موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر السبت، ٢٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢١
الدين وخطاب الكراهية
فادي ضو - لبنان

فادي ضو - لبنان

فادي ضو :

 

أعلنت السلطات القضائية في مدينة تولوز الفرنسية، في 14 أيلول/سبتمبر 2021، براءة "محمد تاتاي" إمام مسجد المدينة الكبير، من تهمة التحريض على الكراهية والعنف ضد اليهود، التي كانت قد وُجّهت إليه بناءً على مضمون إحدى خطبه في المسجد، حين روى نَصَّ الحديث الشريف: "لا تَقُوم الساعةُ حتى يقاتل المسلمون اليهودَ، فيَقتلهم المسلمون حتى يَختبِئَ اليهوديُّ من وراء الحَجر والشجر، فيقول الحَجر أو الشجر: يا مُسْلم يا عبد الله هذا يهوديٌّ خلفي، فتَعالَ فاقتُلْهُ". وكانت مدينة تولوز قد تعرّضت سابقًا لهجوم إرهابي على يد إسلاميّ، قتل عددًا من الجنود الفرنسيّين، وبعض الأطفال في مدرسة يهودية.

 

رأى فريق الادعاء أن اختيار الإمام لهذا الحديث، يَنمّ على تحريض على الكراهية والعنف. أمّا الإمام تاتاي، فقد صرّح بأنّه لم يقصد التحريض ضد اليهود، وبأن معنى الحديث "الحقيقي" لا يعني ذلك، وقدّم اعتذاره إلى الذين قد انزعجوا من موقفه، وهُم -برأيه- قد أساؤوا فهمه. أما المحكمة فقد عدّت موقف الإمام غير حكيم، ولكنه لا يعبّر بالضرورة عن تحريض على الكراهية والعنف، لِكون النص الإشكالي هو اقتباس من نص ديني. عبّر القضاء بذلك عن تمسّكه المزدوج بحرية التعبير بأقصى حدودها من جهة، وبحرية المعتقد والدين من جهة أخرى، حيث تنأى السلطات الرسمية بنفسها عن التدخّل في تحديد ما يجوز استعماله من النصوص الدينية، حتى وإن تضمّنت عناوين لا تخدم العيش معًا بإخاء وسلام بين المواطنين.

 

تَنمّ هذه الحادثة على التعقيدات المرتبطة بحرية التعبير، وخاصة عندما يكون الموضوع ذا شأن ديني. اختارت السلطات الحكومية في فرنسا عدم التدخّل في آراء الناس ومعتقداتهم، بوصفها دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة، وتحترم الحريات وحقوق الإنسان، ضامنة للجميع حق التعبير عنها في حدود القانون، في حين نشهد في دول أخرى قوانين تحدّ من حرية التعبير، أو تُوجّه السلطاتُ الحكومية فيها مضمون الخطابات الدينية، تحت شعار منع ازدراء الأديان أو محاربة التطرّف والإرهاب.

 

كرّس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) حرية التعبير (المادة 19)، بشكل يهدف إلى ضمان حق الاختلاف في الرأي، والتعبير عنه بمختلف الوسائل في المجالين الخاص والعام. وحصَر الإعلان ضوابط ممارسة هذا الحقّ في المحافظة على سلامة الأشخاص (المادة 3)، ورفض المعاملات الحاطَّة من كراماتهم (المادة 5)، أو التحريض على التمييز ضدهم (المادة 7)، والتدخل التعسّفي في حياتهم الخاصة أو التعرّض لشرفهم أو سمعتهم (المادة 12). لكنْ أُضيفَ لاحقًا إلى القانون الدولي، عبْر "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" الصادر عام 1966، و"خطة عمل الرباط" للأمم المتحدة الصادرة عام 2012، حظْرُ الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، التي تُشكّل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف. جاءت هذه الإضافة للحدّ من تَفشّي العنصرية، أو صراع الهويّات والنزاعات ذي الطابع الديني.

 

رغم هذا التطوّر في القانون الدولي، مال موقف القضاء الفرنسي في قضية الإمام تاتاي نحو الحفاظ على حرية المعتقد والتعبير، بدَل التدخّل للحدّ من الخطابات الدينية التي تحتوي على مضامين سلبية تجاه مجموعات بشرية أخرى. وكانت "خطة عمل الرباط" أوصت بالتمييز بين ثلاثة أنواع من خطابات الكراهية. الأول منها هو التعبير الذي يُشكّل جريمة بسبب احتوائه على تحريض مباشر على العنف. والثاني هو التعبير الذي لا يستحق العقاب جنائيًّا، إنما يمكن أن يكون مُسوِّغًا لدعوى مدنية أو عقوبات إدارية، لاحتمال إسهامه في تعزيز مواقف التمييز والعدائية. أما الثالث فهو التعبير الذي لا يستدعي أي عقوبات جنائية أو مدنية أو إدارية، مع كونه مثيرًا للقلق بشأن احترام التنوّع والآداب واحترام حقوق الآخرين.

 

في الواقع، إنه لرائج أن تحتوي النصوص الدينية -ومنها "الكتب المقدسة"- على مضامين تدعو إلى التمييز بين الناس، الذي قد يَنتج منه تعامُلٌ مجحف أو مسبِّب للضرر أو مبرِّر للصراعات العنيفة. وبهذا المعنى تُصبح هذه الأديان أداة محتمَلة لخطابات الكراهية، وتصطدم بالمنظومة الأخلاقية والقضائية للقانون الدولي. فقد يَفلت "الخطيب الديني" من العقاب الجزائي أو المدني في بعض الحالات، ولكنه يبقى مُلامًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا وربما إداريًّا إنِ استعان بمثل هذه النصوص، مع ثبوت شرعيّتها وحرية الخطيب الدينية. باختصار، إنَّ تطوُّر المنظومة الأخلاقية والقانونيّة الدوليّة تضع الأديان أمام تحدٍّ منهجي. فهذه المنظومة تعطي الأديان من جهة الحقَّ في أن تحتوي على معتقدات فيها من السلبية تجاه الآخرين، ولكنها تَدِينها أخلاقيًّا وقانونيًّا من جهة أخرى إن نتج منها تمييز وكراهية، وربما عنفٌ تجاههم. فهل تستطيع الأديان حلّ هذه المعضلة المنهجية من دون "تعطيل" نصوصها التي فيها تمييز وكراهية؟

 

(تعددية)