موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥
دار العائلة المقدسة للأيتام في بيت لحم: نبع محبة يحتضن أطفالاً بلا عائلات

أبونا :

 

كأنّ زلزالًا من الحياة يعبر أروقة دار الكريش «المهد»، لا تهزّه قوة عنيفة، بل طاقة الأطفال الرقيقة والعميقة في آنٍ معًا. يوسف يضحك حين ترفعه إحدى الراهبات من سريره الصغير، ومريم تجري في الممرات ممسكةً بكرتها الصفراء دون أن تفلتها، فيما يبقى عمر ساكنًا، ينتظر لمسة حانية.

 

إنها حاجة الأطفال إلى الحب هي التي تملأ غرف دار أيتام «العائلة المقدسة» في بيت لحم، التي تديرها راهبات بنات المحبة للقديس منصور دي بول. فوسط نظرات واحتضانات لا تترك مجالًا لحبس الدموع، تنسج الحياة أيامها بين أقلام التلوين والألعاب، محاطة بعناية الراهبات اللواتي يرافقن هؤلاء الأطفال حتى سن السادسة، ضامنات لهم الغذاء والتعليم والرعاية الطبية.

 

أطفال يشبهون يسوع

 

يقول الأب كريم مارون، الرئيس الإقليمي للآباء الفنسنتيين، في حديثه لفاتيكان نيوز: «هؤلاء الأطفال أيتام، أو متروكون، أو عُثر عليهم في الشوارع. إنها مأساة إنسانية من كل النواحي. كثيرون منهم وُلدوا في ظروف عائلية قاسية، وغالبًا لأمهات شابات غير متزوجات، اضطررن للتخلي عن أطفالهن خوفًا من القتل على يد عائلاتهن. تستقبل الراهبات المواليد، يربينهم ويغمرنهم بالمحبة».

 

ويضيف: «هؤلاء الأطفال يشبهون يسوع إلى حدّ كبير: وُلدوا في الهشاشة والتخلي، في مجتمع مجروح. إنهم بحاجة ماسّة إلى الحب والحنان. ورغم كل ما يُقدَّم لهم من بيت وطعام ورعاية وعاطفة، يبقى في داخلهم شوق دائم إلى أمٍّ وأب».

 

 

تنظيم دار الأيتام

 

يعيش في دار الأيتام في مدينة بيت لحم 45 طفلًا بشكل دائم، كما توفّر المؤسسة خدمة حضانة نهارية لـ35 طفلًا آخرين من أبناء العائلات الفقيرة التي يعمل أهلها خلال النهار. وبذلك، تستقبل الدار نحو 80 طفلًا حتى سن السادسة.

 

وتضمّ الدار مطبخًا، وقاعة طعام، وكنيسة، وغرف نوم، وصفوفًا تعليمية، ومساحات للعب. وقد قُسّمت غرف النوم بحسب الأعمار: حضانة للمواليد حتى 9 أشهر، وغرفة للأطفال من سنة حتى سنة ونصف، وغرفة للأطفال حتى 3 سنوات، وأخرى للأكبر سنًا.

 

كما يقوم التعليم على مراحل عمرية، مع صفوف خاصة لكل فئة: غرفة للحضانة، وفصول للمرحلة المتوسطة، وفصول للأطفال الأكبر سنًا. ويعمل في الدار فريق يضم نحو 70 شخصًا، من راهبات ومربّين وأطباء ومتطوّعين، يضمنون استمرارية هذا العمل الإنساني.

استقبال من رفضهم المجتمع

 

تقول الأخت لاودي فارس، التي ترعى أطفال الدار منذ 20 عامًا: «في بيت لحم، يأتي عيد الميلاد مرة في السنة، أمّا هنا فنحتفل بيسوع الحي كل يوم». وتضيف: «نحن لا نمارس التعليم المسيحي بالكلمات، بل يتجلى في هويتنا من خلال أفعالنا وسلوكنا. نحمل المسيح بين أذرعنا، لأن هؤلاء الأطفال رُفضوا من المجتمع. هنا يجدون الحنان، والأذرع المفتوحة، والمحبة».

 

غير أنّ هذا الدعم محدود زمنيًا، تتابع الأخت فارس: «نرافقهم حتى سن السادسة فقط، وعندما يحين وقت رحيلهم يكون الألم كبيرًا. بعد ذلك لا نعرف أي طريق سيسلكونه، ولا أي مستقبل ينتظرهم. لذلك فإن وجودنا هنا، في بيت لحم، أساسي لنعتني بهم يومًا بعد يوم، طالما أُعطينا ذلك». وبعدها يُسلَّمون إلى نظام الرعاية التابع للسلطة الفلسطينية.

 

 

تدخّل العناية الإلهية

 

يصف الأب مارون هذا الواقع من جهة بأنه «جرح مفتوح»، ومن جهة أخرى «معجزة يومية».

 

فالجانب المؤلم يتمثّل في «أمهات وحيدات تمامًا، بلا أي دعم عائلي، يلجأن إلى المستشفيات طلبًا للمساعدة عبر التواصل المباشر أو الإنترنت. وبعد الولادة، يتنازلن عن كل حقوقهن في الطفل، ويعدن إلى عائلاتهن، فيما يبقى الطفل مع راهبات بنات المحبة».

 

أما الجانب الإيجابي، فيكمن في أنّ «دار المهد تعتمد اقتصاديًا بشكل شبه كامل على التبرعات الخاصة: من الحجاج المسيحيين المقيمين في بيت الضيافة، ومن إسرائيليين، ومن عائلات فلسطينية تجمع التبرعات دعمًا للراهبات».

 

وتضيف الأخت فارس في هذا الشان: «كل ذلك ممكن فقط بفضل العناية الإلهية والتبرعات، وبفضل ما نسميه نحن ’الأيادي البيضاء‘. كل من يدخل إلى الدار يقدّم ما يستطيع؛ حتى القطعة النقدية الواحدة هي ثروة لنا. الرّب لا يتركنا أبدًا».

عاطفة ومحبة

 

الغاية هي منح هؤلاء الأطفال الكرامة، والحب، وأفقًا للمستقبل. الحجاج الذين يزورون الدار يتعلّقون كثيرًا بالأطفال، والمشاعر متبادلة. وتروي الأخت فارس قصة لا تزال تسكن قلبها: «زارتنا يومًا مجموعة من فرنسا، وكانت بينهم امرأة تُركت طفلة لكنها حظيت بفرصة أن تتبنّاها عائلة. عندما رأت الأطفال، تأثرت بشدّة وقالت: ’لقد كان لي بيت وتزوّجت، أمّا هؤلاء الأطفال فلا مستقبل لهم، لأن التبنّي هنا ممنوع. كان يمكن أن أكون واحدة منهم، لكن أُعطيت فرصة‘. كلماتها أصابتني في الصميم. نحن نعتني بهم ونحبهم، لكن يبقى شيء ناقص دائمًا: العائلة. وهذا هو الألم الأكبر».

 

وحول هؤلاء الصغار تتشكّل سلسلة تضامن إنسانية، تضم متطوّعين وأطباء ومتبرّعين وحجاج وجيران في المنطقة، يحملون معهم الطعام والحليب والملابس والألعاب والحفاضات والبطانيات. وهكذا، يصل الحبّ والحياة، وقبل كل شيء، المحبة، إلى أطفال «المهد».