موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في لحظة تاريخيّة في مسيرة الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، نلتقي في الصرح البطريركي للأرمن الكاثوليك، ونحن على أعتاب إعلان تقديس الطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان (1869-1915)، حيث يرتفع اسم ماردين من جديد، ليس فقط كمدينةٍ ملهمة، بل كأيقونة حية لشهادةٍ اختُبرت بالتضحيّة والثبات، وخرجت منها الكنيسة أكثر صلابة، وأكثر قداسة.
ماردين، تلك المدينة المتربعة على سفوح الألم، كانت في الماضي مسرحًا لصمت البطولات، حيث حمل أبناؤها، وبخاصة كنيستها الأرمنيّة الكاثوليكيّة، صليب الإيمان في وجه الإبادة. ومن وسط هذا الصمت، خرج صوتٌ لا يزال يتردّد حتى اليوم: هو صوت المطران إغناطيوس مالويان، رجل الله، الذي اختار أن يبقى مع شعبه، لا أن ينجو بنفسه لوحده، فصار بذلك راعيًّا حتى الاستشهاد، على خطى المعلم الأوّل السيد المسيح.
إنّ هذا التقديس ليس حدثًا تاريخيًّا فحسب، بل هو تكريم لذاكرة شعبٍ بأكمله، وعزاءً لكنيسةٍ ما تزال حتى اليوم تعبّر في درب الآلام – من سوريا إلى لبنان، ومن العراق إلى الشتات. فمن هنا، من هذا الحدث الكنسي الكبير، تنطلق دعوتنا اليوم إلى التأمل والرجاء.
نسأل صاحب الغبطة البطريرك روفائيل بطرس الحادي والعشرون ميناسيان، كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك، ليس فقط عن قديسٍ صار لنا في السماء، بل عن رسالة متجدّدة تُعزينا، وتقدّم لنا الطريق لكي نفهم معنى الشهادة والرجاء في عالمنا الممزّق.
⮜ صاحب الغبطة، في البداية كيف وصلنا إلى هذه اللحظة المباركة في تاريخ كنيستنا مع مسيرة ملف الدعوى؟ وبماذا تُقدم حياة المطران إغناطيوس مالويان للعالم، من نظرة الكنيسة إلى الشهادة والقداسة في زمن الألم هذا؟
أودُّ في البداية أن أشكركم على هذه المناسبة الطيّبة التي هي فرصة مميّزة لكي نتوقّف ونتحدّث فيها عن الطوباوي الشهيد إغناطيوس مالويان، رئيس أساقفة ماردين للأرمن الكاثوليك (1911-1915). ونحن من هذه اللحظة نقول بفرح كبير ونعلن قداسة الطوباوي مالويان.
أريدُ هنا أن أربط كل ما حصل معنا، لنصل إلى هذا الإعلان كأعجوبة متكاملة، مع خطوات في طريق تحضير ملفات عدد من قديسي كنيستنا، من آخر من توصلنا له في ملف المطران زوهرابيان الذي عمل وخدم في أبرشيّة الجزيرة والفرات للأرمن الكاثوليك في سورية، وسبقه ما شهدنا عليه فيما يخص البطريرك الطوباوي اغاجانيان، وهو في مسيرة درب القداسة.
أثناء هذا العمل من أجل تطويب كل من البطريرك اغاجانيان والمطران زوهرابيان نبتت فكرة العمل على تقديس الطوباوي مالويان، وهو طوباوي منذ زمن بعيد، فبعد السينودس المنعقد في روما عام 2024 رغبتُ أن أقدّم اسم الطوباوي مالويان لقداسة البابا فرنسيس، وهذا ما حصل.
بعد أسبوعين وصلتنا موافقة البابا فرنسيس على إعلان التقديس، وأنّه من هذه الشهادة تنبت قداسته. وعلى هذا المنوال عملنا بسرعة لنصل إلى هذه المرحلة، بعد عدة أشهر من العمل والتحضيرات، والتي تخللها رحيل البابا فرنسيس وانتخاب البابا لاون الرابع عشر، إلى أنّ تقرّر إعلان تاريخ القداسة في 19 تشرين الأول هذا العام، والآن معًا نكمل هذا العمل لنصل إلى يوم التقديس الكبير.
⮜ صاحب الغبطة ما هي الرسالة التي توجهونها في هذا التقديس، لاسيّما في ظل ما تعانيه شعوب المنطقة من تهجير وعنف واضطهاد؟
أرغبُ أن أركّز معك على سيرة حياة الطوباوي الشهيد مالويان، الذي كان بدوره راعيًا حقيقيًا، عمل وخدم من أجل شعبه، وبشهادته ثبّت الإيمان الذي عاشه، وهو ما نحتاجه اليوم كدرس في حياتنا، خاصة في ظل مع ما نعيشه من صعوبات، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
علينا أن ننظر للأمور التي نعيشها نظرة إيمان عميق وحقيقي، لكي نعود إلى حياتنا الروحيّة وإلى الإنجيل المقدّس. أن نثبت في إيماننا هذا رغم كل شيء لنكون من المنتصرين بالشهادة المسيحيّة وسط كل هذه الصعوبات. إنًنا نأخذُ المثل الصالح من الأب والراعي الطوباوي مالويان. هذا ما نريد أن نعيشه كأبناء كنيسة، نسير برجاء نابع من إيمان وشهادة.
⮜ كيف يمكن للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية أن تُترجم حدث التقديس هذا إلى مسيرة روحيّة ونهضوية تُعزّز هويّة مؤمنيها في الشتات والبلاد الأم؟
علينا قبل كل شيء أن ننظر لكل ما يحصل معنا كنعمة ربانيّة أُعطيت لنا مقابل لا شيء من أعمالنا، وبالرغم من ضعفنا أحيانًا. علينا أن نعود إلى ضمائرنا ليكون لدينا ندامة خاصة، تجعلنا نعيش محبّة كاملة أولاً تجاه ربنا الذي منحنا هذا الفرح بكنيستنا من خلال المناسبات والعجائب التي نشهدها في حياتنا، حتى نتعلم نحن بدورنا أن نتقوى بهذا الإيمان الذي نشهد له ويعطينا محبة أكبر فيما بيننا. ثانيًا، وهذا الإيمان أُعطي لنا بتضحيات كبيرة ابتداءً من تضحية السيد المسيح لنا على الصليب ووصولاً للقيامة.
هذا هو الطريق الذي رسم لنا لنسير ذات الخطوات ونعبر للقيامة. وهذا ما يقدّمه لنا الإنجيل المقدّس. فوسط كل التحدّيات والآلام علينا أن نعود دائمًا إلى الحياة الروحيّة التي فيها نتمكّن من مواجهة ما نشهده من آلام وتحدّيات وهذا نداء للجميع، ليس فقط لأبناء كنيستنا بل معًا نحيا ونشهد لرسالة والمحبّة والقيامة.
⮜ إلى أي مدى يشكّل إعلان قداسة مالويان فرصة لتعزيز الحضور الأرمني الكاثوليكي في الشرق والانتشار، ليس فقط كتراث بل كرسالة حيّة ومناسبة تُجدّد داخل كنيستنا الحياة الروحيّة؟
عندما تقول "تُجدّد"، هذا الأمر في غاية الأهميّة وهو أن نعترف بضعفنا، نعترف بابتعادنا عن حياتنا الروحيّة في مكان ما. تحدثتُ معك قبل قليل عن هذه النعمة الإلهيّة التي قُدّمت لنا بدون أي مقابل، وهي فرصة كبيرة لنا جميعًا لنعيش هذه الأزمنة المباركة في قلب كنيستنا كعائلة واحدة، تعيش صعوبات نعم، ولكنها في النهاية تسير معًا لتشهد للمسيح القائم. وهذا هو روح قداسة الطوباوي مالويان؛ أن نعيش القيامة رغم كل الآلام.
أتحدث معك عن الحضور، وللمناسبة أريد من خلالكم أن أقول كلمة لأبناء أبرشية الجزيرة والفرات للأرمن الكاثوليك في سورية حيث غالبية العائلات القادمة من ماردين عاشت مع الطوباوي مالويان حينها. كلمتي لهم أن يفتخروا بما لديهم من قيم روحيّة وإنسانيّة كبيرة، لا سيما قيم التضحية المتميزة لديهم. نحن امام إنسان كبير ضحّى بحياته من أجل شعبه، ونحن بدورنا نحتاج إلى هذه التضحية من أجل بعضنا البعض وأن نتماسك أكثر فيما بيننا لنشهد للإيمان الذي اعطي لنا.
إنّ أبناء الجزيرة وعائلاتهم تربوا على الحياة الروحيّة والصلاة وعلى التضامن والمحبّة فيما بينهم. فحبذا هذه الصعوبات التي يمرون فيها لا تعطيهم اليأس بل القوة، لكي يجتازوا كل هذه التحدّيات، ويبقوا دائمًا متماسكين مثلما تعلمنا منهم في الماضي، فهم بدورهم قاسوا ولكنهم ثبتوا في القيامة وسيبقوا في الحاضر والمستقبل.
⮜ صاحب الغبطة، في زمن تكثر فيه التحديات وتضغف القيم، كيف يمكن لقديس مثل إغناطيوس مالويان أن يلمس قلب شبيبة اليوم؟ وكيف تترجم الكنيسة شهادته إلى لغة تُفهم وتُعاش في واقع شبابنا؟
لشباب اليوم الكثير من الأحلام والآمال، وبمكان ما يرغبون بالوصول إلى ما يريدون بسهولة. وهذا قد يكون من غير ممكنًا في أوقات كثيرة. أنّ يعيشوا فرصهم بحلوها ومرها. إنّ رسالتنا المسيحية تتطلب منهم المشاركة، ونريد منهم عملهم الحقيقي والواعد، نريد مساهمتهم في صنع مسيرة الإيمان والخلاص رغم كل الصعوبات.
تتجّلى هذه التحدّيات في جوانب حياتيّة عديدة؛ إنسانيّة واقتصاديّة وسياسيّة، تجعل كل شيء يبدو من حولنا في انهيار شامل، وقد يبدو الخروج من هذا اليأس لدى الكثير من الشباب صعبًا. ولكنني أقول لهم: بالإيمان والمحبّة فيما بيننا -النابعة من محبتنا معًا للسيد المسيح الحاضر في سر الافخارستيا من خلال التناول الذي لا يعبر عن رمز بل عن وجود حقيقي للمسيح جسدًا وروحًا- نستطيع تجاوز سويًا هذه الضيقات.
إنّ الروح القدس الحاضر معنا دائمًا يُعزّينا ويجعل الشبيبة لا تفقد الأمل، وإنما تعيش واقعها بإيمان كما فعل قديسنا الجديد مالويان الذي بقي أمينًا لرسالة المسيح حتى الاستشهاد، وبذلك نعكس معنىً جديدًا لحياتنا كشباب، وهو أن نسلّم ذواتنا إلى الله، وأنّ نعيش رجاء لا ينتهي في حياتنا.