موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٢
تناغم المشاعر للشفاء

أشخين ديمرجيان :

 

انتفض كالطير المذبوح عن الأريكة التي كان يجلس عليها، ووقف تعبيرًا عن رفضه القاطع وتأكيدًا لموقفه الصلب في هذا الموضوع الشائك، انطلاقًا من التجربة المريرة التي مرّ بها... باتت مستحيلة فكرة مسامحة قريبه الذي أساء اليه كثيراً، وهضَم حقوقه في العقار والمال وفي الروابط والعلاقات العائليّة، بطريقة أحسبها جريمة نكراء في حقّ الانسانيّة.

 

ولكن حزّ في نفسي أنّ هذا الانسان الطيّب يشترط عليه تعالى بأن يعوّضه عن خسارته المادّيّة أوّلاً وقبل كلّ شيء، من غير تفكير منطقيّ ، مع ذكائه وثقافته الواسعة. لذلك ذكّرته بأنّ الله يشترط علينا أن نغفر للناس زلاّتهم، كي يغفر لنا هو بدوره. وإلاّ لن يعفو عنّا (متّى 6: 14-15).

 

إنّ هذا الانسان جرّده أقرب الأقربين من كامل حقوقه المشروعة، ولم يتدخّل أحد خوفًا من بطش ذاك الذي انتهك حرمة القانون. وأنزّه القلم عن كتابة باقي المأساة. للأسف الشديد هذا الإنسان المظلوم لن ينال ما يحلم به من نِعَم وبركات، إلا اذا تمّم أوّلاً التّعاليم السّماويّة واقتنع بها راضيًا: لأنّ الرب يغفر لكلّ مَن يصفح لأخيه الإنسان. يذكر الكتاب المقدّس مَثَل العبد الذي أعفاه سيّده من الديون المستحقة عليه، ولكن هذا الأخير زجّ صاحبه الذي كان مدينًا له بمبلغ زهيد ضئيل. ولمّا وصل الخبر إلى سيّده غضب عليه ودفعه إلى الجلاّدين، حتّى يؤدّي له كلّ دينه. (متّى 18 : 23 وتابع).

 

أثبتت جميع الدراسات والأبحاث العلميّة في مجال علم النفس والطبّ النفسي أثبتت أنّ للمسامحة تأثيرات صحيّة ونفسيّة إيجابيّة. وأنّ مفاعيلها على صحة الناس كثيرة متنوّعة، تبعث الى هدوء في المشاعر والى ردود جسديّة هادئة ممّا يمنع الصدمات والانتكاسات الجسديّة. كما أنّها عامل مهمّ للصحّة الروحانيّة. وفي المقابل، عدم الصفح وتغذية الغيظ والغلّ والضغينة وغيرها من المشاعر والأفكار السلبيّة لها تأثير سلبيّ على الصحة الجسديّة.

 

التسامح المُطلق لا يعني نسيان الإساءة الكامل لأنّ المرء قد ينسى الأسى، ولكنّه لا ينسى الإساءة. منطقيًّا الأفضل مقاطعة مَن أساء إلينا إن لم يكن من أهل البيت. والتسامح لا يرتبط بانتظار كلمة اعتذار من الطرف المُسيء بل هو التحرّر من المشاعر السلبيّة التي تولّدت في داخلنا، مثل الرغبة في الانتقام او المعاقبة في سبيل التخلّص من الألم المضني الذي ينغّص حياتنا. ويبذل عدد من الأخصائيين النفسيين  كلّ جهد لاقتلاع المعوّقات الضميريّة السلبيّة، ويشجّعون الإنسان على اتّباع المسلك والأفكار الإيجابيّة: أي أن يتصالح المرء مع نفسه ويسامح الآخر، وينمّي في ضميره المشاعر الإيجابيّة، لتحلّ محلّ المشاعر السلبيّة. والزمن كفيل بأن يخفّف من وطأة الظلم خاصة من ذوي القربى. "وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً، على المرءِ من وقْعِ الحسامِ المُهنَّدِ" (للشاعر طرفة بن العبد).

 

وتنادي الوصيّة الإلهيّة بالعفو عند المقدرة. وقد بيّن لنا السيّد المسيح عظمة المحبّة والتسامح. وأصول الاعتراف الذي وضعه لنا المسيح طبيب النفوس بامتياز، اقتبسه علماء النفس بعد قرون للعلاج النفسي، وهو الذي يجلب الشفاء عن طريق تناغم المشاعر لشفاء النفس والجسد، بعد تنقية الضمير من السلبيّات.

 

لكن العنصر الروحاني فائق الطبيعة في كرسي الاعتراف عنصر أقوى وأرفع للشفاء، يتفوّق على العلاج النفسي في العيادات، بما أنّه يعالج الداء من جذوره أي الخطيئة والأنانيّة والانطوائيّة والكبرياء إلخ. والاعتراف الشخصي المباشر للكاهن -  يقدّم للمؤمن الوسيلة الفضلى لنيل الإرشاد المناسب وللالتزام بالإقلاع عن الشر. إنّ ممارسة سر الاعتراف بتواتر، من الوجهة الطبّيّة، يُعدّ عاملاً فعّالاً  للتوازن الصحّي والنفسي والأخلاقي.

 

خاتمة

 

وفي كثير من الحالات التي أخفق فيها الطب عن شفاء المرضى، نجح سرّ الاعتراف في شفائهم. وقد كتب مارتن لوثر: "أعطوني كنوز الدنيا كلّها لا أبدّلها بكرسي الاعتراف"!.