موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
البطريرك لويس ساكو يكتب حول واقع الكنيسة في العراق وتطلعاتها

البطريرك لويس روفائيل ساكو :

مقدمة

تعود جذور المسيحية في العراق الى القرون الأولى. وعانت المسيحية منذ نشأتها الكثير من الاضطهادات والظلم، لكن بالرغم من ذلك ظلت صامدة وملتزمة برسالتها، فحملت الانجيل الى بلدان بعيدة كبلدان الخليج وبلدان آسيا كالهند والصين. واليوم نأمل أن تصمد أيضا في وجه العاتيات من الأمور، وأن يتوفر لها ما يجعلها تبقى امينة لهويتها ودعوتها.

الكنيسة في العراق، وطوال القرون الستة الأولى كانت متحدة واحدة، على تنوع التسميات التي أطلقت عليها: كانت تسمى "كنيسة المشرق" وسُمّيت أيضا بـ"الكنيسة خارج الاسور" نسبة للإمبراطورية الرومانية، ودعيت بكنيسة فارس نسبة للمملكة الفارسية التي حكمت هذه الاصقاع قبل قدوم المسلمين. كما سميت بالكنيسة النسطورية في القرن السابع، لكن يقينا، ليس لها أية صلة بالنسطورية عقائديا، وإنما الاختلافات هي لفظية وثقافية. والدليل هو البيان المشترك بينها وبين الكرسي الرسولي (11 نوفمبر 1994). وثمة دراسات جادة في هذا الموضوع.

لقد قدَّم المسيحيون العراقيون خلال تاريخهم الطويل، خدمات جليلة لبلدهم، اقتصادية وثقافية واجتماعية. انهم يؤمنون بأن العراق ارضهم وهويتهم، ويتطلعون إلى ما لم يحصلوا عليه بنحو جدّي حتى عصرنا هذا، ألا وهو السلام والاستقرار، والمساواة التامة، والمواطنة الكاملة، والحرية والكرامة.

الوضع الحالي: أزمات متعاقبة ومركبة

كان عدد المسيحيين العراقيين في أيام النظام السابق مليون وسبعمائة وثلاثين الف مسيحي (كما جاء في الإحصائيات المنشورة). وبعد سقوط النظام عام 2003، تراجع العدد الى خمسمائة ألف (هذا رقم تخميني ولا توجد احصائيات رسمية). المسيحيون العراقيون موزعون على 14 طائفة معترف بها رسميا من قبل الدولة. ومن حيث الحجم يأتي الكلدان في المقدمة، يليهم السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس، وقد باتت المسميات الأخرى أقلية عددية…

الوجود المسيحي بدأ بالتراجع بنحو واضح للعيان وتحت عدة مؤثرات:

– انعكاسات الحرب العراقية الإيرانية التي دامت 8 سنوات (1980-1988)، وخلفت مليون شهيد ما عدا الخراب.

– إفرازات الحرب مع الكويت في 1991 وتلتها 13 سنة من الحصار الاقتصادي، مما دفع العديد من العائلات الى الهجرة نحو الغرب خصوصا الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبعض الدول الأوروبية كالسويد وهولندا وألمانيا.

وبعد سقوط النظام وبقاء الشعارات عن الديمقراطية والحرية والازدهار في اطار الشعارات، واجه العراقيون أزمات جديدة مركبة:

– الفوضى الأمنية والخلل في المتابعة؛ فالكثير من أحداث الإرهاب لم تتم ملاحقة الجناة فيها، وعند القبض على بعضهم، يتم الإفراج عنهم بشكل أو آخر.

– المحاصصة الطائفية وتهميش المكون المسيحي والسعي لسن قوانين مجحفة بحقه كقانون الزام القاصرين باتباع الإسلام عندما يشهر احد الوالدين اسلامه.

– وجود عشرات الميليشيات وجماعات مسلحة منفلتة وجماعات متشددة قامت بعمليات خطف وتهديد ودفع مبالغ فدية، واستحواذ على الممتلكات والأموال. وكانت الاعتداءات على المسيحيين كبيرة ومؤذية جدا: فكانت الحصيلة خلال 15 سنة: تفجير 61 كنيسة ويأتي في الذروة تفجير كاتدرائية سيدة النجاة للسريان الكاثوليك اثناء قداس الاحد في 2010 واستشهاد كاهنين شابين و48 شخصًا… وحصيلة الفترة (2003-2018) كانت: قتل 1224 مسيحيا ومن بينهم رجال دين، و الاستحواذ على 23 الف بيت وملك يعود لهم. واليوم توجد حملة للاستحواذ على وظائفهم.

-ثم كانت المأساة بقدوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واستحلاله مدينة الموصل وبلدات سهل نينوى في حزيران وآب 2014 وتخيير المسيحيين بين اعتناق الإسلام، وعهد الذمة – الجزية، والتهجير، والقتل وتم طرد 120000 الف مسيحي من ديارهم وسرقت أموالهم واملاكهم وحتى اوراقهم الثبوتية وطمست المعالم المسيحية القديمة والحديثة في الموصل.

احد اهم العوامل التي ساهمت في تدهور الوضع والتي أثرت على هجرة المسيحيين هو الإسلام السياسي الذي يهدف الى افراغ المنطقة من المسيحيين، وضمن المشهد المؤسف التالي: التيارات المتشددة لا تقبل الآخر المختلف: المسيحي والايزيدي والصابئي. ان الخطاب المتداول المباشر وغير المباشر هو انهم كفار ومشركون، وهذا جهل بعقيدتهم، ومن المؤسف انهم عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية. كما ان هذه التيارات المتشددة لا تقبل نفسها أحيانا مثلا الصراع السني – الشيعي في بسط النفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن…الخ.

هكذا ما يحصل في الشرق الأوسط واضح جدا ويحمل المعالم المقلقة الآتية:

المنافسة والتنازع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبلدان الخليج وبخاصة السعودية وتركيا في توسع وجودهما. وغياب التوازن بين المعسكرين الدوليين الكبيرين: الولايات المتحدة الامريكية وروسيا، خلق صراعات وحروب بالنيابة.

ستار المظلومية: ان الطبقة السياسية العراقية كما في دول أخرى تختبئ وراء الدين وتحكم تحت غطائه وقسمت البلد تحت ستار المظلوميات: مظلومية الشيعة، ومظلومية السنة ومظلومية الكورد، وكأنه لا مظلومية بشأن المسيحيين. هذا فضلا عن غياب استقلالية القرار عموما عند السياسيين العراقيين بسبب التاثيرات المذكورة، ولا رؤية واضحة ولا برامج عمل مدروسة للبناء وتحديث البنى التحتية وتحديث المجتمع. فالرؤية مشوشة وما يحدث هو الوصول الى السلطة والمال. لقد أخفقت الحكومات المتعاقبة منذ 2003 في بناء الدولة على أسس صحيحة ومتينة، دولة القانون والمؤسسات. وان كثرة الميليشيات، ومستوى التزوير في الانتخابات وعقد صفقات حول المناصب عقـّد المشهد العراقي السياسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي!

هناك عامل آخر لا يقل أهمية هو عامل الاقتصاد، فاعتماد الدولة يكاد يكون فقط على النفط لأن الصناعة معطلة وكذلك الزراعة والسياحة.

يضاف الى كل هذه العوامل الظاهرة الصادمة: تفشي الفساد وارتفاع نسبة البطالة 22.6%، وتردّي الخدمات (الكهرباء والماء) والمؤسسات الصحية والتعليمية، وانتشار الجهل والامية 8.3%.

هذه العوامل مجتمعة وبتحريض فاضح ومتواطئ من هنا وهناك أدّت إلى اهتزاز ثقة المسيحيين بالمستقبل، ودفعتهم بشدة نحو الهجرة وترك البلاد لتوفير مستقبل آمن لهم ولأولادهم. فلجأت أعداد كبيرة منهم إلى لبنان والأردن وتركيا بهدف الذهاب الى الغرب والاستقرار فيه.

تفكك البيت المسيحي – المسيحي

المحزن ان النخبة الثقافية والاقتصادية المسيحية تركت البلد وبقيت الطبقة الوسطى (الموظفون وأصحاب محلات صغيرة) والطبقة الفقيرة غدت رهينة المساعدات الإنسانية، واتكالية الذهنية. لمواقف الكنائس فيما بينها تأثير سلبي على الوضع العام. الكنائس غير متحدة. وغياب الرؤية الواضحة والعمل المشترك لهما صدى على الواقع، بالرغم من كل الجهود التي تبذلها البطريركية الكلدانية، لربما لأن الوضع العام في البلد انسحب على بعض الكنائس التي غلب لديها الجانب القومي على الجانب الكنسي، وتمويل جهات معينة لها، فضلا عن التنشئة الكلاسيكية عند بعض الاكليروس.

كذلك جل الأحزاب المسيحية مرتبط بالممولين. وبالنتيجة الولاء هو للممول، مما جعل الكوتا المسيحية (خمس مقاعد) مختطفة. كل هذا أدى إلى انقسام المسيحيين بين المركز وإقليم كردستان في موضوع ربط سهل نينوى بأحدهما، في حين قرار المحكمة الاتحادية العراقية واضح بعدم شمول مناطق سهل نينوى بمادة ١٤٠، أي بالمناطق المتنازع عليها. هذا الصراع على مناطق سهل نينوى جعل المسيحيين يعتقدون أنهم قد يكونون من جديد حطباً لصراع قد يشتعل في أية لحظة، والدليل هو إقامة حواجز لمنع عودة عائلات بعض البلدات الى ديارها، نذكر على سبيل المثال بلدة بطنايا بسبب وجود قوات الحشد الشعبي في جنوبها وقوات البيشمركة في شمالها.

آمال معقودة لمستقبل أفضل

صحيح ان ثمة سلبيات كثيرة، ولكن توجد أيضا إيجابيات: الحريات الفردية، حرية التعبير عن الرأي، وجود انتخابات برلمانية والرواتب جيدة. وبالنسبة للمسيحيين حرية انشاء الكنائس والنشر وتشكيل أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني وجمعيات ثقافية.. الخ.

بصراحة نلمس اليوم وجود شعور عند الناس (مثلا المظاهرات في البصرة وبغداد ومدن أخرى) حول مطالبتها بتطبيق قيَم السلام والحرية والعدالة الاجتماعية والمصالحة، واحترام حقوق الانسان، وتحقيق الديمقراطية وحماية التعدّدية وانهاء تعدد الهويّات في صالح الهوية الوطنية الواحدة وبناء دولة حقيقية. ومن الملفت للنظر ان المرجعيات الدينية بخاصة الشيعية اخذت تطالب بقيام نظام مدني يشترك فيه المواطنون بحسب معايير الاقتدار وليس الانتماء الإثني او المذهبي. كذلك الانتخابات التشريعية الجديدة وتشكيل الحكومة الحالية هي مؤشر إيجابي آخر نحو التغيير، وقد أبدت عن رغبتها في الإصلاح ومعالجة الملفات الضاغطة كالمحاصصة الطائفية والفساد والأمن وتوفير الخدمات وتقوية الاقتصاد. ثمة 290 نائبا جديدا من بين 329 وخمسة مسيحيون جدد أيضا. ورئيس جمهورية جديد وكذلك رئيس وزراء ورئيس البرلمان. هذه مؤشرات أمل إيجابية.

نحن ككنيسة بذلنا جهودا كبيرة لاستقبال وإيواء المهجرين من الموصل وسهل نينوى 120000 الف شخص وإطعامهم وضمان مواصلة أولادهم لدراستهم خلال أكثر من ثلاث سنوات، وذلك عبر مشاركة المؤسسات الكنسية في الداخل والخارج . كما بذلنا جهودا مضنية من خلال علاقاتنا وحوارتنا مع المرجعيات المسلمة للدفاع عن حقوق المسيحيين و طمأنتهم وقد ركزنا على النقاط الاتية:

1- تفكيك الخطاب التحريضي على الكراهية و قد تم تقدم كبير في هذا المجال.

2- شكلنا مع نخبة ن علما دئن شيعة وسنة وممثل عن الايزيدية والصابئة فريق حوار وعملنا على اشاعة ثقافة الانفتاح على الآخر عبر إزالة المفاهيم الخاطئة حوله، و الادبيات القديمة، وتغيير الذهنيات وتعميق القواسم المشتركة بما يُسهم في تحقيق العيش المشترك. وكان لمساعدة العائلات المسلمة المهجرة والتضامن معها الأثر الايجابي. وما يجدر الإشارة اليه اعددنا كتيبا للتعريف عن الديانات في العراق بأسلوب علمي وامين، ونأمل ان يعتمد فيما بعد في مناهج التعليم.

3- لقد اكدنا عبر ندوات ومقابلات صحفية ولقاءات على أهمية قيام دولة مدنية، دولة المواطنة بعيدا عن المحاصصة الطائفية والغالبية والأقلية، وطن واحد مع علاقة جيدة مع العالم والجيران..

4- المطالبة باصلاح القوانين والدستور الحالي متناقض ويحتاج دوما الى التفسير، كذلك اصلاح مناهج التعليم وبعض فقراتها بات مستهلكا وقديما ولا يناسب العصر، وإطلاق حملات إعلامية لتوعية الناس حول أفكار داعش المنافية للدين واحترام حقوق الانسان واهمية السلام.
باختصار: الكنيسة ساهمت في تعزيز ثقافة السلام والمواطنة والعيش المشترك

وضع المهجرين وإمكانية عودتهم

المسألة الأساس والتحدي الأكبر هما: كيفية إبقاء المسيحيين في العراق وتعزيز حضورهم وشهادتهم.

مع المهجرين في الداخل منذ عملية تحرير مناطق المسيحيين، باشرت الكنيسة بجمع المال من الجمعيات الكنسية والمنظمات الدولية لترميم بيوت الناس وتشجيعهم على العودة الى ديارهم ومن بين 20000 عائلة مهجرة عاد اكثرمن 9000 عائلة. هناك عائلات تنتظر لحين توفر الظروف الملائمة، وأخرى بيوتها محروقة ومهدّمة بالكامل فتحتاج الى المال الكثير، والدولة لم تبادر بشيء لان ليس لها المال بسبب الفساد وكل ما سبق ذكره. هناك، من بين المهجرين، من وجد عملا حيث يسكن ففضل الاستمرار بالبقاء هناك.

ماذا يحتاج المسيحيون للبقاء في مناطقهم والتواصل مع مواطنيهم؟

يحتاج المسيحيون والأقليات الأخرى الى تطمينات للبقاء والتواصل مع تاريخهم ومواطنيهم. يريدون ان تُشعِرهم الدولة انهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، مما لم يتم تحقيقه حتى الان ويثير عدة تساؤلات.

يريدون موققا واضحا رسميا في احترام خصوصيتهم، ومناطقهم، وحمايتهم من أي جهة تستهدفهم، او أي قانون يظلمهم. إنهم يحتاجون الى بناء الثقة بينهم وبين جيرانهم، في المناطق المحررة من داعش، عبر إجراءات عملية: معاقبة الجناة، وتعويض الضحايا، واستعادة املاكهم، ورفع الألغام من حقولهم، واعمار مناطقهم وتحسين الخدمات وإيجاد فرص عمل ليعودوا الى ديارهم.

العلاقة مع المنتشرين في بلدان الاغتراب والتواصل معهم:

اما العلاقة مع المغتربين والتواصل معهم، فلنا ابرشيات وخورنات في الخارج ونزورهم ونتواصل معهم، وثمة حاجة الى كهنة وليس لدينا العدد الكافي ولا يمكن ان نفرغ العراق من كهنته، لان بصراحة قوة الكنيسة ينبغي ان تبقى في العراق وعلينا ان نقويها روحيا وثقافيا واجتماعيا وحتى سياسيا، ولا يمكن ان نعوّل على بلدان الانتشار لان الناس مع الزمن سوف ينصهرون في مجتمعاتهم ولا اعتقد ان ثمة من سيعود الى العراق بعدما استقروا هناك. والموجودون في دول الجوار لا اعتقد سيعودون، لان أقاربهم في الخارج يدعمونهم ويعملون على لمّ الشمل…

أخيرا: على الكنائس المسيحية في العراق والشرق ان تتعلم من أخطاء الماضي وتقوي علاقاتها مع بعضها ومع الكنائس والمؤسسات المسيحية في العالم (الفاتيكان، مجلس الكنائس العالمي، مجلس كنائس الشرق الأوسط) في سبيل بقاء المسيحيين في الشرق وحمايتهم ودعمهم… فوضعهم قلق ومستقبلهم مهدد ان استمرت الأوضاع على ما هي عليه. نسال الله ان يوفقنا جميعا لكل عمل صالح في شرقنا المعذب.