موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٩ يوليو / تموز ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد السادس عشر من الزمن العادي، ج، 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

في تاريخ الخلاص، كلّما دخل الربّ بيت إنسان أو حياته، كان ذلك إيذانًا ببداية جديدة. فقد يتحوّل شخص عاديّ، رجلًا كان أم امرأة، إلى قائد يُغيّر مجرى التاريخ، كما حدث مع موسى؛ وقد تحبل امرأة عاقر كانت قد فقدت الرجاء، كما جرى مع سارة؛ وقد يُقام ميت من القبر، كما حصل مع لعازر. حين يتدخّل الربّ، لا تعود القصة كما كانت، بل تنفتح على أفق جديد بالكامل.

 

وغالبًا ما يأتي هذا التدخّل الإلهي في لحظات اليأس: شعب مستعبد ومنهك، زوجان عاقران، أعداء يُحاصرون ولا يتركون سبيلاً للنجاة. إنما يحدث كل ذلك ليظهر بوضوح أن الله هو من يصنع الخلاص، وأن خلاصه عطية مجانيّة لا تُشترى ولا تُكتسب، بل تُمنح بمحبة خالصة. إنّه يختار من هو فقير وضعيف، لأنه يحبّه، ولأنه بحاجة إلى الخلاص.

 

لكن هذا اللقاء مع الله لا يتمّ بسهولة، ولا يحدث بشكل مباشر أو تلقائي. بل يمرّ عادةً بأزمة داخلية، لأنّه يستدعي التخلّي عن ما هو قديم، والانفتاح على ما هو جديد. يتطلّب أولًا وقبل كل شيء، الإيمان، كما فعل النبي إبراهيم. وها نحن نرى هذا كلّه يتجسّد اليوم في بيت أختين: مرتا ومريم (لوقا 10: 38-42).

 

دخل يسوع بيتهما، لأنّ الربّ هكذا يفعل: يأتي ويدخل ويحلُّ ضيفًا. لا يطلب شيئًا، على عكس عظماء الأرض. يأتي من أجل الصداقة. لا يطلب شيئًا، بل حين يأتي، يمنح شيئًا لا يمكن لأحد سواه أن يعطيه: كلمته وذاته. وهذا ما يحدث الآن مع مريم التي تستقبله بهذه الطريقة، فتفسح المجال للرب لتستمع إلى كلمته.

 

استقبلت مريم الربّ بأفضل ما يمكن أن يُستقبل به: بالإصغاء إلى كلمته. فليس هناك وسيلة أصدق وأعمق لاستقبال الرب سوى الجلوس عند قدميه وسماع صوته، "وكان لها أختٌ تُدعى مريم، جلست عند قدمي الرب، تستمع إلى كلامه" (لوقا 10: 39). في المقابل، انشغلت مرتا بالتفاصيل، وتعبت في القيام بأعمال خدمة كثيرة، "وكانت مرتا مشغولة بأمور كثيرة من الخدمة" (لوقا 10: 40). لكنّها انهمكت في أمور لم يطلبها منها أحد، ولم تكن في تلك اللحظة ضرورية. فالرب، حين يدخل حياة إنسان، يُعيد ترتيب الأولويات من جديد. وأهم ما يحتاجه هو اللقاء بالرب ومعرفته،  أما ما سواه، فيأتي لاحقًا. لكن إن قدّمنا الانشغالات والهموم على هذا اللقاء، واعتبرناها أعذارًا ضرورية، فلن نحصد سوى نتائج مؤلمة. وهذا ما أشار إليه الإنجيلي لوقا من خلال تصرف مرتا وتوترها.

 

أولاً مرتا "كانت مشغولة" (لوقا 10: 40)، أي أنها كانت مرتبكة ومنشغلة بأمور عديدة شتّتت ذهنها. لم تكن هي من يتحكّم بما تفعل، بل كانت خاضعة لما تفرضه عليها المهام والانشغالات. على النقيض تمامًا من مريم، التي قيل عنها إنها "فَقدِ ٱختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأَفضَل" (لوقا 10: 42)، فهي اتخذت قرارًا حرًّا، وبقيت حيث شعرت أن الخير الحقيقي يكمن لها.

 

ثانياً الشعور بالوحدة. تشتكي مرتا من أنّها تُركت وحيدة، وتشعر أنّ لا أحد، حتى الرب نفسه، يهتمّ بها، "يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتْنِي أَخدُمُ وَحْدي؟" (لوقا 10: 40). فعندما يغيب الجوهر، تُفقد روح الشركة، ويبدأ الإنسان في النظر إلى الآخر، حتى أقرب المقرّبين، وكأنه منافس أو خصم ينتزع منه شيئًا ما. لكن الحقيقة أن مريم لم تسلب مرتا شيئًا، لأن كلمة الرب نبع حيّ لا ينضب، وفير بما يكفي للجميع.

 

وأخيرًا، تأخذ مرتا مكان المعلّم: فهي لا تكتفي بعدم الاستماع، بل تقول له ماذا يقول، وكيف يتكلّم: "فمُرها أَن تُساعِدَني" (لوقا 10: 40).

 

ومع ذلك، فإن مرتا، رغم ارتباكها وتشتتها، أظهرت شجاعة حقيقية: توجّهت نحو الرب وطلبت معونته. وفي هذا التوجّه تكمن عظمتها، إذ لم تحتفظ بشكواها لنفسها، بل عبّرت عنها بصدق أمام يسوع. هذه المبادرة تمثّل خطوة أولى على طريق الشفاء وتُحوّل علاقاتنا.

 

فكلّ علاقة بشرية، سواء كانت بين أفراد العائلة، أو ضمن القبائل، أو بين الأعراق والشعوب والأمم، تحتاج إلى أن تتناغم مع نور الإنجيل. إن لم تتجذّر العلاقة في الإيمان، فإنها تُبنى غالبًا على الخوف من الآخر، لا على الثقة والمحبة. تُحوّل العلاقة يعني العودة إلى الأصل، إلى ما اختارته مريم: أن تؤمن ببساطة، كما آمن إبراهيم في القراءة الأولى، بأن دخول الله إلى البيت، أي إلى عمق الحياة البشرية، يجلب حياة جديدة، ورؤية متجددة.

 

الحياة التي يهبها الله تكفي للجميع ولا يمكن نزعُها. "فَقدِ ٱختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأَفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها" (لوقا 10: 42).

 

في الختام، لا يتدخّل الربّ ليأخذ مكان مرتا في إدارة الخلاف العائلي، بل يوجّهها نحو الطريق التي تقود إلى السلام الحقيقي. إنّه لا يفرض حلولًا جاهزة، بل يكشف السبيل الذي من خلاله يُشفى الجرح، ويُعاد بناء العلاقة، ويتحوّل الفشل إلى فرصة، ويُولد الإنسان من جديد.

 

فالمسألة لا تتعلّق بتوزيع المهام بعدالة، بل بالعودة إلى الجوهر: أن نضع أنفسنا في حالة إصغاء لكلمة الله، وأن نسمح له بأن يفاجئنا بمروره في بيوتنا، هو الآتي دومًا ليمنحنا حياة ممتلئة ومتجددة.