موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في مسيرتها الفكرية والروحية، بحثت إديت شتاين بجرأة عن الحقيقة: من أعماق الفلسفة والبحث العقلاني وصولاً إلى نور الإيمان الذي غيّر وجودها كلّه. لقد حملت في شخصها مسيرة الإنسان الساعي إلى المعنى؛ من الشكّ إلى الإيمان، ومن التأمل في الوجود إلى الاتّحاد بالمصلوب. ولهذا تُعتَبَر امرأة استثنائية، لأن حياتها تعبّر عن اللقاء الحيّ بين العقل والإيمان، بين إرثها الروحي اليهودي وعطيّة الإيمان بالمسيح، وبين الألم والرجاء.
وُلدت إديت شتاين في بريسلاو (Breslau) بألمانيا عام 1891 في أسرةٍ يهوديةٍ، وكانت التلميذة المقرّبة لإدموند هوسرل (Edmund Husserl)، ثم مساعدةً له، واعتنقت الكاثوليكية في عام 1922، ودخلت دير الكرمل في عام 1933 مُتَّخِذةً اسم "تريزا بنديكتا للصليب"، وانتهت حياتها الأرضية في غرف الغاز بأوشفيتز (Auschwitz) عام 1942، وتم إعلان قداستها في عام 1998.
ومن قلب تجربتها الروحية، قرأت القديسة سرّ التجسّد في ضوء سرّ الفداء، فقد أدركت أن أسرار الإيمان مترابطة ومتداخلة: ففي بساطة المذود يكمن سرّ الصليب، وفي نور الميلاد يبدأ سطوع القيامة. فطريق بيت لحم لا ينتهي في المذود، بل يمضي إلى الجلجلة، إذ يلقي الصليبُ ظلاله منذ اللحظة الأولى على الطفل المولود، كما أُعلن للعذراء: «سيفٌ سينفذ في نفسك» (لو 2: 35). وهكذا، يولد النور في ليل الخطيئة، ويُطفأ في ظلمة الجمعة، ليشرق من جديد، أبهى وأكثر مجدًا، في فجر القيامة.
ويتجلّى هذا التعليم لنا من خلال مؤلّفاتها، ولا سيّما كتابها علم الصليب، ولكن أيضًا، وبطريقة أكثر بساطة واختصارًا، من خلال النص الذي قدّمته في إحدى محاضراتها التي ألقتها في دير بيورون البندكتي، خلال عطلة عيد الميلاد لعام 1931: بعنوان سر الميلاد.
في هذا النص الوجيز، تختار إديت شتاين أسلوبًا تأمليًا لاهوتيًا وروحيًا، مفعمًا بالدهشة والانبهار أمام الله الذي تجسّد، وصار من أجلنا تاريخًا حيًا. وهي تركز بالتزام نابعٍ من المحبّة على اتّباع المسيح اتباعًا كاملاً، من دون أن تنساق وراء العاطفة السطحية التي غالبًا ما تُحيط بأجواء الاحتفال الميلادي التقليدي، بل تغوص في سرّ يملأ النفس رهبةً وتأثّرًا.
إنّ القديسة تُقدّم تجسد يسوع ليس فقط كحدث تاريخي، بل كسِرٍ جوهري في الإيمان المسيحي: فـتجسُّد ابن الله، هو الحدث الذي يحمل النورَ، والمَحَبَّةَ، والرجاءَ إلى العالم، فيُجدّد البشرية ويُوحّدها بالله من خلال الجسد السرّي للكنيسة، جسد المسيح. فهي ترى عيد الميلاد ذروةَ المحبة الإلهية التي «تصير جسدًا»، داعيةً جميع الناس إلى الفرح والوحدة، حتى لأولئك الذين لا يؤمنون، لكنّهم مع ذلك يشعرون بدفء هذا العيد وسحره.
إنّ المُخَلِّص، في تجسّده وتَسْليمه الكامل لإرادة الله، هو الذي يحوّل دينونةَ الخطيئة وظلامَها إلى نعمة الحرية والمَحبّة. ومن ثمّ، فإن نورَ هذا السرّ، المتدفّق من المِذْوَد، يتلألأ في الظلام، إذ إنّ لكل نورٍ دعوةً أن يضيء حيث يسود الظلام. وعندئذٍ فقط يكتسب الظلامُ معنى، ويَعزِّز التوجّهَ نحو النور ذاته: فالظلّ الذي يخيّم على المذود، وهو الظّلّ المؤلم للصليب، لا يبقى ظلمةً، بل يكتسي بهاءَ القيامة المُشرِقة. وهنا، كما في سائر تأمّلاتها، تُدرك إديث شتاين الأهميةَ العُليا والمعنى الثمينَ للصليب كطريقٍ تتجلى فيه المحبّة الإلهية في أعمق صورها.
وجديرٌ بالذكر أيضًا إلى أن الأفكار الواردة في النص تستند إلى صفحات الإنجيل ومفاهيمه، غير أن إنجيل يوحنّا يتميّز بحضورٍ خاصّ وبنبرةٍ لاهوتيةٍ فريدة، تتّسم بالتركيز العميق والتكامل في عرض سرّ التجسّد والفداء.
إديت شتاين، الفيلسوفة اليهودية التي عاشت فترةً من الشكّ العقلاني قبل أن تهتدي إلى الإيمان الكاثوليكي، فتصير راهبةً كرمليّةً وشهيدةً، تبدأ تأملها في سرّ الميلاد لا بتحليلٍ فلسفي معقّد، ولا بمقدّمة أدبية مُزَيّنة، بل ببساطةٍ تدهش القارئ: بساطةِ من ينظر إلى الواقع بنظرة فينومينولوجيةٍ صافية، تلامس جوهر الوجود.
وتُشير القديسة إلى أن سحر عيد الميلاد لا يقتصر على المؤمنين؛ بل إنّ حتى أتباع الديانات الأخرى، وأيضًا غير المؤمنين، الذين قد لا تعني لهم قصة طفل بيت لحم شيئًا، لا يَسلَمُون من تأثير هذا السرّ العميق. ولذلك، ينبغي لسحر الأجواء الميلادية المعتادة أن يفسح المجال أمام واقعٍ أعمق: واقع التخلّي عن الذات، والتسليم الكامل لإرادة الله، ذاك الذي بين يديه يستقرّ المستقبل. فهمومُ البشر وسعيُهم لطمأنينةٍ الزمنية تنتمي إلى رؤيةٍ لا تتناغم مع سرّ العظمة الذي يكشفه الله حين يصير طفلاً صغيرًا.
الميلاد عند إديت شتاين، ليس لحظةً عابرة من الاحتفالات الخارجية، بل هو بداية مغامرة النعمة التي تُعيد تشكيل حياة الإنسان من الداخل. وفي النصّ التالي، تأخذنا هذه الفيلسوفة والشهيدة من سحر العيد الخارجيّ إلى عمق السرّ: فالكلمة صار جسدا ليتّخذ من قلوبنا مسكنًا، نقدّمه راجين أن يساعد قرّاءنا على عيش هذا السرّ بوعيٍّ أعمق، وحضورٍ روحيّ أصدق.
سر التجسد
عندما تبدأ الأيام تقصرُ شيئًا فشيئًا، وحين تتسلّل أولى نسمات الشتاء خلسةً، بلطفٍ وخجل، تلوح في الأفق بواكير احتفالات عيد الميلاد. فالكلمةُ وحدها تحمل سحرًا عجيبًا، سحرًا لا ينجو منه قلبٌ. وحتى أولئك الذين ينتمون إلى ديانات أخرى، أو الذين لا تعني لهم القصةُ القديمة عن طفل بيت لحم شيئًا، نراهم يستعدون لهذا العيد، يُجهّزون أنفسهم، ويبحثون كيف يوقدون، هنا أو هناك، شعاعًا من الفرح. ومنذ أسابيع، بل منذ أشهر، قبل ليلة الميلاد، تنساب على وجه الأرض تياراتٌ دافئة من المحبة. إنه عيدُ المحبة والفرح؛ وها هي النجمة تتجلّى كعلامةٍ للعيد ووجهه المضيء، تتطلّع إليها عيون الجميع في أوائل الشتاء بشوقٍ.
غير أنّ الأمر، بالنسبة للمسيحي، أعمقُ بكثير. فالنجمة تقوده إلى مغارة الميلاد، إلى المذود، حيث الطفل الذي يُجلب السلام على الأرض. والفن المسيحي يقدّم لنا هذه المشاهد في صورٍ مفعمة بالعذوبة، مصحوبة بترانيم قديمة ينساب فيها سحر الطفولة على أذهاننا وقلوبنا. أما من يعيشون مع الكنيسة، فتوقظ أجراسُها وتراتيلُ زمن المجيء في نفوسهم حنينًا مقدسًا، بينما ينهلون من ينبوع الليتورجيا المقدسة الذي لا ينضب، يسمعون يومًا بعد يوم نداءَ إله التجسد، الذي يقرع باب قلوبهم بكلماتٍ مليئةٍ بالتنبيه والوعد: «أقْطُري أَيَّـتُـهَا السَّمَوَاتُ مِنْ فَـوقُ، وَلتُمْطِرِ الغُـيُومُ البرّ؛ لتنفتح الأرض وَلتُـثْمِرِ الخَلَاص وينمو الحق. إنّ الربّ قد اقترب. فلندعُه! تعالَ أيها الربّ، ولا تُبطئ! اِفرحي يا أورشليم فرحًا عظيمًا، لأنّ مخلّصكِ يأتي إليكِ». وترتفع الانتيفونات الكبرى الموجَّهة الى نشيد مريم «تعظّم نفسي الرب»، بنداءاتٍ مُلحةٍ: يا حكمة، يا أدوناي، يا أصل يسّى، يا مفتاح داود، يا فجرًا مشرِقًا، يا ملك الأمم»، فتدعو بلهفةٍ تتزايد يومًا بعد يوم: «تعالَ وخلّصنا». ويجلجل في الأحد الأخير من زمن المجيء وعدٌ أعمق: «: ها إنّ كلَّ شيء قد تمّ». ثمّ يأتي الإعلان الأخير: «اعلموا اليوم أنّ الربّ آتٍ، وغدًا سترون مجده».
وفي مساء ليلة الميلاد، حين تُضاء شُجَرُ الميلاد بالأنوار الجميلة، ويتبادَل الناسُ الهدايا، يتطلّع القلبُ بشوقٍ عميق لم يُشبع بعد، ويظلّ يحنّ بِإلحاحٍ إلى نورٍ آخر. ولا يهدأ هذا الشوق حتى تبدأ أجراس قدّاس منتصف الليل بالرنين، ويتجدَّد على المذابح المتلألئة والمزيّنة بالورود والشموع سرُّ الليلة المقدّسة: ها قد جاءت ساعةُ الكمال المبارك، حين يُعلن أعظم سرٍّ في التاريخ: «والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا».
في ضوء التجسد: من ميلاد النور إلى اختيار السلام
بالتأكيد، لقد تذوّق كلّ واحدٍ منّا شيئًا من فرحة عيد الميلاد. غير أنّ السماء والأرض لم تصيرا بعدُ كيانًا واحدًا، ولم تتحدا بعدُ كُليًّا. فنجمة بيت لحم ما تزال تُضيء حتى اليوم في ليلةٍ مظلمة. فها هي الكنيسة، في اليوم الثاني لعيد الميلاد، تضع جانبًا ثيابها البيضاء لتلبس ثوب الاستشهاد، وفي اليوم الرابع ترتدي ملابس الحِداد على أبنائها: استفانوس، أوّل الشهداء، أوّل من تبِع المسيح حتى الموت، وها هم الأطفال الأبرياء، رُضّعُ بيت لحم ويهوذا، الذين قُتلوا بوحشية على أيدي الجلادين القساة، جميعهم يسيرون في أثر الطفل الذي في المذود.
ماذا يعني هذا؟ أين تهليلُ الجوقات السماوية؟ أين السكينةُ المقدّسة الصامتة لليلة الميلاد؟ أين السلام على الأرض؟ إنّ السلام على الأرض مخصص لهؤلاء ذوي الإرادة الصالحة؛ لكن ليس الجميع من ذوي الإرادة الصالحة. لذلك كان لا بدّ لابن الآب الأزلي أن ينحدر من مجد السماوات وبهائها، لأنّ الشرّ كان قد غمر الأرض بالظلمات. كانت الأرض مغطّاة بالظلام، فجاء هو نورًا يضيء في الظلمة، والظلمة لم تُدركْه. أمّا الذين قبلوه، فقد حمل إليهم نورًا وسلامًا: سلامًا مع الآب الذي في السماوات، وسلامًا مع أبناء النور وأبناء الآب السماوي، وأخيرًا، السلامَ الداخلي العميق في القلب، لكنّ هذا السلام ليس مع أبناء الظلمة. إنّ رئيس السلام لا يأتي لهؤلاء بالسلام، بل بالسيف. وهو بالنسبة لهم حجرُ عثرة يرتطمون به فيتحطّمون. هذه حقيقةٌ واضحة وقاسيةٌ، ولا ينبغي أن نسمح للصورة الشاعرية الرقيقة لطفل المغارة أن تحجبها وتخفيها عنّا. فإنّ سرّ التجسّد وسرّ الشرّ مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. فإزاء النور النازل من السماء، تبرز ليلةُ الخطيئة، أقسى وأشدّ ظلمة في مواجهته.
يمدّ الطفلُ في المذود يديهِ الصغيرتين، كأنّه، بابتسامته، يريدُ أن يهمس لنا بتلك الكلمات التي ستخرج يومًا من شفتيه عندما يصير رجلًا: «تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال». وقد لبّى دعوته أولئك الرعاة الفقراء؛ فهناك، على سهول بيت لحم، جاءتهم البشرى السارّة من نور السماء وأصوات الملائكة، فقالوا ببساطةٍ نقيّة: «لنذهب الآن إلى بيت لحم»، فانطلقوا في الطريق بلا تردّد. وكذلك المجوس الذين جاؤوا من بلاد المشرق البعيدة، اتّبعوا بتلك البساطة الإيمانية النجمة العجيبة. فتساقطت عليهم من يدي الطفل ندى النعمة وافرًا، ف«فرحوا فرحا عظيما جدا».
ها هما اليدين اللتين تعطيان وتطلبان في آنٍ واحد: فأنتم أيها الحكماء، ضعوا جانبًا حكمتكم واجعلوا أنفسكم بسطاء كالأطفال؛ وأنتم أيها الملوك، اخلعوا تيجانَكم، وقدّموا كنوزكم، وانحنوا باتضاع أمام ملك الملوك، واقبلوا بلا تردّد ما يقتضيه خدمته من تعبٍ وآلامٍ ومعاناة. وأمّا أنتم أيها الأطفال، الذين لا تستطيعون بعدُ أن تعطوا شيئًا، فها هي يدا الطفل تستقبلكم بحنانٍ، لتتقبّل منكم حياتكم الرقيقة قبل أن تبدأ حقًّا، حياةً لا يمكن أن تُقدَّم في موضع أنقى من أن تكون ذبيحةً للربّ إله التسابيح.
«اتبعني» هكذا تقول لنا يدا الطفل، كما ستقولها يومًا شفتاه حين يصير رجلًا. بهذه الكلمات دعا أيضًا التلميذ الذي كان يحبّه. فتبعه القدّيس يوحنّا، ذاك الشاب صاحب القلب الطاهر، دون أن يسأل: «إلى أين نذهب؟ ولماذا؟». ترك سفينة أبيه وتبع الربّ في كل طرقه، حتّى الجلجلة.
«اتبعني» سمِعَها أيضًا الشابّ إسطفانوس، فسار على درب الربّ في معركته ضد قوى الظلمة. فصار شاهدًا له بكلمته وبدمه، وتبعه في الروح أيضًا، روح المحبّة التي تحارب الخطيئة ولكنها تحب الخاطئ، بل وتتشفّع لدى الله من أجل قاتله في ساعة الموت.
حول المغارة لا يركع إلا مخلوقات النور: الأطفال الأبرياء الرقيقون، الرعاة البسطاء الأنقياء، الملوك المتواضعون. إسطفانوس، الشاب المتّقد حماسًا، ويوحنّا رسول المحبّة: جميعهم أولئك الذين أصغوا إلى نداء الربّ واستجابوا له بقلوبٍ منفتحة. وفي المقابل تقف ليلةُ القلوب القاسية وذوي العقول المظلمة: علماءُ الناموس الذين يعرفون تحديد زمن ومكان ميلاد الربّ، لكنهم عاجزون أن يقولوا: «لنذهب إلى بيت لحم»؛ والملك هيرودس الذي يريد أن يقتل ربّ الحياة.
أمام الطفل في المغارة تنقسم القلوب: إنّه الملك، ملك الحياة والموت، ينطق بدعوته: «اتبعني»، ومن ليس معه فهو ضده، يُعلنها لنا أيضًا اليوم، كما أعلنها بالأمس، ويضع أمامنا الاختيار بين النور والظلمة.
جسد المسيح السريّ
أ) أن نكون واحدًا مع الله
لا نعلم أين سيقودنا طريقنا في هذه الحياة، ولا ينبغي لنا أن نسأل هذا السؤال مسبقًا. لكن هناك أمر واحد نعرفه: أن جميع الأشياء تعمل لخير الذين يحبون الله، وأن طرق الربّ تتجاوز حدود هذا العالم.
يا لروعة هذا التبادل العجيب! لقد اتخذ خالق البشر جسدًا بشريًا، ليمنحنا نحن ألوهيته. جاء المخلّص إلى هذه الأرض ليتمم هذا العمل العظيم: صار اللهُ ابنًا للإنسان، لكي نصير نحن أبناءً لله.
لقد كان واحدٌ منّا، الإنسان الأول، هو الذي قطع رباط البنوّة الإلهيّة؛ ومن ثم، كان لا بدّ أن يأتي من جديد واحدٌ منا ليعيد هذا الرباط ويجدده. لكن ليس من تلك السلالة القديمة المريضة التي أساءت إلى العلاقة مع الله، بل لا بد من غصن جديد ونبيل يخرج منه الخلاص. وها هو المخلّص يأتي ليكون واحدًا منا، بل أكثر من ذلك: صار واحدًا معنا. وجاء لكي يكون معنا جسدًا واحدًا، جسدًا سرّيًا: هو الرأس، ونحن الأعضاء. فلنضع أيدينا في يديه، ولننطق ب«نعم» جوابًا على دعوته «اتبعني»، وعندئذٍ نصير له، وتفيض الحياة الإلهية فينا بحرية.
وهذا هو بدء الحياة الأبدية في داخلنا. فهي ليست بعدُ الرؤيةَ المُنعِمة الكاملة لله في نور مجده، بل ما تزال في مرحلة ليلة الإيمان المظلمة؛ وهي دخول إلى ملكوت الله على الأرض. لقد بدأ هذا الملكوت حين قالت العذراءُ الكليّةُ القداسة: «ليكن لي بحسب قولك»، فأصبحت أوّل من آمن بكلمته، وأوّل خادمةٍ لملكوته. وكلّ الذين انتموا إليه بالكلمة والعمل، قبل ميلاد الطفل الإلهي أو بعده، دخلوا في ملكوت الله: مثل القدّيس يوسف، والقدّيسة أليصابات وابنها، وسائر الذين التفّوا حول المذود بقلوبٍ مؤمنة.
لكنّ سيادة الملك الإلهي لم تأتِ كما تصوّرها الأنبياء والمزامير؛ فقد ظل الرومان أصحاب السلطة في البلاد، واستمرّ رؤساء الكهنة وعلماء الشريعة في إخضاع الشعب الفقير تحت نيرهم. أمّا من كان للرب، فكان يحمل في ذاته، بشكل غير منظور، ملكوت السماوات. لم يُنزع عنه عبءُ الحياة الأرضية بل أُضيفت إليه أعباء أخرى؛ لكنه امتلأ في داخله بقوّةٍ سماويةٍ، جعلت النيرَ لطيفًا، والحمْلَ خفيفًا. وهذا ما يحدث اليوم أيضًا مع كلّ ابنٍ لله.
فالحياة الإلهية التي تشتعل في النفس هي النورُ الآتي الذي أشرق في الظلمة، وهي معجزة ليلة الميلاد المقدّسة. ومن يحمل هذا النور في داخله يفهم معناه حين يُتحدّث عنه أو يُعبّر عنه. أما الآخرون، الذين لا يحملون هذا النور، فكل ما يُقال عنه يبدو لهم همسًا غامضًا غير مفهوماً. وهكذا يظهر إنجيل يوحنا في تصويره للنور الأزلي: كلامٌ يصعب التعبير عنه بكلمات بشرية، عاجزة عن وصف جوهره، الذي هو المحبة والحياة. الله فينا ونحن فيه: هذه هي مشاركتُنا في ملكوت الله، المؤسَّس على سرّ تجسّده.
ب) أن نكون واحدًا في الله
إنّ الاتحاد بالله هو الهدف الأسمى في حياتنا، لكنه يحمل أثرًا أعمق يتجاوز حياة كل فرد بمفرده. فإذا كان المسيح هو الرأس ونحن الأعضاء في جسده السري، فهذا يعني أن البشر مترابطون بعضهم البعض كما الأعضاء في جسد واحد. فنحن جميعًا واحدٌ في الله، نعيش حياةً إلهيةً مشتركة ومتحدة. وإذا كان الله فينا وكان الله محبة، فلا بدّ أن تنعكس هذه المحبة في علاقاتنا مع الآخرين. ومن هنا، تصبح محبتنا للقريب المقياس الحقيقي لمحبّتنا لله.
إن المحبّة الطبيعية تميل إلى أشخاص معيّنين، تجمعنا بهم روابط الدم، أو القرابة، أو التوافق في الطبع، أو المصالح المشتركة. أما الآخرون، فيُعتبرون "غرباء"؛ لا يهمّ أمرهم عند البعض، وقد يزدريهم بعض الناس بسبب طريقتهم في التصرّف أو طباعهم أو سلوكهم. أما المسيحي، فلا يرى أيُّ إنسان بالنسبة إليه "غريبًا"، بل كل إنسان هو القريب، الذي يحتاج إلينا في كل زمان ومكان. سواء كان قريبًا أو بعيدًا، محبوبًا أو غير محبوب، "مستحقًا" أو غير مستحقّ. فالمحبة المسيحية لا تعرف حدودًا، ولا تنتهي أبدًا، ولا تتراجع أمام القبح أو الدنس. لقد جاء المسيح من أجل الخطأة لا الأبرار؛ فإذا سكنت محبّته فينا، فعلينا أن نقتدي به، ونخرج لنبذل أنفسنا في البحث عن الخروف الضال.
المحبة الطبيعية تتجه عادةً إلى امتلاك المحبوب، وتحرص على الاحتفاظ به بعيدًا عن الآخرين إن أمكن. أما المسيح فقد جاء ليعيد البشريّة الضالّة إلى الآب. ومن يحبّ بمحبة الآب، فإنه يريد للناس أن يكونوا لله، لا لنفسه. وهذه هي الطريقة الحقيقة لامتلاكهم إلى الأبد؛ فمن يُرجع إنسانًا إلى الله يصبح واحدًا معه في الله. أما السعي إلى امتلاك الآخرين لأنفسنا، فإنه يؤدي غالبًا، بل دائمًا، إلى خسارتهم وفقدهم في النهاية. وهذا المبدأ لا ينطبق فقط على نفوس الآخرين، بل أيضًا على أنفسنا وعلى كل خيرات هذا العالم. فمن كان شغله الشاغل هو اقتناء وحفظ ما له من مال وممتلكات، فقد خسر. أما من يهب لله، فهو الذي يربح حقًا.
ج) لتكن مشيئتك!
ها نحن نبلغ العلامة الثالثة للبنوّة الإلهيّة. فقد تمثلّت العلامة الأولى في اتحادنا مع الله، والثانية أن نكون جميعًا واحدًا في الله. فإن العلامة الثالثة تكمن في قول الربّ: «بهذا يعرفُ الجميعُ أنكم تلاميذي: إن كان فيكم محبّةٌ بعضٌ لبعض»، ولكن أيضًا، وبصورةٍ أعمق: «بهذا أعرف أنكم تحبّونني: إن حفظتم وصاياي». فأن يكون الإنسانُ ابنًا لله يعني أن يُسلّم نفسه بالكامل بين يديه، وأن يعمل بمشيئة الله لا بمشيئته الخاصة، وأن يضع بين يديه كل همومه وآماله دون أن يساوره القلق بشأن مستقبله.
هنا يكمن سرّ الحرية والفرح اللذين يميزان أبناء الله، وهما عطيتان نادرتان، لا ينعم بهما إلا القليلون: أولئك الذين يتحلون بالصدق ويستعدون بشجاعة لتحمل أي تضحية. هؤلاء غالبًا ما يواصلون حياتهم بثبات وهدوء، رغم عبء همومهم وواجباتهم. ومع ذلك، يذكّرنا الربّ أن الجميع موضع عنايته: مثل طيور السماء وزنابق الحقل (مت 6:28). فإذا قابلتم إنسانًا لا يملك مالًا، ولا دخلًا ثابتًا، ولا ضمانًا لمستقبله، ومع ذلك لا يقلق بشأن مستقبله، فستجدون أنفسكم تتأملون في سلامه بدهشة، وتهزّون رؤوسكم أمام هذا الواقع، وكأنكم أمام أمر استثنائي.
بالتأكيد، يخطئ كثيرون حين يتوقّعون أن يهيّئ لهم الآب السماويّ دائمًا ما يُسمّيه الناس «دخلًا مناسبًا» أو «ظروف معيشة جيّدة». فالثقة بالله لا تتزعزع إلا إذا اقترنت بالاستعداد لقبول كلّ ما يأتينا من يده الإلهية. فهو وحده يعلم ما هو الخير لنا، فعلينا أن نقبله بطمأنينة قلب واستعداد داخلي. وبهذه الروح، يستطيع الإنسان أن يعيش حاضره حرًّا من أعباء المستقبل.
ينبغي أن تكون طلبة «لتكن مشيئتك» قاعدة الحياة المسيحية بأسرها؛ فهي لا توجّه مسيرة اليوم من الصباح إلى المساء، فحسب، بل تشمل تعاقب الفصول والسنين بأكملها. بل إن حياة المسيحي بأسرها ينبغي أن تتماهى مع هذه الصلاة، بحيث يكون كل ما يفعله وما يفكر فيه منسجمًا مع مشيئة الله. فالرّب يتولّى عنّا كلّ الهموم، ومع ذلك تبقى هذه الطلبة واجبًا علينا ما دمنا نحيا على الأرض.
فمن الناحية الواقعية، لا يضمن أحد منا البقاء دائمًا على طريق الرب. كما أن الإنسان الأول، الذي عاش في حضن البنوّة الإلهية، ثم اختار أن ينفصل عنها، كذلك كلّ واحد منّا يسير في حياةٍ مليئةٍ بالتحديات، على مفترق طرقٍ بين الفراغ الروحي وملء الحياة الإلهية. ونحن، عاجلًا أم آجلًا، ندرك هذا التوازن الهش في خبرتنا الشخصية، ونتلمس أثره في كل تجربة نخوضها.
ففي طفولة الحياة الروحية، عند بداية الاتكال على إرشاد الله، نحسّ بيده تمسك بنا بقوة وأمان. وما ينبغي فعله أو تركه يبدو واضحًا لنا كضوء الشمس، بلا غموض. لكن هذا الشعور لا يستمر دائمًا. فمن ينتمي إلى المسيح مدعو ليعيش حياة المسيح كاملة، ويبلغ نضوج المسيح، ويسير في نهاية المطاف على درب الصليب نحو جثسيماني والجلجثة. وكلّ الآلام الخارجيّة تبدو ضئيلة أمام الليل المظلم للنفس، حين يخفت النور الإلهي، ولا يُسمَع بعد صوت الربّ. فالله حاضر، لكنه محتجب، وصوته صامت.
لماذا يكون الأمر هكذا؟ تلك أسرار الله التي نتحدّث عنها، والتي لا يمكن كشفها بالكامل. ومع ذلك، يمكننا أن نلقي نظرةً متواضعةً على جوهر الأمر ونتأمله. لقد صار الله إنسانًا ليجعلنا شركاء مجددًا في حياته الإلهية، وهذه هي البداية والغاية النهائية في آنٍ واحد. ولكن بين البداية والغاية هناك ما ينبغي قوله: أن المسيح هو إله وإنسان معًا، ومن أراد أن يشترك في حياته، لا بد أن يشترك في الطبيعتين معًا: الإلهية والإنسانية. فبفضل الطبيعة البشرية التي اتخذها المسيح، استطاع أن يختبر الألم والموت، وبفضل طبيعته الإلهية التي له منذ الأزل، اكتسبت آلامه وموته قيمةً لا متناهية، وقوّة خلاصية للعالم أجمع.
إن آلام المسيح وموته لا تزال تتجسّد وتستمر في جسده السريّ، أي في كلّ واحدٍ من أعضائه. فكلّ إنسان لا بدّ أن يتألّم ويموت؛ ولكن إن كان عضوًا حيًّا في جسد المسيح، فإنّ آلامه وموته تكتسبان قوةً خلاصية، بفضل ألوهية المسيح، رأس الجسد السري. وهذا هو السبب الحقيقي وراء رغبة جميع القديسين الدائمة في احتمال الألم، ليس بدافع ميولٍ مَرَضيّة نحو التألم والمعاناة، بل لأنّ ما يبدو للعقل الطبيعيّ انحرافًا أو أمرًا غير مفهوم، يتجلّى في نور سرّ الفداء كأعظم حكمةٍ وأعمق معنى. وهكذا يظلّ الإنسان المتّحد بالمسيح ثابتًا لا يتزعزع، حتّى في ليل النفس المظلم، حين يبدو الله بعيدٌ أو كأنه قد تركه. وربّما تسمح العناية الإلهية بهذا الالم لتحرير نفس مسجونة في الظلمات. ومن هنا، نقول بكلّ ثقةٍ وسلام: «لتكن مشيئتك»، حتى في أحلك الليالي وأكثرها ظلامًا.
وسائل الخلاص
حين يتبدّد يقينُنا بما يطلبه الله منّا، وتخفتُ في داخلنا الأنوار التي كانت تهدينا، قد نرتبك ونتساءل: هل ما زلنا قادرين على أن نقول بصدق: «لتكن مشيئتك»؟ وهل بقيت لنا وسيلةٌ تساعدنا على ثبات خطانا في الطريق الصحيح، حين يصبح القلب متعبًا والعقلُ مُبهَمًا؟
نعم، هناك وسيلة، بل وسائلٌ، أعدّها الله لنا، وهي فعّالة إلى أبعد حدّ، حتى إنّ احتمال ضياعنا، وإن كان ممكنًا من حيث المبدأ، يصبح في الواقع أمرًا مستبعدًا للغاية. فالله قد جاء ليخلّصنا، وليوحّدنا به، ويجمعنا بعضنا إلى بعض، ويجعل مشيئتنا تتناغم تدريجيًا مع مشيئته. إنّه يعرف طبيعتنا جيدًا، ويرى ضعفنا، ولذلك لم يتركنا دون عون، بل أعطانا كلّ ما يمكن أن يساعدنا على بلوغ غاية وجودنا.
لقد تجسد الطفل الإلهيُّ ليكون معلّمًا لنا، ويخبرنا بما يجب أن نفعل. ولكي نملأ حياتنا الإنسانيةً بأكملها ونشبعها بنعم الحياة الإلهية، فلا يكفي السجود أمام المذود مرّةً واحدةً في السنة، أو نتأثر بلحظةٍ عابرة من سحر ليلة الميلاد، فتظلّ مجرّد لحظة وجدانيّة عابرة. بل يجب أن نعيش حياتنا كلّها في شركةٍ يوميّة مع الله، وأن نصغي إلى كلماته التي نُقلت إلينا، ونتّبعها في كل تفاصيل حياتنا.
وأوّل ما أوصانا به المخلّص هو الصلاة: صلاةٌ مثابرة، واثقة، مُلحّة. فقوله «اطلبوا تُعطَوا» ليس مجرد تعبيرٍ مجازي، بل وعدٌ إلهي مؤكّد. ومن يردّد كلّ يوم من أعماق قلبه: «يا رب، لتكن مشيئتك»، يستطيع أن يثق تمامًا بأنّه لن يحيد عن مشيئة الله، حتّى وإن لم يكن يملك لهذا اليقين شعورًا ذاتيًّا واضحًا. فالمشاعر ليست معيارًا للأمانة، بل الثبات في الصلاة والاتكال الكامل على الله.
ولم يتركنا المسيح يتامى، بل أرسل إلينا روحه القدّوس ليعلّمنا الحقيقة، وأسس كنيستَه، تلك الجماعة التي يقودها الروح نفسه، وجعل فيها من يُمثّله، الذي يُخاطبنا عبر كلماتٍ بشريّة تُنير لنا الطريق. وداخل هذه الكنيسة، اجتمع المؤمنون في جسدٍ واحد، وأراد المسيح أن يكون كلٌّ منهم مسؤولًا عن الآخر. وهكذا لا نسير وحدنا؛ فإذا ضعفت ثقتُنا في تمييزنا الشخصي، أو خفَتت حرارة صلاتنا، تأتي عندئذٍ قوّةُ الطاعة والشفاعة لتعضّدنا، وتنير لنا السبيل حتى نبلغ الحقيقة بسلام.
«والكلمة صار جسدًا». لقد تحققت هذه الحقيقة في مذود بيت لحم. وتحققت أيضًا بطريقة أخرى، حين قال المخلّص: «مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية». إنه يعلم أننا بشرٌ نواجه يوميًّا التحديات ونقاط الضعف المتأصلة في طبيعتنا البشرية، ولذلك يقدم لنا العون بطريقة إلهية حقيقية. فكما يحتاج الجسد إلى الخبز اليومي، كذلك تتطلّب الحياة الإلهية فينا غذاءً مستمرًّا: «هذا هو خبز الحياة النازل من السماء»، وفي كل من يتناول هذا الخبز يوميًا، يتجدّد فيه سرّ الميلاد من جديد: أي تجسّد الكلمة في قلبه وحياته.
هذه هي، بلا شكّ، الطريقة الأكثر يقينًا لنكون في شركة دائمة مع الله، ولنُغرس يومًا بعد يوم بثباتٍ وعمقٍ أكبر في جسد المسيح السري. وأعلم جيدًا أن هذا سيبدو لكثيرين مطلبًا صعبًا وربما مبالغًا فيه. لأنه عمليًا، بالنسبة لمعظم الناس، يعني البدء من جديد في إعادة توجيه الحياة كلها، داخليًا وخارجيًا. وهذا بالضبط ما ينبغي أن نفعله: أن نهيّئ في حياتنا مكانًا للمخلّص الحاضر في الإفخارستيا، ليحوّل حياتنا إلى حياته. فهل هذا كثيرٌ جدًا علينا؟ وهل هو طلبٌ مبالغ فيه؟
ما يكفي من الوقت ليقضيه في أمورٍ غير مثمرة؟ من قراءة الكتب والمجلات والصحف، إلى التنقّل العبثي، والجلوس في المقاهي، والانشغال بأحاديث عابرة في الشوارع؟ كلّ تلك "التشتّتات" تبدّد طاقتنا ووقتَنا شيئًا فشيئًا. أفلا يكون من الممكن أن نخصّص لأنفسنا وقتًا في الصباح، لا نسمح فيه للشرود أو التشتت، بل نجمع فيه كياننا كله، لنكتسب القوة لمواجهة اليوم بأكمله؟
في الحقيقة، لا يكفي تخصيص وقتٍ واحدٍ للصلاة وحده؛ بل يجب أن نعيش اليوم كله بين لحظة وأخرى من هذه الأوقات المُكرَّسة للصلاة والتأمل، بحيث تُصبح العودة إلى معايشة حضور الله أمرًا سهلًا بل عادةً روحيةً راسخة. ففي الحياة الروحية، لم يعد التراخي مقبولًا، حتى وإن كان ذلك مؤقتًا، لأننا بحاجة مستمرة إلى اتصالٍ حيّ بالله في كل لحظة من حياتنا.
وهذا ذاتُه ينطبق على علاقتنا اليومية مع المخلّص. فعندما نعيش في حضوره، تكتسب النفس حساسيةً متزايدة تجاه ما يُرضي الله وما يُسيء إليه. ففي البداية، قد يشعر الإنسان بالرضا عن نفسه، لكن مع مرور الوقت يكتشف أنه بحاجة إلى التغيير. إذ يبدأ في رؤية العديد من الجوانب السلبية في نفسه ويحاول تغييرها بقدر المستطاع. ومع مرور الوقت، سيكتشف جوانب أخرى قد تكون غير صالحة أو غير جميلة، لكنها صعبة التغيير، فتظل تحديًا مستمرًا في مسيرته الروحية.
وعلى نحو مشابه، لا يمكننا الهروب من الحكم الصامت الذي يصدره أولئك الذين نعيش ونتعامل معهم يوميًا. فحتى لو لم تُنطق كلمة واحدة، يُدرك الإنسان بوضوح نوع العلاقة التي تربطه بالآخرين. فكل إنسان يسعى بطبيعته للانسجام مع محيطه، فإن تعذَّر عليه ذلك، تحوّلت الحياة المشتركة إلى معاناة لا تُطاق. وهذا يشبه ما نعيشه في علاقتنا مع الله؛ فكلما اقتربنا من حضوره، ازداد وعينا بما يُرضيه. وهكذا، شيئًا فشيئًا، نصير صغارًا ومتّضعين؛ نصبح أكثر صبرًا وتسامحًا تجاه القشّة التي في عين أخينا، لأنّ الخشبة التي في أعيننا تشغلنا كثيرًا، فتُعلّمنا التواضع، وتجعلنا أكثر حرصًا على التغيير في أنفسنا. ويتعلّم الإنسان أخيرًا أن يحتمل ذاته أمام نور الحضور الإلهي، وأن يوسّع قلبه لرحمة الله، التي وحدها قادرةٌ على التغلب على كلّ ضعفٍ بشريّ.
ثمة فارق كبير بين شعور الإنسان بالرضا عن نفسه بوصفه «مسيحيًا صالحًا» يؤدّي بواجباته، ويلتزم بدوره المجتمعي؛ وبين أن يبلغ حياةٍ حقيقيةٍ تنبع من قلب مشيئة الله. إنها حياة بسيطة كحياة الطفل، متواضعة كتواضع العشّار. فبينما قد يعتقد البعض أنهم يعيشون حياةً دينيةً لمجرد أداء طقوسٍ خارجيّة، فإن الوصول إلى الحياة الروحية الحقيقية يتطلّب أكثر من الشكل والطقوس، يتطلّب قلبًا منفتحًا، وعقلًا مستعدًّا للتغيير، وروحًا تسعى إلى الاتحاد بالله. ومن اختبر هذا الطريق ولو مرةً واحدة، لن يستطيع أن يعود عنه أبدًا.
أن نكون أبناءً لله يعني أن نصير صغارًا وعظماء في آنٍ واحد: صغارًا في تواضعنا، وعظماء في نعمته. وأن نحيا حياةً إفخارستية، يعني أن نخرج من ضيق ذاتنا الشخصي لننغرس في رحاب حياة المسيح. ومن يزور الربّ في هيكله، لن يعود ينشغل بنفسه وهمومه الخاصة، بل سيبدأ بالاهتمام بأمور الرب. ففي كل زيارة، يزداد في قلبه رغبة عميقة في أن يتشارك مع الله في كل ما هو مقدس ومبارك، ويترك همومه الخاصة لتغمره النعمة الإلهية.
إنّ المشاركة في الذبيحة اليومية تجذبنا شيئًا فشيئًا، من حيث لا ندري، إلى قلب الحياة الليتورجية. إذ من خلال مسار السنة الطقسية، تُقدّم لنا الصلوات والطقوسُ تاريخَ خلاصنا وتدخُلنا إلى أعماق هذا السرّ الإلهي. كما أنّ مشاركتنا في الذبيحة المقدسة تنقش فينا مرّةً بعد أخرى، سرّ الإيمان الجوهري: سرّ التجسّد والفداء.
فمن ذا الذي يستطيع أن يحضر الذبيحة المقدّسة بقلبٍ منفتحٍ وروحٍ يقظة، دون أن يغمره شعورٌ عميق بروح التقدمة، ودون أن يستولي عليه اشتياقٌ عظيمٌ ليُغمر ذاتَه وحياته الصغيرةَ في هذا الفعل الخلاصي الذي يحقّقه الفادي؟
إنّ أسرار المسيحية تشكّل فيما بينها وحدةٌ لا تتجزأ؛ فمَن يغوص في أحدها يُقاد تلقائيًّا إلى باقي الأسرار الأخرى. وهكذا، فإنّ طريق بيت لحم يقود مباشرةً نحو الجلجلة، من المزود إلى الصليب. فعندما قدّمت العذراءُ الكليّةُ القداسة الطفلَ يسوع في الهيكل، أُعلن لها أنّ سيفًا سينفذ في نفسها، وأنّ هذا الطفل «جُعل لسقوطٍ كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل وآية معرضة للرفض» (لوقا ٢: ٣٤-٣٥). ها هو إذًا إعلانُ الآلام، والصراع الأبديّ بين النور والظلمة، الذي بدأ منذ لحظة الميلاد. وفي كثيرٍ من السنوات، يتزامن عيد تقديم الربّ في الهيكل مع بداية زمن الصوم الأربعيني؛ فتتلاقى احتفالات التجسّد مع الاستعداد للآلام. ففي ليل الخطيئة، تسطع نجمةُ بيت لحم، وعلى إشراق النور المنبثق من المزود، يلقي الصليبُ ظلاله. ينطفئ النور في ظلمة الجمعة العظيمة، لكنه يضيء من جديد، بل وأكثر بهاءً وإشراقًا، كنور النعمة في فجر القيامة.
إنّ مسيرة ابن الله المتجسّد تمتدّ من المذود إلى الصليب والآلام لتبلغ مجد القيامة. وكذلك هي طريق كل واحد منا، بل طريق البشرية جمعاء: أن نبلغ مع المسيح، عبر الآلام والموت، إلى مجد القيامة.