موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٢ مايو / أيار ٢٠٢٥

تأمل الأحد الرابع

بقلم :
الأب داني قريو السالسي - إيطاليا
الأحد الرابع للفصح: «إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صوتي، وأنا أعرِفها، وهي تتبعني»

الأحد الرابع للفصح: «إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صوتي، وأنا أعرِفها، وهي تتبعني»


في الأحد الرابع من الزمن الفصحي، تقدِّم لنا الكنيسة إنجيلاً قصيرًا جدًّا، ومع ذلك فهو مملوء بالثقة والرجاء التي وعد بها يسوع تلاميذه. «إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صوتي، وأنا أعرِفها، وهي تتبعني» (يوحنا 10: 27).


لو تأمّلنا في بداية هذه المقطوعة الإنجيلية، لوجدنا أنها لا تحتوي على أي طلب، ولا أي حكم، ولا أمر أو إنذار ... لا يخبرنا يسوع بما علينا فعله، بل يَظهر كراعٍ واثق تمامًا بأن صوته سيسمع من قبلنا، نحن خرافه: «إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صوتي» (يو 10: 27).


له فينا ثقة عمياء، بل ثقة عظيمة، في قدرتنا على الإصغاء. يا رب، يا يسوع، نحن لسنا دائمًا مستمعين جيدين لك، بل في أغلب الأحيان نصغي لأنفسنا.


لكن في نور هذا الأحد الرابع من الفصح، تتلخّص الرسالة في ثقة الله بنا. إن الله يثق بقدرتنا على إعادة دوزنة أوتار قلوبنا لتتناغم مع ترددات صوته. وهذا هو طريق الحياة الحقيقية.


وأظن أنّ علينا نحن أيضًا أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا، إذ عندما يتكلم الله، نعرف صوته من قدرته على الدخول إلى غرفنا الداخلية، إلى أعماق نفوسنا، إلى الأماكن السرّية والمظلمة والمغلقة في داخلنا... هناك فقط ندرك أن صوته فريد، لا يشبه أي صوت آخر.


وندرك كذلك أنه في حياتنا لا نستطيع دائمًا أن نجيب على صوته بأعمالنا، وسرعان ما نعود لمشيئتنا الذاتية. لكن صوته قادر على أن يصل إلينا، وأن يبلغ تلك الزوايا التي لا يقدر أحد غيره أن يخاطبها، بنفس اللباقة والاحترام واللطف.


يسوع واثق بأن صوته قادر أن يقودنا، لأنه يعرف أننا أحرار. والله لا يقيم علاقة مع الإنسان إلا على أساس الحرية. إن أي علاقة لا تقوم على الإصغاء، على الحوار، لا ترتقي إلى مستوى الله.


في التاريخ، نرى أن القادة والحكّام يأمرون، يوجّهون، يفرضون الأنظمة. وهذا، للأسف، غالبًا ما يكون أسلوبنا نحن أيضًا حين نرغب بأن نُسمع: نرفع صوتنا، نشمّر عن سواعدنا، نبدأ بالضغط أو التلاعب. أما الله، فليس بحاجة إلى كل هذا. لأنه يعرفنا... ويحبنا. ومَن يحب، لا يحتاج أن يصرخ ليقول الحق. يمكنه أن يقوله بلطف، بوداعة، وبحنان. وهذا تمامًا ما يفعله الراعي الصالح.


يعرف الرب يسوع أن هناك أصواتًا أخرى، قد تُعجبنا أكثر، وتقنعنا أكثر -للحظات عابرة-. أصوات تُغري، وتُبهر، وتُسيطر علينا في لحظات ضعف أو اندفاع. لكنها، على المدى الطويل، لا تُثمر ولا تُبني. أما صوته هو، صوت الراعي الصالح، فهو وحده القادر أن يُمنحنا السلام، والأمان -الدائم-، أن يُحقق النصر الحقيقي.


أحيانًا، نركض خلف السراب، أو نُلاحق بعض الحوريات، ننجذب لأصوات كثيرة مرّت في حياتنا، وعدتنا بالكثير، ثم تركتنا في منتصف الطريق أو أخرجتنا تمامًا عن المسار. 


كم مرة أَخطأنا في الإصغاء؟ كم من الوعود الخادعة تبِعناها؟ ومع كل هذه الفوضى، لا يزال الراعي الصالح يقول بثقة: «إِنَّ خِرافي تُصغي إلى صوتي، وأنا أعرِفها، وهي تتبعني» (يوحنا 10: 27).


ماذا يريد أن يُخبرنا يسوع ؟ يريد أن ينقل إلينا أولاً اختباره هو: »ما مِن أَحَدٍ يستطيعُ أَن يَختَطِفَ مِن يَدِ الآبِ شَيئًا. أَنا والآبُ واحِد». (يوحنا 10: 30). هذه هي هوية ابن الله: الوعي العميق بأنه محبوب من الآب. وهذا ما يقوله لنا أيضًا: إن سمعنا صوت الابن، دخلنا في عهد، عهد حبّ لا يذبل ولا ينتهي. 


في كل مرة يكلمنا يسوع، نشعر أن حياتنا مُحتضنة، وأن الأمان يظلّلنا، وأننا لسنا في مهبّ المصادفات أو في قبضة المجهول، بل في كفّ الله. نعم، حياتنا معروفة، ومحبوبة، ومحمية. لهذا نعود إليه مرارًا، حتى وإن كنا نضيّع الطريق أحيانًا. لكنّ قلوبنا تشهد أن الحقيقة هنا، في صوته.


إن كانت حياتنا موجودة في هذا العالم، وإن كان لها معنى وقدر، فلا بدّ أن مصدرها يد الله، الذي خلقنا، وأحبنا، ويحفظنا، وسيُقبِلنا يومًا في حضنه الأبدي.


قد يبدو هذا الكلام كلوحة شعرية جميلة، ولكن... ماذا يعني لحياتنا اليومية؟


في القراءة الأولى من أعمال الرسل، واجه بولس وبرنابا صعوبات كثيرة في كل مجمع دخلوه. وعندما أُغلِق الطريق أمامهم، وعندما أضاءت إشارة الحياة باللون الأحمر، سمعوا صوت المسيح يقول لهم بوضوح: اذهبوا إلى مكان آخر. وهذا ما قالا للفريسيين: «إِلَيكمِ أَوَّلاً كانَ يَجِبُ أَن تُبَلَّغَ كَلِمَةُ الله. أَمَّا وأَنتُم ترفُضونَها ولا تَرَونَ أَنفُسَكم أَهلاً لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، فإِنَّنا نَتَوجَّهُ الآنَ إِلى الوَثَنِيِّين» . وهكذا انتشر الأنجيل حتى وصل الإنجيل إلينا. 


ما بدا عائقًا، ما بدا فشلًا، ما بدا طريقًا مسدودًا... أصبح بابًا واسعًا للبشارة والرجاء.  «وكانت كَلِمَةُ اللَّهِ تَنتَشِرُ في النَّاحِيَة كُلِّها». لم يصنعا من الموقف مأساة، لم يبكيا على "الحليب المسكوب"، بل نفضا الغبار ومضيا في طريق آخر.


هكذا نحن أيضًا، إن أصغينا لصوت الراعي الصالح، عشنا هذه الديناميكية الروحية. فعندما تغلق الحياة أبوابها، عندما نُواجَه بجدارٍ يسد الطريق، إن لم نُصغِ لصوت يسوع، سنشعر بالإحباط، واليأس ونظن أن كل شيء قد ضاع، ونلوم أنفسنا أو الآخرين.


أما صوت الراعي الصالح، فهو يُعيد ترتيب الأمور: »جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِتَحمِلَ الخَلاصَ إِلى أَقْصى الأَرض« قالها الرب لبولس، ويُكررها أيضاً لكل واحد منا.


في كل مرة  تجد فيها نفسك أمام طريق مسدود، يقول الرب لك: تذكّر أنك نورٌ. سرّ في الطريق. وإن صادفتَ حاجزًا، انعطف وتابع السير. نحن مدعوون ألا نستسلم أو نفقد الرجاء، مدعوون ألا نقع فريسة التذمّر وإلقاء اللوم، لأن الحياة لم تمنحنا ما توقّعناه.


السعادة ليست حكرًا على مكان معين، ولا على شخص معين، ولا على خطّة رسمناها في ذهننا. السعادة موزّعة في أماكن كثيرة، أحيانًا في أكثر الأماكن التي لم نتوقّعها، مع أشخاص لم يخطروا يومًا على بالنا. وهذا ما تعلّمه الرسل الأوائل.


فعندما لا تسير الأمور كما نرغب، لسنا مدعوين إلى الانكسار، بل إلى الإصغاء. إن لم نُصغِ، سنضيع، وسنُهدر طاقاتنا، وسنبتعد عن صوت الراعي الصالح. أما إن أصغينا له، فسيقودنا إلى المراعي الخضراء، إلى حيث لم يكن في الحسبان، لأنه يعرف دومًا أننا هناك سنجد الحياة والسعادة الحقيقية.