موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ أغسطس / آب ٢٠٢٥
البطريرك بيتسابالا: دم الأبرياء في غزة والعالم لن يُنسى
ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، القداس الإلهي بمناسبة عيد انتقال العذراء مريم في دير البندكتان بأبو غوش، مؤكدًا أن رسالة المسيحي هي زرع الحياة، والبقاء تحت ظل حماية الله، حتى لا تكون الكلمة الأخيرة للشر.

أبونا :

 

قال الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: "أنّ ألم هذه الأيام لا يسمح لنا بإلقاء خطابات عن السلام مزخرفة أو مجرّدة، وبالتالي غير قابلة للتصديق، ولا بالاكتفاء بالتحليلات أو الإدانات المتكرّرة. بل المطلوب هو أن نقف كمؤمنين في قلب هذه المأساة، التي لن تنتهي قريبًا!".

 

وجاءت كلمات البطريرك خلال عظة القداس الذي ترأسه في دير أبو غوش للرهبان البندكتان، شمال غرب القدس، بمناسبة عيد انتقال السيدة مريم العذراء، حيث قدّم تأملاً في مقطع من سفر الرؤيا، وهو النص الذي، كما قال، رافق الجماعة المسيحية وكان مصدر تأمّل متكرّر "خلال هذه الأشهر المؤلمة".

 

صورة واضحة لقوّة الشرّ في العالم

 

وقدّم الكاردينال بيتسابالا في عظته قراءة واقعيّة للنص الإنجيلي، مسلطًا الضوء على قوّة الشيطان الموصوف بالتنين، "الذي لن يتوقّف عن فرض نفسه وإثارة الغضب في العالم، وخاصة ضد ’الذين يعملون بوصايا الله وعندهم شهادة يسوع‘" (رؤيا 12: 17).

 

وقال: "نرغب جميعًا أن يُهزم الشرّ بسرعة وأن يختفي من حياتنا. لكن الأمر ليس كذلك! نحن نعرف هذه الحقيقة، وعلينا أن نتعلّم باستمرار كيف نعيش مع هذه البصيرة المؤلمة: أن قوّة الشرّ ستبقى حاضرة في حياة العالم، وفي حياتنا نحن أيضًا".

 

وأضاف: "بقوّتنا البشريّة وحدها لا نستطيع هزيمة قوّة هذا التنين العظيمة. إنّه سرّ، مهما كان قاسيًا وصعبًا، إلا أنه جزء من واقعنا الأرضي". وأوضح بطريرك القدس للاتين مشدّدًا أنّ هذا "لا يعني الاستسلام أمام الشرّ"، بل "وعيٌ بوجوه ضمن ديناميكيّة الحياة في العالم، من دون هروب، ومن دون خوف، ومن غير مشاركة فيه، وأيضًا من دون إنكار لوجوده".

في الأرض المقدّسة.. أعظم تجلٍّ للشيطان!

 

ومع ذلك، أبرز الكاردينال أنّ "التنين لا يمكنه أن ينتصر على بذرة الحياة، التي هي ثمرة المحبّة".

 

وأشار إلى أنّ البريّة في الكتاب المقدّس ليست مكان غياب، بل موضع عناية إلهيّة، حيث يواصل الله الاعتناء بخاصّته حتّى في أصعب الظروف. وقال غبطته: "في خبرتنا الحاليّة، القاسية والصعبة، يواصل الله الاعتناء بنا، محذّرًا إيّانا قبل كل شيء من قوّة الشرّ، ومن السلطة الزمنيّة التي يبدو فعلًا أنّها تسود على هذه الأرض وفي هذا الزمن".

 

وجدّد بطريرك القدس التأكيد على أنّ الجميع يتطلّعون إلى نهاية الحرب وزوال آثارها المؤلمة التي طالت حياة الجماعات بأسرع وقت، داعيًّا في هذا السياق إلى بذل كل جهد ممكن لتحقيق ذلك. إلا أنّ الكاردينال أوضح بواقعيّة: "لا ينبغي أن نُخدع بالأوهام".

 

وأضاف: "حتى لو انتهت الحرب، فلن تنتهي العداوات ولا الأوجاع التي سبّبتها. ستبقى في قلوب الكثيرين رغبة في الانتقام والغضب. فالشرّ، الذي يبدو أنه يُسيّطر على قلوب كثيرين، لن يتوقّف عن العمل، بل سيواصل نشاطه، وربما بطرق أكثر ابتكارًا".

 

وتابع قائلاً: "يبدو بالفعل أنّ أرضنا المقدّسة، التي تحتضن أسمى وحيٍ وإعلان من الله، هي أيضًا موضع أعظم تجلٍ لقوّة الشيطان. وربما لأنّها الأرض التي فيها قلب تاريخ الخلاص، فهي أيضًا المكان الذي يحاول فيه ’العدو القديم‘ أن يفرض نفسه أكثر من أي موضع آخر".

قد نكون قلّة، لكننا سنكون "حضورًا مقلقًا"

 

وفي وسط بيئة يطبعها الموت والدمار، شدّد البطريرك على أنّ "الكنيسة، نحن، جماعة المؤمنين، مدعوون إلى ’إنجاب الابن الذكر‘، أي غرس بذرة حياة في قلب العالم"، وأن "نواصل مسيرة الإيمان، وأن نتحدّ مع كل من ما زال يمتلك شجاعة السعي إلى الخير، لنُنشئ معًا مساحات للشفاء والحياة".

 

ومع إداركه أنّ "الشرّ سيستمرّ في الظهور والتعبير عن نفسه"، دعا المؤمنين إلى أن يكونوا "الحضور والمكان الذي يعجز التنين عن التغلب عليه: بذرة الحياة". وقال: "سنعيش في البريّة لا في المدينة، ولن نكون مركز الحياة في العالم، ولن نسير وفق منطق الأقوياء".

 

وأوضح: "قد نكون قلّة، لكنّنا سنبقى مختلفين، غير منجرفين مع التيار، وربما لهذا بالذات سنكون حضورًا مقلقًا. سنظل الملجأ الذي يعتني الله به، المكان الذي يحرسه بعنايته، بل نحن مدعوون لأن نصبح ملاذًا لكل من يسعى لحفظ بذرة الحياة بكافة أشكالها".

دم الأبرياء لن يُنسى

 

وأعرب الكاردينال عن إيمانه بأنّ التنين سيهُزم في النهاية.

 

ومع ذلك شدّد غبطته على ضرورة الصبر و"المثابرة" في الوقت الحالي. وقال: "فالدم الذي أريقه هذا الشرّ، ودم جميع الأبرياء الآخرين، ليس فقط هنا في الأرض المقدّسة، وفي غزة، بل في كل أنحاء العالم، لن يُنسى ولن يُهمَل في زاوية من التاريخ".

 

وأضاف بطريرك القدس للاتين في عظته بمناسبة عيد انتقال السيّدة العذراء: "نؤمن أن هذا الدم يجري تحت المذبح، ممتزجًا بدم الحمل، متحّدًا بعمل الفداء الذي نحن جميعًا شركاء فيه. هناك ينبغي أن نقف، فهذا هو مكاننا وملجؤنا في البرية".

حياة تقلب مقاييس العالم

 

وخلص الكاردينال بيتسابالا في عظته مؤكّدًا أنّ "الحياة المسيحية، باختصار، هي حياة تقلب مقاييس العالم رأسًا على عقب". واستذكر في هذا السياق سير العديد من القديسين والقديسات عبر التاريخ، قديمًا وحديثًا، من بينهم القديسة فرانشيسكا الرومانيّة، التي حاول الشيطان جاهدًا أن يُثنيها عن رغبتها في عيش حياة مكرّسة لله، لكنها بقيت أمينة وأتمّت عمل الله في النهاية.

 

وقال: "عندما يتدخّل الله في مسار التاريخ، يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب". وهكذا، أوكل الكاردينال بيتسابالا الجميع إلى العذراء مريم، التي شاركت بشكل كامل، جسدًا ونفسًا، في انتصار السيّد المسيح، "لكي تُولد فيهم بذرة الحياة، عربون الحياة الأبدية التي تنتظرنا".