موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مستشفى سان جيراردو
بعد أيامٍ من تقديم كارلو أكوتيس معاناته بمرض سرطان الدم على نيّة البابا بندكتس السادس عشر وخير الكنيسة الكاثوليكية، لفظ الشاب ذو الخمسة عشر ربيعًا أنفاسه الأخيرة في جناح أورام الأطفال بمستشفى سان جيراردو في مدينة مونزا الإيطاليّة، في 12 تشرين الأوّل 2006 – وهو اليوم الذي سيُعترف به عن قريب كعيدٍ لأوّل قديس من جيل الألفية الجديدة.
يستذكر الأطباء في مستشفى سان جيراردو شجاعة الصبي ومحبته وتعاطفه خلال علاجه من مرض السرطان. وشهد كاهن المستشفى الذي منح كارلو أكوتيس الأسرار المقدّسة الأخيرة بأنّه "اندهش من رباطة جأشه وتفانيه" اللذين أظهرهما كارلو أثناء تناوله القربان الأقدس قبل دخوله في غيبوبة بسبب نزيف في المخ ناجم عن سرطان الدم النخاعي الحاد.
لكن أكوتيس لم يكن أول قديس يقضي أيامه الأخيرة في هذا المستشفى قبل أن يتنقل إلى السماء.
يوم الجمعة العظيمة عام 1962، دخلت جيانا مولا، وهي طبيبة وأم كاثوليكيّة تبلغ من العمر 39 عامًا، المستشفى لتلد طفلها الرابع. كان المستشفى نفسه الذي اختارته طبيبة الأطفال الشابة لتلد فيه أطفالها الثلاثة السابقين، ولكن هذه المرّة كان المستشفى أيضًا موقعًا لقرار طبي حاسم. فبعد تشخيص إصابتها بورم في الرحم في مرحلة مبكرة من الحمل، رفضت مولا الإجهاض واستئصال الرحم للحفاظ على حياة طفلتها التي لم تولد بعد.
وعلى غرار أكوتيس، دخلت مولا المستشفى وهي مستعدّة للتضحيّة بحياتها وتقديم معاناتها للآخرين، حيث قالت لزوجها بيترو: "إذا كان عليك الاختيار بيني وبين الطفلة، فلا تتردد... أنقذها". أنجبت مولا ابنة سليمة، جيانا إيمانويلا، بعملية قيصرية يوم سبت النور.
بعد ذلك بوقت قصير، ساءت حالة مولا بسبب ظهور التهاب في الغشاء البريتوني (الصفاق). وخلال الأسبوع التالي في المستشفى، رفعت صلوات قصيرة: "يا يسوع، أحبك" و"يا يسوع، ساعدني". أرادت تناول القربان الأقدس، ولكن بسبب تقيؤها المتكرّر، لم تتلقَ سوى قطعة صغيرة من القربان على شفتيها. نُقلت إلى منزلها خارج ميلانو صباح 28 نيسان، حيث توفيت في ذلك اليوم.
تصوير: كورتني ماريس / National Catholic Register
يضم مستشفى سان جيراردو، وهو مستشفى عام رئيسي للأبحاث والتعليم في الضواحي الشماليّة الشرقيّة لميلانو، كهنة مقيمين بشكل كامل في غرف نوم صغيرة داخل المستشفى، ليكونوا متاحين على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لتلبية احتياجات المرضى الروحيّة.
يُطلق الأب ريكاردو برينا، أحد هؤلاء الكهنة، لصحيفة "ناشونال كاثوليك ريجيستر"، على مستشفى سان جيراردو اسم "مستشفى القديسين" - ليس فقط لمرضاه القديسين، ولكن أيضًا للشفاءات العجائبيّة المرتبطة بغرفه.
إحدى هذه المعجزات كانت مع بيترو شيليرو، الذي وُلد في مستشفى سان جيراردو عام 2002 بتشوه رئوي حاد. ساءت حالته، مما دفع والديه إلى طلب منحه سرّ المعموديّة على وجه السرعة في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة. بعد شهر واحد في المستشفى، ورفع تساعيّة لوالدي القديسة تريزا الطفل يسوع -لويس وزيلي مارتان- تحسّنت صحة المولود الجديد بشكل كبير بين عشية وضحاها. وقد اعترف الفاتيكان بالدعوى كمعجزة عام 2008، وهي الأولى من معجزتين أدتا إلى تقديس لويس وزيلي مارتان، ليصبحا أول زوجين يُعلنان قديسين معًا.
في عام 2014، أنجبت أم حامل، تلقت العلاج في سان جيراردو بعد نزول ماء الحمل في الأسبوع الثالث عشر، بعد أشهر (في مستشفى آخر) طفلًا سليمًا يوم عيد الميلاد - وهي معجزة نُسبت إلى البابا بولس السادس، ممهدة الطريق لتطويبه.
ونظرًا لهذه الشفاعات، قد لا يكون من المفاجئ أن يكون هذا المستشفى قد أسّسه قديس أيضًا. احتفل المستشفى العام الماضي بمرور 850 عامًا على تأسيسه من قبل القديس جيراردو دي تينتوري لمساعدة الفقراء والمرضى عام 1174. وقد نُسبت معجزات كثيرة إلى القديس جيراردو في القرون التي تلت وفاته، لدرجة أن القديس تشارلز بوروميو حقق في 20 منها عندما كان رئيس أساقفة ميلانو.
وعلى مرّ القرون، نُقل مستشفى سان جيراردو ووُسِّع عدة مرات، مع الحفاظ على اسم القديس. وما زال المستشفى الإيطالي قيد التطوير؛ إذ يخضع الطابق الحادي عشر حاليًّا، حيث عولج القديس المستقبلي كارلو أكوتيس، لتجديدٍ شامل.
تصوير: أنتوني جونسون / EWTN
تحتوي الكنيسة الرعويّة داخل المستشفى على ذخائر تعود إلى القرن الثاني عشر، بالإضافة إلى ذخائر كارلو أكوتيس ولويس وزيلي مارتان. ويستخدم الأب برينا هذه الذخائر كثيرًا في خدمته في المستشفى، حيث يُصلي مع العائلات المكلومة ويُقدّم الأسرار المقدّسة للمرضى. يقول: "آمل أن يُساعد هذا الكثير من الناس على الإيمان والرجاء بالرّب، فهو قريب من المتألمين".
ويوضحّ الكاهن الإيطالي، مرتديًا معطفًا أبيض فوق زيه الرسمي، أنّه يعتبر خدمته الرعويّة في المستشفى "رسالة"؛ فهو يُعمّد الأطفال الذين يموتون في غضون ساعات من ولادتهم، ويقضي وقتًا مع مرضى السرطان، ويرافق كبار السن في ختام حياتهم، مُقدّمًا لهم عطايا القربان الأقدس وسرّ الاعتراف وزيت مسحة المرضى، والصلوات من أجل الشفاء. ويتمثل جزء كبير من خدمته في الاستماع إلى حياة الناس وقصصهم.
كما يُعنى بموظفي المستشفى الذين يحتاجون إلى دعم روحيّ وهم يشهدون معاناةً وموتًا وفقدانًا. ومع وجود أكثر من 600 مريض في المستشفى، يُقرّ الكاهن بأنّه لا يستطيع الوصول إلى الجميع. في نهاية كل يوم، يطلب من الرب أن يكون قريبًا ممن لم يستطع زيارتهم.
يقول الأب برينا: "بكلّ إيمان، أعلم أنّ الرّب يأتي حين أكون عاجزًا، لأنّ نعمة الله في عجزنا تُؤثر أكثر منا". ويشجّع الكاهن من يدخلون كنيسة المستشفى على الصلاة، كما فعل أكوتيس، أمام بيت القربان، وعلى لقاء يسوع في سرّ القربان الأقدس.
تصوير: أنتوني جونسون / EWTN
يساعده أيضًا القديسون المرتبطون بالمستشفى في خدمته.
يسرد الأب برينا قصة زوجين كان ابنهما الصغير، بيترو كارلو، يُعالج في المستشفى بسبب التهاب خطير في ساقه. كانا يصليان يوميًّا طلبًا شفاعة أكوتيس، مُحافظين على صورته بجانب سرير الطفل، وطلبا تناول القربان الأقدس يوميًّا اقتداءً بكارلو. توقّع الأطباء إقامةً لمدة ثلاثة أشهر، إلا أنّه تعافى في غضون شهرين، "بفضل كارلو"، كما أضاف الكاهن.
قال الأب برينا، الذي عُيّن مرشدًا روحيًّا في المستشفى عام 2022 بعد سنوات من خدمته كاهن رعيّة، إنّ هذه الخدمة قد عمّقت إيمانه. وروى أنه رأى موظفي المستشفى يجمعون الأموال لشراء ملابس لمريض مشرّد حتى يتمكن من الخروج بكرامة.
وقال: "المستشفى يُعالج الجميع - الأغنياء والفقراء، الجميع".
صرح الدكتور كلاوديو كوجلياتي، رئيس مستشفى سان جيراردو بأنّه يُخطّط لافتتاح فسحة هادئة في حرم المستشفى تُسمّى "حديقة القديسين"، وهي عبارة عن مسار مُحاط بالأشجار، مُزود بمقاعد ولافتات تحمل قصص القديسين المرتبطين بالمستشفى. كما يُجهز المستشفى معرضًا حول "جمال الصليب"، يُعرض فيه 20 من أشهر صور الصليب عبر التاريخ.
قال الأب برينا: "لا أحد يُريد أن يُعاني. لكن استقبال المعاناة وقبولها يعني، للكاثوليكيّ، أن يُوحدّها مع صليب يسوع... يُصبح هذا الصليب أخف وزنًا وأقل ثقلًا عند تقديمه إلى صليب يسوع". وكثيرًا ما يُذكّر الكاهن المرضى بأن "الموت ليس نهاية كل شيء، بل هو اكتمال الحياة"، موضحًا أن أكوتيس يُعلمنا أن قيمة الحياة لا تكمن في عدد السنوات التي نعيشها، بل في كيفية عيشنا كل يوم بنعمته.
تشتهر مدينة مونزا الإيطاليّة بحلبة سباق الفورمولا 1، التي تمر على مقربة شديدة من المستشفى، لدرجة أن الأطباء يقولون إنه يمكنك سماع هدير سيارات السباق يوم سباق الجائزة الكبرى.
بالنسبة لقديس المستقبل كارلو أكوتيس، والمعروف بتسميته "طريقي إلى الجنة"، كان مستشفى سان جيراردو المحطة الأخيرة في "طريقه إلى السماء". ويحمل تقديس الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، والذي توفي بسبب السرطان، رسالة خالدة لعائلات المرضى الذين يتلقون العلاج في ذلك المستشفى: إنّ الله قادر على إخراج الخير حتى من أسوأ المآسي.