا في الحياة اليومية هي أعظم عظة نقدمها للعالم. حين يعيش الإنسان بأمانة، يصبح إنجيلاً مفتوحًا يقرأه الآخرون، وتتحول حياته إلى نور يهدي الخطاة، وملح يقدّس الأرض.

 

فلنطلب من الرب أن يجعلنا عبيدًا أمناء حكماء، نحمل في قلوبنا فكره، وفي أيدينا خدمته، وفي أعيننا مجده، كي إذا جاء، يجدنا ساهرين على بابه، منتظرين صوته القائل:  «نِعِمَّا أَيُّهَا العَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْ أَمِينًا عَلَى القَلِيلِ، فَأُقِيمُكَ عَلَى الكَثِيرِ. ادْخُلْ فِي فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متّى 25، 21).