موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٨ فبراير / شباط ٢٠٢٢
التسامح والحقيقة

سامر يوسف هندو :

 

عاد البابا فرانسيس إلى الفاتيكان من بعد رحلة تاريخية استمرت ثلاثة أيام إلى العراق وقطع 1445 كيلومترًا بين بغداد والموصل وأور وأربيل. لقد كانت بالفعل أول زيارة يقوم بها بابا لهذه المنطقة التي تعاني من سنوات الحرب والنفوذ والفساد والاضطهاد…

 

فبالرغم من كبر سنه (84 عامًا)، وحالته الصحية وجائحة الكورونا، فإنه لم يتوقف عن زياراته لمناطق قديمة واثرية ولقاءاته بشخصيات سياسية ودينية مهمة وعن تشجيعه لمسيحيي العراق. رسالته الكبيرة لساسة العراق ولكل العراقيين كانت التسامح والتعايش بسلام. وقريبًا (6 اذار) سنحتفل بالذكرى السنوية الاولى لزياته هذه وبيوم "التسامح والمحبة والتعايش المشترك".

 

فما هو التسامح وهل يناقض قول الحق؟

 

التسامح بحسب إعلان اليونسكو لعام 1995 هو: “الاحترام والقبول والتقدير لغنى وتنوع ثقافات عالمنا وأنماط ووسائل التعبير عن جودتنا كبشر. […] ممارسة التسامح تعني أن لكل فرد حرية اختيار معتقداته وقبول أن يتمتع الآخر بنفس الحرية”.

 

إذ كان التسامح مهمًا جدًا بالنسبة لنا، فربما يكون ذلك بسبب التعصب الذي نراه كل يوم من حولنا.

 

ومفهومه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الحرية: "تنتهي حرية كل شخص حيث تبدأ حرية الآخرين" (جون ستيوارت مل 1806-1873). فالتسامح بالضرورة له حدود، وبهذا نواجه مفارقة مفادها أن التسامح لا يحتمل ما لا يطاق أي انه غير مُطلَق. فعلى سبيل المثال: فرنسا هو بلد علماني يدعوا الى التسامح، بالمقابل يفرض على المواطنين عدم ارتداء أي دلالات دينية في دوائر الدولة او المدارس والجامعات او أي مكان عمل. وهكذا نرى ان للحرية والتسامح حدود نقف عندها. 

 

والتسامح لا يعني التنازل بل يشترط قول الحق ونقد الأفكار وتقبل نقد الآخرين، على شرط الالتزام بالاحترام وعدم التجاوز او الاعتداء. وهذا ما فعله غبطة البطريرك مار لويس ساكو في كلمته التي القاها اثناء مشاركته في ندوة الوئام بين الأديان في بغداد، حيث وَجَهَ سيادته كلمة الى السياسيين ورجال الدين وكل الذين قدموا وعوداً امام البابا بالعمل كيما يعم السلام والأمان والتسامح والمساواة بين الشعب العراقي وحفاظهم على حقوق المسيحيين لكن مع الأسف تبقى مصالحهم أكبر واقوى من وعودهم!

 

ماذا عن التسامح الديني وبالتحديد المسيحي؟ هل يشهد الكتاب المقدس على التسامح أو عدم التسامح؟ يمكننا العثور على كليهما! على سبيل المثال: اقتبل ابينا أبرام البركة من ملكيصادق، عِلماً انه كاهن وثني، فيعترف به إبراهيم كممثل حقيقي لله (تك 14 :19)؛ يستقبل المسيح امرأة سورية فينيقية غير يهودية (مر 7 :26)؛ يقول يسوع عن الضابط الروماني: "ما وجدت مثل هذا الايمان حتى في اسرائيل" (لو 7: 2-10)؛ حلول الروح القدس على غير اليهود (اع 10: 44-48).

 

وهناك كثيرٌ وكثيرُ من الآيات التي تُظهِر تسامح يسوع مع اليهود وغير اليهود. لكن هناك أيضا آيات كتابية أخرى تشهد على مواقف لا يمكن التسامح فيها بل يستوجب قول الحقيقة: عندما يطرد يسوع الباعة من الهيكل (مر 11: 15-16). وأيضا الخلاف بين بولس وبطرس على موضوع المختونين وغير المختونين (غل 2: 11-21) فيقول بولس: “وعندما جاء بطرس الى انطاكية، قاومته وجهاً لوجهٍ لأنه كان يستحق اللوم“. (غل 2 :11). 

 

غالبًا ما ينبع التعصب الأعمى، وهو نقيض التسامح، جزئيًا من الخلط بين هذين المصطلحين: التسامح والتنازلات. هذا الخلط له آثار معاكسة وسلبية للغاية. أي أستطيع التحفظ بقناعاتي (النسبية) بدون فرضها على الآخر واتقبل واتفهم ان الآخر له حقيقته (النسبية) المقتنع بها والتي لا يرغب في تغييرها، هذا هو التسامح الحقيقي بدون أي تنازلات من كلا الطرفين. فالحرص المشروع في الحفاظ على ما يقتنع المرء بأنه عقيدة عامة وشاملة دون القبول بالتسامح والتفهم والحوار البناء (الآخر) يؤدي إلى التعصب والطائفية.

 

قناعتي بأني على حق، وبأني املك الحقيقة، وبأن هناك حقيقة واحدة فقط، ليس هو إلا تعصباً وتزمتاً وغالبا ما تكون نتيجته الخصومات والعداءات. فما أسميه الحق هو في الحقيقة مجرد فهمي النسبي للحقيقة. وقد يكون لدى الشخص الآخر حقيقته وقناعاته الخاصة والتي يتوقع هو أيضا بانها شاملة لكنها نسبية.

 

إن الاعتراف بهذا لا يعني إنكار قناعات المرء، ولا تقديم تنازلات، بل يعني إظهار التسامح والتفاهم بدلا من حديث الطرشان. يقول الرسول بولس: "وإن كان لكم رأي آخر، فالله يُنيرُهُ لكم. اما الآن، فلنلازم خط سيرنا حيث بلغنا" (في 3 :15-16).

 

اليوم، يساعد الاستمرار بالحوار بين الأديان على محاربة التعصب والتَطَرُف، لكن من الضروري معرفة كيفية التعبير عن التحفظات والآراء والخلافات بروح منفتح مع الالتزام بالاحترام المتبادل وقبول الآخر بكل اختلافاته. ودعوتي الأخيرة ان نترك جانباً اختلافاتنا التحزبية والمذهبية والعقائدية (شيعي، سني، كلداني، سرياني، اشوري…الخ) على جنب وقبول الآخر على انه انسان فقط لا غير، هكذا تقدمت وتطورت المجتمعات الغربية؛ فمتى نبدأ نحن؟