موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
قبل أسبوع من استهداف العدوان الإسرائيلي كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية في غزة في 19 تشرين الثاني 2023، واستشهاد 17 شخصًا من مسيحيي القطاع، وجّه الراعي السابق لكنيسة اللاتين في غزة الأب مانويل مسلّم، رسالة إلى أهالي غزة وضمنهم مسيحييها، مفادها: "يا أهلنا في غزة، الصمود الصمود على كل شبر من الأرض، الثبات الثبات على كلّ حبّة رمل، إن قصفوا منازلكم فاحذروا أن يقصفوا إرادتكم وشجاعتكم، إن رحل بيتكم بالهدم فلا ترحلوا أنتم. اليوم يوم التحرير وقهر الغزاة، وما يحدث في غزة اليوم هو انتصار لقضيّتنا، ما يحدث اليوم هو أول بُشرى بتحقيق عودتنا، اليوم ليس يوم الرحيل بل يوم العودة، من رحل منكم فليعد إلى بيته المهدّم وليسكن على أنقاضه”. ثم خاطب الأب مسلّم العالم الذي “يدعي وينادي بحقوق الإنسان وكرامته وحريته” كما وصفه، ليحمّله مسؤولياته: “إسرائيل تهدم بيوت المدنيين على رؤوس أهلها الأبرياء، لأنها لا تحارب العسكر بل المدنيين، مئات النساء والأطفال والشيوخ يذبحون بأمر عسكري، هذه الأفعال جرائم حرب ضد إنسانية الإنسان وضد القانون الدولي وضد ضمائر كل الأحرار في العالم. فلماذا تسكتون وتتغاضون عنه؟ صمتكم يعني مشاركتكم في الجريمة، يجب عليكم أن توقفوا هذه الوحوش المجنونة".
بعد مأساة قصف الكنيسة الأرثوذكسية، نقل القس الدكتور متري الراهب، من الكنيسة البروتستانتيّة اللوثريّة ورئيس جامعة دار الكلمة في بيت لحم، والتي تملك فرعًا في غزة، للمفكرة عن مسيحيي القطاع قولهم "هذه بلدنا وهنا ولدنا وهنا عشنا وهنا نموت"، موقف يتناغم مع نداء الأب مسلّم، والأهمّ يعكس علاقة مسيحيي غزة بأرضهم ووطنهم وقضيّتهم تاريخيا ولغاية اليوم. هم الذين سجّوا شهداء الكنيسة أرضًا ولفّوهم بالخرَق البيضاء كما إخوانهم في غزة بعدما نفدت الأكفان ثم دفنوهم في مقبرة الكنيسة، من دون توابيت خشبية، خلافا لما درجت عليه عوائد المسيحييين.
وذهب بيان البطريركية الأرثوذكسية في القدس، والتي تملك الكنيسة المستهدفة في غزة، في الاتجاه نفسه. فقد أكّدت أنها "مصممة على مواصلة أداء واجبها الديني والأخلاقي بتقديم المساعدة والدعم والمأوى للأشخاص الذين يحتاجون إليها، حتى وسط المطالب المستمرّة من الجانب الإسرائيلي بإخلاء تلك المؤسسات من المدنيين، والضغوط التي تمارس على الكنائس في هذا الصدد". واعتبرتْ البطريركيّة أنّ "قصف الكنائس ومؤسساتها، التي توفر الملاجئ لحماية المدنيين الأبرياء، وخاصة الأطفال والنساء الذين تشردوا بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية على المناطق المأهولة بالسكان تشكل جريمة حرب لا يمكن تجاهلها".
وصدمة استهداف الكنيسة الأرثوذكسية دفعت بعائلات مسيحية غزاوية إلى تنظيم معمودية جماعية للأطفال تحت نيران العدوان "تحسبًا للموت نتيجة القصف الإسرائيلي على قطاع غزة في الوقت الراهن"، وفق ما عبّر عنه المطران عطا الله حنا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس. وقد أوضح عطالله في بيانه أن "المعمودية الجماعية لأطفال غزة أجريت في الكنيسة الأرثوذكسية، وجاءت بناء على رغبة الأهالي، لينال أطفالهم سرّ العماد المقدس، في حال تعرضوا لأيّ سوء".
وتحت عنوان "إلى جنات الخلد أيها الأقمار"، نعت مجموعة الكشافة الأرثوذكسية العربية بغزة في 11 تشرين الأول من أسمتهم "شهداء الحركة الكشفية الكشاف المتقدم يامن محمد أبو كميل وعمه القائد جلال يوسف أبوكميل بقصف الطيران الاسرائيلي المحتل"، على صفحتها على فايسبوك.
ولم يقتصر الاستهداف العدواني الإسرائيلي لمسيحيي غزة على استشهاد 17 من بينهم، بل استشهد أيضًا ثلاثة فنانيين من المتطوعين في الأنشطة والخدمات التي تقدمها مؤسسات كنسية، وهم الفنانة التشكيلية هبة زقطوط، والفنان الأدائي محمد سامي الذي استشهد عندما كان بصدد تنظيم أنشطة مسرحية وغنائية للأطفال النازحين إلى المستشفى المعمداني ليرفّه عنهم فقتلته إسرائيل مع الأطفال كلهم الذين تحلقوا حوله في دائرة كبيرة، كما استشهدت الفنانة التشكيلية حليمة الكحلوت التي كانت تتطوع في أنشطة لخدمة الغزاويين عبر جامعة دار الكلمة ومؤسسات أخرى.
ومع البشر الذين استشهدوا بالقصف سواء في الكنيسة أو خارجها، دمّرت إسرائيل اليوم غالبية منازل المسيحيين في حي الرمال في غزة، وهو حي ميسور يتميز بالفلل في المدينة، فيما يقطن المهجّرون من الداخل الفلسطيني المحتل إلى القطاع إثر النكبة حول الكنائس في غزة القديمة، وهؤلاء لم يوفرهم القتل والقصف الإسرائيلي أيضًا.
وعلى صعيد استهداف المؤسسات المسيحية، وقبل يومين من تدمير جزء من الكنيسة الأرثوذكسية، وهي ثالث أقدم كنيسة في العام حيث يعود بناؤها الأوّل إلى بداية القرن الخامس الميلادي، ارتكبتْ إسرائيل مجزرة المستشفى الأهلي-المعمداني التابع للكنيسة الأسقفيّة في 17 تشرين الأول، موقعة 500 شهيد جلّهم من النساء والأطفال. وبتاريخ 31 تشرين الأول، دمرت إسرائيل المركز الثقافي العربي الأرثوذكسي في القطاع الذي افتتح في 17 أيلول 2021، ولم يوضع في الخدمة الفعليّة إلا قبل 6 أشهر فقط من العدوان بكلفة بلغت 16 مليون دولار، وفق ما أكده رئيس جامعة دار الكلمة -بيت لحم، القسّ الدكتور متري الراهب، من الكنيسة اللوثرية الأسقفية، للمفكرة القانونية. ويُعتبر المركز من أبرز المؤسسات الثقافية والإجتماعية والرياضية والشبابية والفنية في القطاع. وقد منح أرضه للكنيسة الرئيس الراحل ياسر عرفات لبنائه عليها. ويمتد المركز على مساحة 5500 متر مربع، مليئة بقاعات المسرح والتدريب والأنشطة والرياضة ومختبر الكمبيوتر، وكان يستفيد من خدماته نحو 200 ألف من مختلف فئات وانتماءات أهل القطاع.
بعد استهداف الكنيسة الأرثوذكسية التي لجأ إليها عشرات الغزاويين وبينهم عائلات مسيحية "تظللا بحرمتها كأحد بيوت الله" وفق تعبير القسّ الراهب، تحميهم من العدوان، بدا جزء كبير من متابعي حرب الإبادة الجماعية على غزة، والتطهير العرقي الإسرائيلي، متفاجئين بوجود مسيحيين فلسطينيين في القطاع، ظنا منهم أن المسيحيين الفلسطينيين يتمركزون في بيت لحم والناصرة والقدس.
ويوضح الراهب أن "ما لا يعرفه كثيرون أن أسقفين من غزة شاركا في المجمّع المسكوني الأول الذي عُقد في مدينة نيقيا في عام 325 ميلادي، كما أنه في نهاية القرن الرابع عاش أكثر من قديس في غزة، أحدهم هيلاريون، وهو أول قديس خرج من غزة. وفي القرون الوسطى، خرج أيضا لاهوتيين مشهورين من غزة، ومنهم سليمان الغزي في القرن الثاني عشر وكتب ترانيم وكتابات لاهوتية عدة باللغة العربية"، مضيفًا "وبالتالي هناك دور مهم لمسيحيي غزة على مدى العصور، وما زال".
هذا الدور، تعكس بعضه اليوم في خضم الحرب العدوانية غير المسبوقة على غزة، مرسلات المحبة، راهبات الأم تيريزا، اللواتي يعتنين بأكثر من 70 من المسنين والأشخاص من ذوي الإعاقة، وما زلن لغاية الساعة، رغم القصف الإسرائيلي الذي يزرنّ محيطهن. رفضت الراهبات مغادرة غزة وترك 600 شخص يقدّمن لهم ولهن الرعاية بعدما لجأوا إلى الكنيسة، وفق ما أكد مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن الأب رفعت بدر، للمفكرة. وقد وثّقت بي بي سي عربية رفض راهبتين من البيرو ضمن مجموعة راهبات الأم تيريزا هما ماريا ديل بيلار وماريا فارغاس، محاولات القنصلية البيروفية ترتيب إجلائهما، لكنهما أبتَا، مع الأخوات الراهبات الفلسطينيّات ترك من يحتاجون لرعايتهن.
والعام 2023 هو عام اليوبيل الذهبي لراهبات مرسلات المحبّة للقديسة تيريزا في غزّة، اللواتي كن أنشأن إرساليتهن الخيرية في 26 شباط 1973. وعليه، عاشت الراهبات العديد من الحروب المتتالية على القطاع، وصمدن في خدمة الناس والمشرّدين وأعداد كبيرة من اللاجئين والفقراء وهنّ يواظبن على زيارة مئات البيوت من الفقراء والمحتاجين والمرضى. وينقل عن راهبات المحبّة بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا، الذي يخصص مكالمة لمدة 10 دقائق يوميًا لرعية اللاتين في غزة، إن "أخواتنا في غزة يذهلنني، دائمًا ما تكون البسمة في أصواتهن رغم القنابل ونقص كل شيء"، وفق ما اوردته صحيفة لاكروا الفرنسية، تحت عنوان مقتبس من إحدى رسائلهن "نحيا معًا ونموت معًا، لقد اختار مسيحيو غزة البقاء" كرد على الإنذارات الإسرائيلية بإخلاء شمال غزة. ويكمل هؤلاء يومياتهم حيث "لم تعد الأمور تحت السيطرة –كما يقول بيتسابالا- حيث لا يوجد ماء ولا مرافق صحية كافية للجميع، ولا فرش ولا بطانيات كافية. إنهم يعيشون ساعتهم دون التفكير في الغد. لقد وضعوا حياتهم بالكامل في يد الله، وهم ينشدون مساعدته لهم دائمًا".
ونقل الأب بدر للمفكرة رسالة من راهبة الوردية مارتينا بدر، وهي ابنة خالته، من داخل غزة تقول فيها: "أخبروا العالم أننا اليوم نعيش مثل المسيحيين الأوائل، كل شيء مشترك بيننا، نتقاسم بعض ما تبقى من الغذاء ونحاول بثّ الرجاء في نفوس شعبنا وعائلاتنا، ولن نترك غزة"، ليصف ما يقومون به "بالعمل البطولي، كما جميع أهل القطاع".
وتشكّل مؤسّسات راهبات المحبة وراهبات الوردية وكنيسة العائلة المقدّسة جزءًا من المؤسسات المسيحية التابعة للكنائس في غزة، والبالغة 18 مؤسّسة تتوزع بين المستشفى المعمداني (الأهلي) (استهدفه العدوان الإسرائيلي وسقط بنتيجته 500 شهيد في 17 تشرين الأول 2023) ومؤسسات أخرى رعائية واجتماعية وثقافية ورياضية وتربوية، تنشط جميعها في خدمة أهل القطاع من الطوائف كافة، وفق ما توثقه دراسة "خريطة المنظمات المسيحية في فلسطين: التأثير الاجتماعي والاقتصادي" الصادرة عن جامعة دار الكلمة في بيت لحم والبعثة البابوية في القدس.
بقي في غزة اليوم ما بين 1000 و1200 مسيحي، ثلثيهم من الكنيسة الأرثوذكسية والثلث الثالث من الكنيسة اللاتينية، وهناك أقلية من البروتستانت والأقباط، بعدما كانوا يناهزون 3000 مسيحي، وفق القسّ الراهب. ويعتبر رئيس جامعة دار الكلمة أن "أصول نصف هؤلاء ضاربة في التاريخ الغزاوي، كون غزة كانت مدينة تجارية مهمّة، سكنها المسيحيون من القرن الأول ميلادي لتتمثل في القرن الرابع في مجمع نيقيا بأسقفين منها". أما النصف الآخر فقد لجأوا إلى غزة بعد النكبة من يافا واللدّ وتشردوا كما بقية الفلسطينيين الذين تعرضوا لتطهير عرقي في 1948.
وكما تمنع إسرائيل المسلمين في غزة من الصلاة في المسجد الأقصى، كذلك المسيحيون، يحول الاحتلال الإسرائيلي بين أهل القطاع وزيارة الأماكن المقدسة سواء في القدس أو بيت لحم والناصرة. ومن يحصل من المسيحيين على إذن، وغالبًا ما يُمنح فقط، إذا مُنح، للنساء والأطفال، قد يبقى بعضهم في بيت لحم "ويتحوّل هؤلاء إلى سجناء في المدينة بسبب عدم حيازتهم على إقامات تمكّنهم من التنقل ويعيشون في وضع يرثى له"، يؤكد الراهب.
ويتعرّض أهالي القدس والضفة الغربية اليوم، كما في السابق، وفق الراهب "لاعتداءات من المستوطنين الإسرائيليين الذين يحطّمون بعض الكنائس ويبصقون على الرهبان وعلى صلبان الكنائس في القدس الشرقية ويكتبون الموت للعرب والمسيحيين والأرمن، ويحاولون الاستيلاء بطرق ملتوية على أهم المواقع المسيحية في القدس ومنها عدة أبنية لكنيسة الروم الأرثوذكس ومباني ومرافق للكنيسة الأرمنية"، وكذلك أدت الممارسات العدوانية الإسرائيلية على غزة أيضاً إلى تهجير أهلها من المسيحيين كذلك؟
ويقول القس الدكتور متري الراهب للمفكرة "أن قطاع غزة عبارة عن سجن كبير مفتوح يتعرّض للعدوان وقتل أهله بشكل دائم حيث خيضت على غزة خمسة حروب مدمرة خلال 15 سنة، استخدمت فيها إسرائيل أسلحة مسمّة وخطيرة وضمنًا الفوسفور الأبيض وبشكل ممنهج"، ليسأل "كيف نلوم من يهاجر من منطقة قالت عنها الأمم المتحدة في تقرير أصدرته قبل 10 سنوات أن الحياة في غزة في 2020 ستكون شبه مستحيلة". ويضيف الراهب "أن الهواء والبحر ملوثيّن، وهم مثلهم مثل بقية الشعب الفلسطيني مستهدفين بشكل مباشر كبشر ومؤسسات وكنائس، ومع ذلك يردّون برفع أصواتهم بالقول: "هذه بلدنا، هنا ولدنا، وهنا عشنا وهنا نموت". وهذا لا يمنع أن البعض تهجّروا بفعل ممارسات العدوان على كل القطاع بعضهم إلى الغرب والبعض الأخر ممن تمكنوا من دخول بيت لحم في فترة أعياد الميلاد بقيوا فيها".
يعمل مسيحيّو غزة بعضهم في التجارة وصاغة مجوهرات، والبعض الأخر كموظفين في المؤسسات المسيحية ولهم امتدادات إلى الأردن وفلسطين أيضًا. عاش هؤلاء فترتهم "الذهبية" كما يصفها الراهب، عند دخول السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد اتفاق أوسلو حيث "اهتم بهم الرئيس الراحل ياسر عرفات وأعطى الكنيسة الأرثوذكسية الأرض التي بنت عليها المركز الثقافي الذي دُمّر، ودعمت بناءه يومها اللجنة الرئاسية لشؤون الكنائس". وهو يؤكد أن العلاقة مع حماس "كانت طبيعية، ولكن بعض التكفيريين من الإسلاميين المتشددين في غزة، وليس من حماس، قتلوا شابّا كان لديه مكتبة مسيحية في القطاع وهو ما أدى إلى بعض التوتر وإقفال المكتبة".
لكن دور المسيحيين وعلاقتهم بمحيطهم نجده ليس فقط في العلاقة مع القوى الحاكمة، بل تتخطّاها إلى المجتمع الأهلي للقطاع. وتسلط دراسة "خريطة المنظمات المسيحية في فلسطين: التأثير الاجتماعي والاقتصادي"، الصادرة في 2021، الضوء على التأثير الذي تحدثه المؤسسات المسيحية في فلسطين. وهو ما يُظهر، ما تسميه، "الشعور بالمسؤولية الثقافية والاجتماعية بين الفلسطينيين نحو خدمة المجتمع بغض النظر عن المعتقد الديني أو الوضع الاجتماعي أو الانتماء السياسي".
وتبين أن أكثر من 90% من المستفيدين من هذه المنظمات هم من غير المسيحيين من مختلف أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، علمًا أن مجموع المستفيدين الموثقين في الدراسة يبلغ مليون و926 الف و155 فلسطينيا في فلسطين المحتلة وقطاع غزة. ووفقا للتوزيع القطاعي يبلغ عدد المستفيدين في القطاع الصحي 679 الف و838 فلسطينيا/ة، و181 الف و941 فلسطينيا في قطاع التربية، و593 الف و762 فلسطينيا من المؤسسات التنموية، و417 الفا في قطاع الثقافة والسياحة، والبقية من الفتية/ات وعنصر الشباب في المؤسسات الكشفية (32 فوجا في كل فلسطين)، وبين المشمولين بالخدمات 2000 تلميذ وتلميذة، على سبيل المثال لا الحصر، في مدرسة راهبات الوردية المقدّسة-غزة، ومدرسة العائلة المقدسة-غزة وحدهما، معظمهم من الغزّاويين المسلمين، مقابل 180 تلميذًا مسيحيًّا.
وفي هذا الصدد، يرى رئيس مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية الوزير السابق الدكتور في العلوم السياسية طارق متري للمفكرة أن دور الكنائس والمنظمات المسيحية الغربية كان كبيرا في إغاثة الفلسطينيين أيام نكبة 1948، وتعزز هذا الدور على مرّ السنوات، واتخذ دوما طابع التضامن مع الشعب الفلسطيني، لا المسيحيين وحدهم. ويرى أن المؤسسات التربوية والصحية سابقة للنكبة، ومعها وبعدها تحدّثت وصارت، بمعظمها، بإدارة فلسطينية، وإن بتمويل غربي، يأتي من ميزانيات الكنائس أو من تبرعات مخصصة لفلسطين. ويشير إلى أن للمؤسسات الكاثوليكية حصة كبيرة من العمل الإنساني في فلسطين، "لكن مساعدات الكنائس البروتستانتية الأوروبية والأميركية ليست أقل منها، وربما كانت اكبر"، ويعزو ذلك إلى دوافع متعددة، منها التضامن الإنساني والقوي بين الفلسطينيين ومعهم والرغبة في دعم وجود المسيحيين في فلسطين، وثباتهم في أرضهم وخدمةً مجتمعهم، وهو توجه قويّ أيضًا".
يرغب رئيس جامعة دار الكلمة- بيت لحم، ولها فرع في غزة، القس الدكتور متري الراهب أن يبدأ حديثه مع المفكرة عن علاقة مسيحيي فلسطين عامة وغزة "في قلبها" كما يقول، بوطنهم وناسهم الذين يتشاركون معهم كل شيء وعلى رأسه المعاناة من الاحتلال الإسرائيلي الذي كان السبب الرئيسي في تقلص أعداد المسيحيين وتهجيرهم. ويستشهد الراهب بدراسة جامعة دار الكلمة والبعثة البابوية في القدس، ليقول أن هناك نحو 300 مؤسسة كنسية في فلسطين، يعمل بها حوالي 10 آلاف شخص لتشكل ثالث أكبر مشغل بعد السلطة الفلسطينية (155 ألف موظف/ة) والأونروا (17 ألف و767 موظف/ة). وهي تستثمر نحو 416 مليون دولار أمريكي سنويًا عبر قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والتدريب المهني والإنماء، “وهو ما يوازي ما تقدمه الدول المانحة لفلسطين"، حسب الراهب.
ووفق الدراسة التي حصلت عليها المفكرة، تعدّ الرعاية الصحية أكبر قطاع تخدمه المؤسسات التابعة للكنائس في فلسطين (CROs) ولديها أكبر ميزانية تشغيلية تبلغ 162,096,706 دولارًا أمريكيًا، وتغطي 19 منشأة للرعاية الصحية. توظّف هذه المرافق 2,452 موظفًا طبيًا وإداريًا وتشغيليًا في المستشفيات والعيادات ومراكز الرعاية الصحية الأولية الكبرى التي تخدم أكثر من 680,000 مريض فلسطيني سنويًا.
ويأتي التعليم بعد الصحة، رغم إتاحته للعدد الأكبر من فرص العمل حيث يضم 4616 موظفًا. وبناءً على ميزانيته التشغيلية السنوية، يعد ثاني أكبر قطاع تستهدفه المنظمات الإقليمية من خلال شبكة مكونة من 93 منشأة تعليمية: جامعتين (جامعة بيت لحم وجامعة دار الكلمة)، و76 مدرسة وروضة أطفال، وتسعة مراكز للتدريب المهني، وأربعة معاهد للدراسات اللاهوتية، ومطبعتين تخدمان 181,941 طالبًا، كما الباحثين الداخليين والخارجيين في المدارس والجامعات. ويبلغ إجمالي الميزانية التشغيلية السنوية لهذا القطاع حوالي 118 مليون دولار أمريكي، ما يقارب 9% من إجمالي إنفاق السلطة الفلسطينية التي يبلغ إنفاقها السنوي على هذا القطاع مليار و41 مليون دولار.
وتؤمن المؤسسات العاملة في التنمية فرص عمل ل 449 موظفًا يخدمون 593,762 فلسطينيًا من جميع الخلفيات، بميزانية تبلغ 74 مليون دولار أمريكي للخدمات الإنسانية والتنموية المتنوعة للاجئين الفلسطينيين، والمجتمعات المحرومة من النساء والشباب، والأشخاص ذوي الإعاقة، والأطفال المهمشين، والمشاريع الزراعية، وترميم المنازل، والإسكان المدعوم، وخدمات حقوق الإنسان، وفرص تعليمية جيدة للمعوزين.
وإضافة إلى فرع جامعة دار الكلمة، تبلغ حصة غزة 18 مؤسسة تنشط في مختلف المجالات من بينها 6 مراكز صحية يعمل بها 308 موظفين وتخدم 169 ألف و690 فلسطينيا في القطاع، و5 مؤسسات تربوية أكاديمية ومهنية يعمل فيها 259 موظفا وتخدم 2685 فلسطينيا، إضافة إلى مؤسسات ثقافية وتنموية وتدريبية ورعائية، عدا عن داريْ رعاية الأطفال والمسنّين من ذوي الإعاقة التابعين لراهبات مرسلات المحبة- القديسة تيريزا.
وتورد الدراسة في جدول المؤسسات الكنسية في غزة كلا من مدرسة المنارة ومدرسة العائلة المقدسة غزة، ومدرسة راهبات الوردية – الزيتون والمدرسة الأرثوذكسية اليونانية ومجلس كنائس الشرق الأدنى – NECC، للبرنامج المهني دير البلح والمركز الثقافي العربي الأرثوذكسي (دمرته إسرائيل) وجمعية الشبان المسيحية – غزة (النادي الاجتماعي)، خدمات الإغاثة الكاثوليكية CRS غزة، ووورد فيزيون world Vision غزة، والمستشفى الأهلي -المعمداني وعيادة كاريتاس-غزة ومجلس كنائس الشرق الأدنىNECC-غزة وتتبع له عيادات في كل من القرارة أو الكرارة والشجاعية وخان يونس، إضافة إلى مستشفى سانت جون للعيون، إضافة إلى فوجي كشاف هما فرقة الكشافة العربية الأرثوذكسية-غزة، وفرقة القديس يوسف الكشفية -غزة، ويشكل الفوجان جزءا من 32 فرقة كشفية مسيحية وستة برامج للشباب تديرها منظمات المجتمع المدني في فلسطين.
بعد حديث طويل عن المسيحيين في فلسطين وغزة، نسأل القسّ الدكتور متري الراهب، من الكنيسة البروتستانتيّة اللوثريّة ورئيس جامعة دار الكلمة: هل تخاف على الوجود المسيحي في غزة اليوم، هل سيهاجرون؟ تكتسب ملامح القسّ حزناً عميقًا مكان كل تلك المحبة التي كان يتحدث بها عن علاقة مسيحيي القطاع بفلسطين وغزة في قلبها، ليقول "أولاّ لنسأل هل سيهجّرون؟"، ليجيب نفسه: "رغم كل تعلقهم بأرضهم وقضيتهم وحضورهم القوي والفعّال، إلاّ أنني أعتقد أنّ المسيحية ستنقرض في غزة لاختلاف هذه الحرب عن الحروب الأخرى. لن تبقي إسرائيل في غزة شيئاً، وقد خسر الناس أرواحهم ومؤسساتهم وأعمالهم وأملاكهم ومنازلهم". نسأل الدكتور الراهب مجددًا: "هل تتحدّث بناء على مؤشرات معينة أو معلومات؟" فيجيب: "مؤشراتهم تقول هنا ولدنا، هنا عشنا، وهنا نموت معًا، لكنني أفكّر انّ مقولتهم تعبّر عن روحهم الوطنية والمسيحية. ولكنني أخشى أن الواقع على الأرض والتدمير الشامل والكامل للعدوان الإسرائيلي لن يترك أملاً لمسيحيي غزة".
(المفكرة القانونيّة)