موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الأحد، ٢٧ يوليو / تموز ٢٠٢٥
دولة فلسطين ومسؤولية الجماعة الدوليّة
إن المأساة الجارية في غزة تتطلب هزة إنسانية وتشير إلى عجلة ذلك الرد المتقاسم على مأساة الشعب الفلسطيني، الرد الذي ينادي به الكرسي الرسولي بشكل متواصل منذ عقود.

أندريا تورنييلي :

 

لقد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن فرنسا ستعترف بدولة فلسطين وأن الاعتراف الرسمي سيكون خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول القادم. ويتم في الوقت ذاته التحضير للمؤتمر الدولي رفيع المستوى من أجل حل سلمي للقضية الفلسطينية وتفعيل حل الدولتين، المؤتمر الذي كان يُفترض أن يُعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في حزيران يونيو المنصرم تحت إشراف حكومات فرنسا والمملكة العربية السعودية إلا انه قد تم تأجيله بسبب الهجوم الإسرائيلي على إيران.

 

إنّ المأساة الجارية في غزة، المذابح المتكررة لعشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء الذين فقدوا حياتهم تحت القنابل ويموتون اليوم جوعًا وتعبًا، أو يُضربون بينما يحاولون العثور على قليل من الطعام، يُفترض أن تجعل واضحًا لدى الجميع كيف هو ملح إيقاف الهجمات العسكرية التي تسفر عن مجزرة، وأيضًا كيف أصبح لا غنى عنه التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. حل ينادي به الكرسي الرسولي بلا توقف منذ عقود، ولا يمكن أن يتحقق أبدا بدون الإسهام الفعلي للجماعة الدولية إلى جانب الدول المعنية مباشرةً.

 

ومن المفيد في هذا السياق التذكير بأن الكرسي الرسولي 25 عامًا مضت كان قد وقع اتفاقية أساسية أولى مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقبل عشر سنوات وقع اتفاقا شاملا مع دولة فلسطين أصبح ساريًا في كانون الثاني 2016. قرار واعتراف يتماشيان مع المخاوف التي أعرب عنها البابوات منذ سنة 1948 حول وضع الأماكن المقدسة ومصير الفلسطينيين. وقد كان بولس السادس أول بابا يؤكد بوضوح أن الفلسطينيين كانوا وهم شعب، لا مجرد مجموعة من لاجئي الحرب. وفي رسالة الميلاد عام 1975 طالب البابا مونتيني أبناء الشعب اليهودي الذين كانوا قد شهدوا في تلك الفترة تعزُّز دولتهم السيادية، إسرائيل، بـ"الاعتراف بالحقوق والتطلعات المشروعة لشعب آخر عانى هو أيضا لفترة طويلة، الشعب الفلسطيني".

 

وفي بداية التسعينيات أقام البابا يوحنا بولس الثاني علاقات سواء مع دولة إسرائيل (1993) أو مع منظمة التحرير الفلسطينية (1994) في لحظة كان يبدو فيها أن الأطراف كانت قريبة من اتفاق ومن اعتراف بالدولتين. وفي شباط 2000، بضعة أشهر قبل الدخول الأول لرئيس الوزراء الإسرائيلي أريل شارون إلى باحة المسجد الأقصى ما أسفر عن الانتفاضة الثانية، وقَّع الكرسي الرسولي الاتفاق الأساسي المذكور مع منظمة التحرير الفلسطينية. ولدى وصوله القدس في آذار 2000 قال يوحنا بولس الثاني "لقد اعترف الكرسي الرسولي دائمًا بأن الشعب الفلسطيني له حق طبيع في أن يكون له وطن، والحق في التمكن من العيش في سلام وهدوء مع الشعوب الأخرى في هذه المنطقة. على الصعيد الدولي، أعلنّا، أسلافي وأنا، بشكل متكرر أنه لا يمكن إنهاء النزاع الحزين في الأرض المقدسة بدون ضمانات قوية لحقوق كل الشعوب المعنية وذلك على أساس القانون الدولي وقرارات وبيانات الأمم المتحدة الهامة".

 

وبعد ذلك بتسع سنوات وخلال زيارته إلى الأرض المقدسة أكد البابا بندكتس السادس عشر: "فليُعترف عالميًّا أن لدولة إسرائيل الحق في الوجود والتمتع بالسلام والأمن داخل حدود معترَف بها دوليًّا، وليُعترف بالتساوي بأن الشعب الفلسطيني له الحق في زكن مستقل ذي سيادة وفي العيش بكرامة والتحرك بحرية. ليصبح حل الدولتين واقعا لا أن يظل حلما". وفي 2012 منح الكرسي الرسولي دعمه لقبول "دولة فلسطين" كعضو مراقب في الأمم المتحدة.

 

وخلال زيارته الأرض المقدسة في أيار 2014 أكد البابا فرنسيس أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه "قد آن الأوان بالنسبة للجميع كي تكون لديهم شجاعة السخاء والإبداع في خدمة الخير، شجاعة السلام التي ترتكز إلى إقرار الجميع بحق الدولتين في الوجود وفي التنعم بالسلام والأمن ضمن حدود معترف بها دوليا". وقد أشار للمرة الأولى إلى البلد الذي كان يستضيفه باعتباره "دولة فلسطين".

 

وهكذا نصل إلى الاتفاق الشامل بين الكرسي الرسولي ودولة فلسطين في حزيران 2015 والذي يلح على حل الدولتين الذي كان محور قرار الأمم المتحدة 181 في تشرين الثاني 1947. وقد حدد تمهيد الاتفاق المذكور، وفي إشارة إلى القانون الدولي، عددا من النقاط الأساسية ومن بينها:

 

حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، حل الدولتين كهدف، المعنى لا الرمزي فقط للقدس وطابعها المقدس بالنسبة لليهود والمسيحيين والمسلمين وقيمتها العالمية الدينية والثقافية ككنز للبشرية كلها. وتتم الإشارة في هذا التمهيد أيضا إلى حق الشعب الفلسطيني في الحرية والأمن والكرامة في دولة مستقلة، أي دولة فلسطينية مستقلة وسيادية وديمقراطية على أساس الحدود السابقة لعام 1967 في الضفة الغربية، ما يشمل القدس الشرقية، وفي قطاع غزة. دولة تعيش جنبا إلى جنب في سلام وأمن مع كل جيرانها.

 

وفي عودة إلى الاتفاق الأساسي مع منظمة التحرير الفلسطينية من عام 2000 جدد الاتفاق الشامل المطالبة بحل عادل لقضية القدس على أساس القرارات الدولية، وقد تم التأكيد في هذا الاتفاق على أن القرارات والأفعال أحادية الطرف التي تُغَير طابع القدس ووضعها الخاص هي غير مقبولة أخلاقيًّا وقانونيًّا، وأن أي إجراء أحادي الطرف غير شرعي أيًا كان نوعه، هو لاغٍ وخالٍ من أي قيمة ويشكل عقبة أمام السعي إلى السلام.

 

إنّ هذا الاستعراض القصير يؤكد استمرارية وواقعية الموقف الذي تتضمنه نداءات البابوات الأخيرين، ومداخلات الكرسي الرسولي في الأمم المتحدة، والاتفاقيات التي تم توقيعها حتى اليوم. وفورًا عقب الهجوم اللاإنساني الذي قامت به حماس في 7 تشرين الأول 2023 أدان البابا فرنسيس هذه المجزرة وطالب اكثر من مرة علنًا بإطلاق سراح جميع الرهائن. وإلى جانب الاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس طالب الكرسي الرسولي بشكل متكرر، ولكن بلا جدوى، ألا يتم بشكل عشوائي استهداف كل الشعب الفلسطيني في القطاع، كما وطالب بإيقاف الهجمات التي يقوم بها المستوطنون ضد السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي دولة فلسطين التي يشار إليها بالضفة الغربية. مع الأسف لم يحدث هذا، وفي غزة، وليس فقط في غزة، نرى هجمات لا يمكن أن تكون لها أية مبررات، هجمات تشكل مجزرة تثقل ضمائر الجميع.

 

وكما قال البابا لاون الرابع عشر بشكل واضح ولا لبس فيه خلال تلاوة صلاة التبشير الملائكي الأحد 20 تموز "من العاجل والضروري احترام القانون الإنساني وواجب حماية المدنيين، وأيضا حظر العقاب الجماعي والاستخدام العشوائي للقوة والتهجير القسري للسكان". لا يمكن للجماعة الدولية أن تظل تراقب بلا حراك المجزرة القائمة. نتمنى للمؤتمر الدولي رفيع المستوى من أجل حل سلمي للقضية الفلسطينية وتفعيل حل الدولتين، وانطلاقا من لمس الحاجة العاجلة إلى إجابة متقاسَمة على مأساة الفلسطينيين، أن يسعى بعزم على حل يضمن أخيرا لهذا الشعب دولة ذات حدود آمنة ومحترَمة ومعترَف بها.