موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بينما تمضي أسابيع الفصح بسرعة نحو عطية وسر العنصرة، توثق أعمال الرسل مرحلة دقيقة في تاريخ الكنيسة الناشئة. فبعد أن حاول بولس بإصرار إعلان الإنجيل في المجامع التي نشأ فيها وتكوّنت فيها حساسيته الدينية، واجه مقاومة شديدة من "اليهود" ’’ فلَمَّا رأَى اليَهودُ هٰذا الجَمْع، أَخَذَهُمُ الحَسَد، فجَعلوا يُعارِضونَ كَلامَ بولُسَ بالتَّجديف ‘‘ (أع 13، 45).
هذا التوقف، الذي شكّل عثرة في مسيرة بولس ورغبته في مشاركة بشرى قيامة المسيح مع إخوته في الإيمان، لم يوقف تقدم الإنجيل. فمع برنابا، اكتشف بولس أنه مدعو للمشاركة في مهمة أعظم، حتى وهو يتذوق مرارة الفشل: ’’ «إِلَيكم أَوَّلًا كانَ يَجِبُ أَن تُبَلَّغَ كَلِمَةُ الله. أَمَّا وأَنتُم تَرفُضونَها ولا تَرَونَ أَنفُسَكم أَهلًا لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، فإِنَّنا نَتَوجَّهُ الآنَ إِلى الوَثَنِيِّين‘‘ (أع 13، 46).
التعامل مع خيبة الأمل ناتجة عن رغبة عميقة، خاصة عندما نعتقد أنها استجابة لدعوة الله، ليس بالأمر السهل أو المباشر. يجب أن يموت شيء ما من "أنانيتنا" لنفسح المجال لمخطط أعظم، حيث يمكننا أن نكرّس أنفسنا بحرية أكبر لخدمة مشيئة الله. بعد أن تخلى عن توقعاته، أعلن بولس: ’’فقَد أَوصانا الرَّبُّ قال: «جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِتَحمِلَ الخَلاصَ إِلى أَقْصى الأَرض» ‘‘ (أع 13، 46).
يشجعنا زمن الفصح على تفسير الإخفاقات والعثرات بنظرة متفائلة، قادرة على رؤية النور حتى في أحلك ظلمات اللامبالاة، بل وحتى في أوقات الاضطهاد، حيث يتجلى حضور نور لا يمكن إيقافه. فالانطلاق نحو أقطاب العالم والتاريخ يتطلب منّا أولاً وقبل كل شيء أن نراجع أنفسنا.
أولاً: خيبة الأمل كعلامة تحول لانهاية:
عندما يشعر الإنسان أن حلمه، حتى ولو كان مقدسًا، قد خذله، يدخل في ما يمكن تسميته بـ "حداد روحي". والحداد هنا لا يعني فقط الحزن، بل الاضطرار للتخلي عن شيء كنا نظنه خيرًا مطلقًا. كما يقول القديس يوحنا الصليب: "لكي يأتي الله إلى الروح ويملأها، لا بدّ أولًا من أن تُفرغ ذاتها من كل ما ليس الله".
وهذا ما فعله بولس: فقد كان يرغب بإعلان الإنجيل لليهود – قومه الذين أحبهم – ولكنه اصطدم بالرفض والعداوة. لم يصرّ، لم يغضب، لم يبرر فشله. بل رأى فيه إشارة لتوسيع الأفق: أن الرسالة أوسع من توقعاته، وأن الله يقوده حيث لا يريد هو، بل حيث يشاء الروح.
ثانيًا: موت "الأنانية المقدسة"
هذا المفهوم قد يبدو متناقضًا، لكنه دقيق. كثيرًا ما نظن أننا نرغب في خدمة الله، لكن الحقيقة أن جزءًا من هذه الرغبة يكون مرتبطًا بـ"صورة ذاتية" نحبها: أن نكون منقذين، مؤثرين، ناجحين، محبوبين. ولعل الله أحيانًا يسمح لنا بالفشل ليطهر فينا هذه الصورة، فنخدمه بـ تواضع المُحرَّر، لا بغرور المُنتَظَر.
القديس أغسطينوس يقول: "في بعض الأحيان، ما نطلبه من الله ليس سيئًا، لكننا نطلبه بالطريقة الخطأ أو في الوقت الخطأ أو بالقلب الخطأ."
إذن لا يكفي أن تكون الرغبة طيبة، بل يجب أن تتناغم مع توقيت الله، لا مع استعجالنا أو حساسيتنا العاطفية.
ثالثًا: نور القيامة في فشلنا
زمن الفصح ليس فقط عن قيامة المسيح، بل عن قيامتنا نحن في اختباراتنا اليومية. إذ يذكّرنا أن الفشل قد يكون ليس نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية. نور القيامة لا يُرى في القبور المفتوحة فقط، بل في القلوب المجروحة التي تعلّمت أن تثق من جديد.
يقول سي إس لويس: "الله يهمس لنا في أفراحنا، ويتكلم في ضميرنا، لكنه يصرخ في آلامنا." وفي هذا الصراخ يُسمع نداء: "اذهب إلى الأمم" - أي إلى مساحات جديدة من الذات والعالم والرسالة.
رابعًا: دعوة لمراجعة الذات
قبل أن نلوم من حولنا أو نظن أن المشكلة في الرفض الخارجي، يدعونا النص إلى مراجعة داخلية. هل نحن نعلن الإنجيل، أم نبحث عن تأكيد ذواتنا؟ هل نحن أدوات، أم نحن صدى لأنانيتنا؟
فالمضيّ إلى "أقصى الأرض" لا يكون دون المرور بـ"أقصى الذات"، حيث نخلع ما هو فائض أو هش أو غير نقي، ونلبس فقط ما اختاره الله لنا.
التجربة التي عاشها بولس تُعلّمنا أن خيبة الأمل ليست بالضرورة علامة فشل، بل قد تكون دعوة للاستسلام إلى حكمة الله الأوسع. أن نموت عن رغباتنا لا يعني إنكارها، بل تسليمها في يد الله كي ينقّيها ويستبدلها بما هو خيرٌ أعظم. ’’الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ بي يَعمَلُ هو أَيضًا الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها أَنا بل يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها لأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب‘‘ (يو 14، 12)
لا ينبغي أن نتفاجأ من أن هذه المهمة التوسعية للإنجيل قد أُوكلت إلينا نحن، الذين أصبحنا بجسدنا (الحقيقي) جسد المسيح من خلال المعمودية