موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
فيما كان يسوع متوجّهًا إلى أورشليم، يجتاز المدن والقرى، تقدّم إليه رجل وسأله: «يا رَبّ، هَلِ ٱلَّذينَ يَخلُصونَ قَليلون؟» (لوقا ١٣: ٢٣). وكالعادة، يتجاوز جواب يسوع حدود السؤال المطروح: فالمهم ليس معرفة عدد الذين يخلصون، سواء كانوا كثيرين أم قليلين، بل الأهم هو أن نَخلُص.
كما هو منطق الإنجيل، فإن الخلاص يحمل بُعدًا متناقضًا لا ينسجم مع منطقنا البشري، ويكشفه يسوع في تعليمه من خلال أجوبة مفعمة بالمفارقات.
فالباب ضيّق («ٱجتَهِدوا أَن تَدخُلوا مِنَ ٱلبابِ ٱلضَّيِّق» – لوقا ١٣: ٢٤)، ومع ذلك يدخل منه جمع غفير من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب («سَوفَ يَأتي ٱلنّاسُ مِنَ ٱلمَشرِقِ وَٱلمَغرِب، وَمِنَ ٱلشَّمالِ وَٱلجَنوب» – لوقا ١٣: ٢٩).
هناك من يظهر كأنّه يحمل جميع المؤهلات ليكون له الدخول («حينَئِذٍ تَقولون: لَقَد أَكَلنا وَشَرِبنا أَمامَكَ، وَلَقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا» – لوقا ١٣: ٢٦)، ومع ذلك يظلّ خارجًا («لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم» – لوقا ١٣: ٢٧). فها هُناكَ من هم آخِرون سيُصبِحون أوَّلين، ومَن هم أوَّلون سيُصبِحون آخِرين (لوقا ١٣: ٣٠).
نقف هنا عند خاصية معينة موجودة في النص، تلك المتعلقة بالباب وبإغلاقه.
يقول يسوع: كثيرون سيحاولون الدخول، لكنهم سيجدون الباب مغلقًا («أَقولُ لَكُم إِنَّ كَثيرًا مِنَ ٱلنّاسِ سَيُحاوِلونَ ٱلدُّخولَ فَلا يَستَطيعون.» – لوقا ١٣: ٢٤). هؤلاء سيقرعون الباب، لكنه لن يُفتح لهم. قد يتوقع البعض أن سبب إغلاق الباب هو التوقيت: ففي لحظة معينة يُغلق الباب، ومن يصل متأخرًا يبقى خارجًا.
لكن الأمر ليس كذلك. من يصل ويجد الباب مغلقًا ويقرع، لا يُفتح له، ليس لأنه متأخر. فالوقت لا ينتهي أبدًا للدخول، وهناك دومًا فرصة للخلاص، فرصة الساعة الأخيرة. الباب لا يُفتح لمن يظن أن له استحقاقًا، كأنه ملكٌ له مسبقًا. «لَقَد أَكَلنا وَشَرِبنا أَمامَكَ، وَلَقَد عَلَّمتَ في ساحاتِنا» (لوقا ١٣: ٢٦). هؤلاء الذين يتصوّرون أنّ التذكرة بيدهم مضمونة، يُغلق الباب في وجوههم، وليس من باب الانتقام أو الصرامة، بل فقط لأن الخلاص يُعطى بالنِعمة، ويستقبله فقط من يدرك أنه لا يستحقه.
نرى مثالًا على ذلك في إنجيل لوقا (٢٣)، حيث يسوع على الصليب، وأحد اللصَّين المصلوبَين بجانبه يتوسّل إليه أن يذكره عندما يدخل ملكوته، هذا الرجل، بطريقة ما، يقرع الباب، لكنّه لا يملك أي استحقاق، ويبدو أنه وصل بعد انتهاء الوقت، مع ذلك يُفتح له الباب: «الحَقَّ أَقولُ لَكَ: ستَكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس» (لوقا ٢٣: ٤٣).
إذن، الباب ليس ضيّقًا لأننا مطالبون باستحقاق الدخول من خلال أعمال البر أو عيش حياة نسكية قاسية، بل ببساطة ما يُطلب منّا هو أن ندرك صغرنا وفقرنا، فكل ما يُنتظر منّا، كما فعل اللص على الصليب، هو الاعتراف بخطايانا وحاجتنا للخلاص: هذه هي «الكلمة السرّية» التي تفتح الباب.
يسوع يدعو الذين يُتركون خارج الباب «فاعِلي ٱلسّوءِ» (لوقا ١٣: ٢٧)، لكن النص لا يوحي أنهم فعلوا شيئًا سيئًا، الظلم الذي يحكم عليهم بالبقاء غرباء عن الرب هو ذلك الظن بأنهم صالحون، إنه الشئ الوحيد الذي يمنع الخلاص.
ولهذا يوجّه إليهم يسوع تلك الكلمات الثقيلة: «لا أَعرِفُ مِن أَينَ أَنتُم» (لوقا ١٣: ٢٧). أي: أنتم لا تنتمون إلى ملكوتي، لأنكم لا تشاركونني منطقي، ولا طريقتي في النظر إلى الحياة وعيش الإيمان.
أما البعيدون، الذين يأتون كفقراء لا يحملون أي استحقاق، فهؤلاء هم الذين يجلسون على مائدة الملكوت.
من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب (لوقا 13:29)، أي من كل مكان، لأن أي نقطة انطلاق صالحة للسير نحو الباب الذي يفتح إلى وليمة الملكوت، شريطة أن نبقى مثل اللص على الصليب (لوقا 23)، الذي لا يستطيع سوى أن يتوسل إلى ما لا يُعطى إلا كعطية مجانية.